على الرغم من كون مصطلح هيمنة يستعمل بشكل واسع ، فإن الواقع يبين أن موقع ألمانيا اليوم هو موقع ريادي وليس موقعا هيمنيا : فنحن لسنا إزاء هيمنة تذكر مثلا بالهيمنة النابليونية على أوروبا القارية، ولا بالهيمنة الامريكية على العالم الغربي بعد سنة 1945. من حيث عدد السكان تمثل ألمانياالجديدة 16 / 100 من العدد الاجمالي لسكان أوروبا، ويمثل ناتجها الداخلي الخام 20 / 100من الناتج الداخلي الخام الاوروبي . إن هذا الموقع الوسطي، لنقل بين حجمين، مضافا إليه الموقع الوسطي للبلد، هو ما يصنع خصوصية وجدة (بتشديد الدال فتحها) الأسئلة الاستراتيجية المطروحة على ألمانيا اليوم، «كبيرة جداً بالنسبة لأوروبا ، صغيرة جداً بالنسبة للعالم». بهذه الصيغة كان هنري كيسنجر قد عبر ذات مرة عن الهوية الاستراتيجية للبلد. ويبقى السؤال المطروح هل يمكن اعتبار ألمانيا كبيرة اليوم حتى بالقياس لأوروبا، ليس من الناحية الموضوعية (الوسائل والممكنات الموضوعية)، ولكن حتى من الناحية الذاتية، أي من حيث روح البلد وخياله الاستراتيجي . فخلافا للولايات المتحدة لا يتوفر لهذه القوة الاقتصادية الرئيسية سوى عنصر واحد فقط من عناصر القوة، القوة الاقتصادية. أما على صعيد مكونات القوة الاخرى، العسكرية مثلا، فإنها، ضمن النطاق الأوروبي لا تملك أن تنافس بريطانيا أو فرنسا. وبعد مساهمتها في عملية التدخل في كوسوفو درءا للإبادة الجماعية التي كانت القوات الصربية على وشك القيام بها هناك، (والذي كان ، في نظري واحدا من أعز وأوهج فترات ألمانيا بعد الوحدة). بعد ذلك، وبعد مشاركتها في أفغانستان بجانب حلفائها الغربيين، نراها اليوم تتبنى خطا سلميا لا يتردد البعض ضمن المحللين الاستراتيجيين الغربيين في نعته بالخط السلبي المتساهل . لقد عبر مسؤول ألماني رفيع المستوى عن قناعته بالطابع الجدي والمعقول للجيش الالماني، لكنه، وفي نفس الحديث دافع بقوة عن الرأي القائل بأن معارك القرن الواحد والعشرين ستكون أساسا معارك جيو- اقتصادية . نعم فكما أبرز استطلاع الرأي العام لقناة البي بي سي الذي ألمحنا إليه سابقا يبدو النموذج الألماني مستجيبا تماماً للتوصيف الذي كان قد قدمه الباحث الأمريكي الشهير جوزيف ني Joeeph Nye بخصوص ما أسماه القوة الناعمة Soft Power . ومع ذلك فإن هذه القوة الناعمة لا يمكن مقارنتها، ضمن النطاق الاوروبي مثلا ، بالقوة الثقافية الضاغطة لبلد هاري بوتير، بلد فرقة شكسبير الملكية والبي بي سي والجامعات الناطقة بالانجليزية المستقطبة للطلاب من العالم كله بما في ذلك الطلاب الألمان . القوة الاقتصادية، هنا تكمن القوة الحقيقية لهذا البلد، هنا يكمن الطابع الألماني، القوة الاقتصادية وما يستتبعها من قوة سياسية : ففي كواليس وأروقة بروكسيل، مقر مؤسسات الاتحاد الاوروبي، ترى الكل ينتظر أي موقف ستتخذه ألمانيا وأي طريق ستسلكه . في الماضي كان للأوروبيين موضوع اهتمام واحد، الولاياتالمتحدةالامريكية ، يبدو اليوم أنه صار لهم موضوعان، الولايا ت المتحدةوألمانيا . وحينما نتطلع إلى الأجوبة الألمانية حول الأسئلة الأوروبية ، نجد أن هناك ثلاث قضايا حيوية تفرض نفسها : السياسة الاقتصادية، المؤسسات الاقتصادية الموكول لها إعداد وصياغة تلك السياسة وشرعنتها وأخيرا وليس آخرا مسألة ما يمكن أن نعبر عنه بنوعية «النغمة الشاعرية التي يجب أن ترافق هذا النثر المؤسساتي بما يلهم حماس الأوروبيين ويحفزهم على الإيمان، مجددا بهذا الحلم الذي نسميه أوروبا الموحدة. وحينما تتحدث مع السياسيين والرسميين الألمان عموما، فإن أكثر ما قد يفاجئك هو نقطة الانطلاق في حديثهم، فهذه النقطة في بداية الحديث ليست ألمانيا ولا اليونان ولا إيطاليا. إنها الصين، الصين بالتحديد . وحينما نرى الأرقام نفهم هذا التركيز على الصين، ففي سنة 2012 كانت ألمانيا هي مصدر 46 / 100 من واردات الصين من أوروبا. لقد عولمت بريطانيا قطاعها الخدماتي المالي، لكن ليس هناك قطاع صناعي أوروبي واحد اكثر عولمة اليوم من القطاع الصناعي الألماني، ويطرح المتحدثون الرسميين الألمان على مخاطبيهم باستمرار ان ما يتطلعون الى رؤيته هو ان تصبح بلدان منطقة اليورو قوية قادرة على المنافسة، وتصديرية التوجه تماماً كما هو حال المانيا، آنذاك، وآنذاك فقط يمكننا أن نتحدث عما يسميه الألمان أوروبا ذاتية الدفع Selshauptung selbstbehau europa، أوروبا قادرة على الاعتماد على ذاتها والوقوف بقوة وثبات في عالم لا ينفك يتغير، ومن هنا إلحاحهم الكبير - إلحاح الأساتذة - على المزاوجة بين الإصلاحات البنيوية و سياسات ضريبية مسؤولة في البلدان الاوروبية ذات الاقتصاديات الهشة . ويبقى أكبر انشغال لألمانيا هو فرنسا ، وخاصة مع رئاسة فرانسوا هولاند، ففرنسا هي أهم بلد بالنسبة لأوروبا منذ الخمسينيات، ولكنها البلد المتمنع بصفة دراماتيكية عن الاصلاح، ًكيف يمكن للألمان أن يحافظوا على مستوى ضغط على فرنسا من أجل الاصلاح، ؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي شغل الألمان أثناء الأزمة المالية اعتبارا للمعطيات المالية والاقتصادية في علاقة البلدين داخل النطاق الأوروبي .. أترى، يقول أحد السياسيين الألمان المرموقين لاحد مخاطبيه: « يحصل أن أترك ابنتي تستعمل بطاقة ائتماني البنكية وأراقب معاملاتها من حين لآخر وأسأل نفسي» وماذا لو قامت فتاة فرنسية باستخدام سيئ لبطاقتها ، مثلا في تمويل مشتريات باذخة لملابس دور الخياطة الراقية؟ ثم يضيف في نوع من التأكيد « أن الرسميين الألمان ، في دوائرهم الخاصة يقولون ما معناه أنه يجب علينا أن ندعي وأن نعطي الانطباع أننا نعامل فرنسا كشريك متساو ، أن آخر امل نتعلق به بهذا الخصوص هو أن لا يؤثر التراجع النسبي في القوة الاقتصادية الفرنسية بشكل دراماتيكي على معنوياتهم وعلى شعورهم بالفخر الوطني ولن يجعلهم يحسون بأن شعور الألمان تجاههم هو نوع من الشعور بالشفقة . المشكلة مع الوصفات الألمانية المقدمة لمعالجة أزمة منطقة اليورو أن هذه الوصفات ، إما أنها لا تنتج مفعولاتها وإما لا تنتج هذه المفعولات بالسرعة المطلوبة، وهناك نقطة تستحق أن نتوقف عندها : لقد وصفت ألمانيا بأنها الصين الأوروبية، وبالطبع لا أحد يمكنه أن يشبه الصين شبها تاما، لأنه إذا كان بوسع الاخرين أن يكونوا مثل الصين (بجينات جديدة) فمن يا ترى سيشتري منتوجاتها ؟ وبالمثل تماما إذا كان بوسع الآخرين في منطقة اليورو أن يتحولوا إلى نظراء شبيهين بألمانيا (المانات آخرين) في هذه الحالة ، البعيدة عن احتمال التحقق، فإن ألمانيا ستكف عن أن تكون ألمانيا التي نعرف، خاصة إذا افترضنا ان باقي الأقطار في العالم ستوسع من وارداتها وطلبها بما يمكنها من استيعاب العرض في منتجات منطقة اليورو وقد اصبحت كلها على شاكلة المانيا . يبقى في نهاية المطاف ان ما يهم هو ما هو قابل حقا للتحقق على الأرض . ان التحدي الذي ستواجهه المانيا بعد الانتخابات هو ان تتمكن من صياغة سياسة او خليط من سياسات من شانها ان تجعل من منطقة اليورو ما يود الجميع ان تكون عليه هذه المنطقة : منطقة استثمار ومناصب شغل ونمو مطرد وميل تدريجي الى خفض نفقات تعويضات البطالة ، وارتفاع في المداخيل الضريبية بما يخفض العجز بشكل جدي على المدى البعيد . وستتوقف النتيجة بالطبع على الاتجاهات التي سيعرفها الاقتصاد العالمي ، اتجاهات تبدو- بالكاد- مشجعة في الصين. ان النقاش والمحاججة المرافقة للسياسة الالمانية تشكو من الدوغمائية ، إذ تبدو الشؤون الاقتصادية الالمانية كما لو كانت جزءا من فلسفة الأخلاق ، ان لم نقل جزءا من التيولوجيا البروتستانتية ، لقد صرحت السيدة ميركل ، وهي ابنة قس بروتستانتي من شرق المانيا، لقد صرحت ذات يوم بان على بلدان جنوب اوروبا ذات المديونية المرتفعة ان تكفر عن ذنوب وخطايا اقترفتها! ومع ذلك فان حقيقة سياسة برلين في الواقع اليومي تبدو براغماتية ، ذلك انها خلال الأشهر الاولى من هذه السنة ، سمحت للأبناك التي تراقبها الحكومة بالمساعدة على خلق مناصب الشغل للشباب في جنوب اوروبا . ومن المؤكد ان حظوظ هذه الخطوات من البراجماتية البناءة والتي من شأنها ان تحفز الطلب الداخلي الالماني، ويزداد فيما إذا وصل الاشتراكيون الديمقراطيون الى تسيير دفة المسؤوليات الحكومية ، وربما حتى في اطار تحالف كبير مع أنجيلا ميركل . ولكن اذا كان الزعماء الألمان مستعدين ومهيئين لاتخاذ كل ما يلزم من خطوات، فهل هم قادرون حقاً على استمالة الشعب الالماني الى الوجهة التي سيختارونها؟ ان الألمان منشغلون ومهمومون-وهو شيئ يمكن فهمه - من ان يؤدى عن أخطاء الاخرين من الأوروبيين من ثمرات عملهم المضني ومدخراتهم، انني لم اعد حسب عدد المرات التي يواجه فيها الرسميون الالمان مخاطبيهم الاوروبيين بالقول « حينما يطلب منا الاخرون ان نكون في موقع القيادة، فان ما يقصدونه في الحقيقة هو موقع تقديم الاموال « ،. يتملك الألمان أيضاً خوف خاص من خطر التضخم ، لقد ابرز استطلاع للرأي أجري قبل مدة أنهم يخافون من التضخم أكثر من خوفهم من السرطان ، إنه بكل تأكيد شبح الماضي ، فاالذكريات الأليمة والمفزعة للتضخمين الدراماتيكيين المرتبطتين بالحربين العالميتين الاولى والثانية لازالتا عالقتين بالأذهان . هذا رغم أنه ، وكما أشار المراسل الاقتصادي لصحيفة DIE ZEIT في سياق سجال ساخن عرفه البلد ، يبدو أن الألمان لا يدركون واقع أو حقيقة الخطر سواء عند الإحالة إلى الماضي - إذ كان الانكماش وليس التضخم هو ما حصل في الفترة التي سبقت وصول هتلر للحكم - أو عند الحديث عن المخاطر المرتبطة بالتضخم في المرحلة الراهنة . هناك مؤسستان ألمانيتان كبيرتان ومؤثرتان تضعان قيودا على أية حكومة ألمانية قد تتملكها الرغبة في العمل بصورة إرادوية البنك المركزي الألماني والمحكمة الدستورية العليا : فالبنك المركزي الألماني الذي يبدو متشككا في الحاضر إزاء اليورو بنفس الدرجة التي كان عليها سنة 1989حينما أسر هيلموت كول إلى بيكر بما قاله له في الحوار الذي أوردناه، هذا البنك وضع تحفظاته التي رفعها إلى المؤسسة الثانية القوية في ألمانيا اليوم، أي المحكمة الدستورية . لقد شدد رئيس البوندستاغ (البنك المركزي الألماني) في تحفظاته، وفق ما ذكر أحد الخبراء أن الطريقة التي أنقذ بها السيد دراغي Draghi ،(رئيس البنك المركزي الأوروبي) اليورو، قد تكون مخالفة للاتفاق المنشأ لهذا البنك والضابطة لصلاحيات رئيسه . وليست هذه هي المرة الأولى التي يقبض فيها الزعماء الأوروبيون في منطقة اليورو أنفاسهم انتظارا لقرار المحكمة الدستورية الألمانية. وها نحن نرجع مجددا لسؤال ألماني آخر، سؤال 1945، فلضمان عدم وصول أي هتلر آخر إلى الحكم في المستقبل، كان على الجمهورية الفدرالية، وكان على مهندسي ألمانيا ما بعد الحرب أن لا يكتفوا بوضع بنيان لا مركزي إلى أقصى الحدود الممكنة، بل كان عليهم، علاوة على ذلك أن يوفروا ترسانة قوية ومتعددة من السلطات والسلطات المضادة على شاكلة Cheks and balance، ومن بين أهم هذه السلطات محكمة دستورية قوية وذات صلاحيات واسعة. وهكذا فإن المفارقة اليوم أن البلد الذي يطلب منه أن يتولى القيادة التنفيذية الحاسمة هو بلد يجعل نظامه السياسي والمؤسساتي من إمكانية وجود جهاز تنفيذي قوي أمرا في غاية الصعوبة. وإذا كان على ألمانيا أن تخطط للقيام بما يلزم بمعية شركائها في منطقة اليورو ، فإن الاتحاد الاوروبي سيحتاج إلى هندسة جديدة للمؤسسات بصفة مستعجلة لمراقبة موازنات البلدان الأعضاء في المنطقة، وبصورة أشمل مراجعة البنية الشاملة للوحدة . تعد برلين اليوم ورش بناء مفتوح، وأستطيع من نافذتي أن أرى الرافعات الضخمة وآليات حفر نفق غير بعيد عن أونتر دير ليندين، وينتصب الحجر الأساس لما يخطط له أن يكون إعادة بناء القصر الملكي البروسي الذي كان قد حطمه شيوعيو ألمانيا الشرقية سابقا بعد الحرب العالمية الثانية. وبرلين هي اليوم كذلك ورش ثقافي مفتوح. لقد سلمني أحد الأصدقاء بطاقة كارت بريدي كتب عليها «الجمهورية الاوروبية في طور البناء»، وقد دعت وثيقة نقاش داخلية للحزب الاشتراكي الديمقراطي إلى ما اسمته «أوروبا أخرى جديدة». هل ستصبح هذه الجمهورية الأوروبية بمثابة الجمهورية الفدرالية لأوروبا ؟ مثل باقي البلدان الاوروبية ينطلق التفكير دائماً في ألمانيا من معطيات وتأثيرات التقاليد الدستورية الخاصة ، تماماً كما يفعل الفرنسيون حينما يفكرون في أوروبا انطلاقا من منظورهم لجمهورية مركزية يعقوبية أو كما يفعل البريطانيون حينما يفكرون في الوحدة على شاكلة كومنولث Commonwealth مفتوح . إن مفهوم الفدرالية في الفهم الألماني قد يعني إرجاع السلطة باتجاه الدول القومية وما تحتها من مستويات مجالية. ويرحب كل المتشككين في البناء الأوروبي على صورته الحالية - وليس الإنجليز فقط - بهذا التفسير لمفهوم الفدرالية، لكن النقاش الألماني في الواقع هو أوسع من ذلك بكثير. ويبدو أن السيدة ميركل نفسها تتردد بين إعطاء دور أكبر للبرلمان الاوروبي المنتخب بطريقة مباشرة وبين تفعيل اتفاقيات براغماتية بين -حكومية مثل تلك التي تمت في السنة الماضية في إطار اتفاق حول السياسة الضريبية على مستوى منطقة اليورو. ومع تزايد التأكيد في كل النقاشات داخل الدوائر الألمانية حول أهمية السيادة الوطنية الديمقراطية ، وهي دعاوى تدعمها أحكام المحكمة الدستورية العليا تتصاعد الأصوات المطالبة بأن يكون للبرلمانات الوطنية صوتها المسموع بصورة زكثر وضوحا ومباشرة في بروكسل . وهكذا، فإن الألمان، ككل الآخرين، يجدون أنفسهم، ثقافيا، موزعين بين ثلاثة أصناف من المشروعيات : المشروعية العبر - وطنية Transnational، من خلال اللجنة الاوروبية المراقبة من طرف برلمان أوروبي منتخب بطريقة مباشرة . المشروعية البين - حكومية، عبر مجالس الاتحاد الاوروبي التي يلتقي فيها ممثلو حكومات وطنية تحظى بالسند الديمقراطي الشعبي في بلدانها . ومستوى التدخل المباشر للبرلمانات الوطنية . ومهما يكن من نتائج المفاوضات الجارية في معامل ومختبرات القرارات المعقدة و الوعرة في بروكسل فليس محتملا ، بالنسبة للسنوات القادمة، أن تكون الأمور بذلك البياض الناصع الذي يحلم به البعض. لن يكون المنتوج مصنوعا فقط في ألمانيا. سيكون البناء أقل شبها بالجمهورية الفدرالية الاوروبية وأكثر من جمهورية على شاكلة الكومنولث. وفيما تمضي المفاوضات حول القضايا الاقتصادية والمؤسساتية بشكل بطيء وتغرق في الجزئيات والتفاصيل يتحرق الأوروبيون شوقا ولهفة إلى طوبى جديدة، إنهم يتطلعون إلى أهداف متجددة وآمل جديد، ووجهة قيادة جديدة، وبروفيلات زعامات جديدة، لقد قدم مستشار ألماني سابق مثل هذا الأمل ملفوفا في سياسة الانفتاح على الشرق Ostpolitik ... وصرح ذات يوم بأن على الألمان أن يكونوا أمة الجيران الطيبين، في الداخل والخارج . وكما لاحظ كاتب سيرة حياة ميركل ستيفن كورنليو، فإن لهذه المرأة خصال ومميزات متعددة، لكن من المؤكد أنه لن يكون من بينها فن الخطابة، ولا ينطبق هذا في الحقيقة على ميركل وحدها، فكل عناصر الطبقة السياسية الألمانية تستعمل خطابا أشبه ما يكون باللغة القانونية الجافة وبجمل معلبة. ونستطيع القول بهذا الخصوص أنه قد يسهل على السياسيين الألمان الطيران إلى القمر دون مساعدة على النطق بجمل محركة للمشاعر. والسبب أن اللغة الألمانية تخفي عددا من الأغوال (جمع غول) . لقد لاحظ السيد جوشكا فيشر وزير الخارجية الأسبق أنه قد يسهل عليك النطق بجملة تقول « مؤتمر الزعماء « لكن ماذا لو قلت « الفوهرر الشباب « Young Fuhrer؟ أية إيحاءات قد تحملها العبارة؟ إن معجم اللغة السجالية السياسية ضيق جداً ولذلك تجد الناس يفضلون استعمال كلمة Leadership في الإحالة على الزعامة . . لقد كان من من نتائج المرحلة ألهت لرئة أن أضحى معجم لغة السجال السياسي ضيقا، حذرا ، ومملا ، ثم هناك اعتبار آخر ، فمنذ زمن بعيد فضلت العديد من الكفاءات في ألمانيا الانصراف الى عالم الاعمال أو الدراسة قصد العمل ، ويمكنك اليوم أن تشكل حكومات بكاملها من الكفاءات الطلابية التي تتابع دراستها في جامعة أوكسفورد . وبينما تعولمت أوساط الاعمال الالمانية بشكل واسع خلال الربع قرن الأخير ، بوجود شركات تعقد لقاءاتها باللغة الانجليزية، ومسيرين يشعرون وهم ينتقلون للعمل في شانغهاي او ساو باولو كما لو انهم في شتوتغارت فان الطبقة السياسية أضحت اكثر محلية مما كانت عليه في السابق . ومرة أخرى فإن هذه الروح المحلية تجد جذورها في الإجابات التي قدمت حول أسئلة ألمانية سابقة: ذلك انه منذ أن تم بناء النظام السياسي بشكل لا مركزي فإن السياسيين الألمان جعلوا تفكيرهم وممارساتهم السياسية محصورة اساسا في مستوى اللاندر، مستوى الدول الفدرالية. ومع ذلك يبقى السؤال: الم يطور فيلي براندت وهيلموت شميدت وبعدهما هيلموت كول مسارهم السياسي ضمن نفس الإطارات المجالية، إطارات اللاندر ؟ والجواب : نعم، ولكن على عكس السياسيين الحاليين المحترفين أنجز أولئك الزعماء أعمالا أخرى وسلكوا مسالك أخرى قبل تحولهم إلى سياسيين كبارا، ثم إن مسارهم طبعته وصاغت مرتكزاته تجربة حربين عالميتين، الحرب العالمية الثانية (التي كان خلالها هلموت شميدت في الجندية وهيلموت كول يافعا يتابع مجريات الحرب) ثم الحرب الباردة بعد ذلك . وبما أنه كان يتعين البحث عن أجوبة للسؤال الألماني بعد الحرب العالمية الثانية في موسكو وواشنطن ولندن وباريس، فإنه كان على جيل الزعماء الألمان لفترة ما قبل الوحدة أن يكون جيل زعماء عالميين، برؤية شمولية. والمفارقة إذن أنه فيما تصاعدت القوة الألمانية وما يرافقها من نفوذ عالمي، غرقت الطبقة السياسية الألمانية في النزعة المحلية. من سيتكلم من أجل أوروبا داخل ألمانيا إذن ؟ ابتداء من 23 شتمبر2013، أي بعد الانتخابات التشريعية مباشرة، سيطرح على البلد التفكير في المعالجة الحاسمة للمشاكل الأوروبية، لكن ألمانيا هاته ليست، لا موضوعيا ولا ذاتيا من القوة الكافية التي تجعلها تتولى إنجاز المهمة بمفردها. قد تكون جمهورية برلين في أحسن الحالات القوة الأولى ضمن أعضاء متساوين، وهذا ما سيطرح على أجندة الزعامة المقبلة أن تتوفر على قدر كبير من الاستعداد للعمل الجماعي والتعاون، وأن تكون حذرة وأن تحرص على تطوير علاقاتها مع الدول الكبيرة والصغيرة في أوروبا على حد سواء . وفي الحقيقة، فرن هذا ما ميز التقليد الذي صارعليه خط السياسة الخارجية للجمهورية الفدرالية الألمانية. وزعماء البلد يدركون هذه الحقيقة بالطبع . إن المانيا في حاجة إلى كل الدعم الذي يمكن أن تناله من أصدقائها. وحدها الروح الجماعية يمكنها اليوم، في مستوى الاتحاد الاوروبي، أن تلهم صياغة سياسات وإقامة مؤسسات واثقة، وأكثر من هذا، وقبل هذا، أن تعمل على توفير نثر شاعري جديد وأمل متجدد يجعل السفينة الأوروبية تبحر من جديد. وبهذا المعنى فإن السؤال الألماني الكبير لن يجيب عنه الألمان وحدهم . تيموثي كارتون أش. The New York Review Of books August 2013 يتبع