كيفما كانت نتائج الانتخابات التشريعية ليوم 22 شتمبر الحالي في ألمانياوسواءاعادت نتائجها المستشارة الالمانية الحالية أنجيلا ميركل الى رئاسة الحكومة كما تتوقع اغلب استطلاعات الراي او فرضت صناديق الاقتراع صيغة ما مما لأصبح يدعي في اللغة الإعلامية بالتحالف الكبير اي تحالف يضم حزب ميركل والحزب الاشتراكي الديمقراطي كما يتوقع او يتمنى العديد من المتتبعين لتطورات وتفاعلات الساحة السياسية الالمانية اعتبارا لما هو متوقع من تقارب في النتائج ، فان المانيا ستعزز رصيدها السياسي والاستراتيجي كأقوى بلد أوروبي وكبلد فرضت عليه تطورات الأوضاع بعد استعادة وحدته ان يصبح ، بحكم قوته الاقتصادية والمالية والتجارية البلد الذي تتجه اليه كل الأنظار سواء ضمن منطقة اليورو أوخارجها حينما يتعلق الامر بالقرارات والتوجهات الحاسمة. لم تعد المانيا تثير تلك المخاوف السابقة الموروثة عن مرحلة الحربين ، لقد اصبحت اليوم نموذجا للتطور السياسي الديمقراطي ، ويصر البلد رغم نداءات وغازات من هنا وهناك من قبل حلفائه ان يبقى بعيدا عن التدخل في قضايا ونزاعات العالم الساخنة . مفضلا وضعيته كقوة مدنية تستمد أشعاعها وبريقها الدولي مما تنتجه معاملها وشركاتها العملاقة من منتوجات يقر الجميع بجودتها ويقبل عليها بلهف كبير اليوم الصينيون من الطبقات الوسطى الصاعدة. وهكذا مثلا بينما كان الأمريكيون والبريطانيون والفرنسيون منشغلين حد الاستغراق في الأزمة السورية والأسلحة الكيماوية كان النقاش في الشارع الالماني يدور حول مشروع تسعى بعض المنظمات البيئية الى اعتماده يقضي بعدم تداول وجبات اللحم مرتين في الاسبوع على الاقل في المدارس الالمانية ، ما علق عليه احد المحللين السياسيين في صحيفة الفاينانشال تايمز بعنوان كبير لإحدى مقالاته يقول " المانيا ، أمة نباتية في عالم مليء بأكلة اللحوم " Germany a nation of vegetarians in a world full of carnivor. بين الرغبة في دفع البلد الى الالتزام اكثر في مجريات الصراع الدولي ومساهمته في تحمل أعباء ما يعتبره حلفائه صناعة الاستقرار العالمي ، وبين ما يأخذ عليه من العمل على فرض رؤاه وتوجهاته في إدارة شؤون البناء الاوروبي كما جرى مثلا خلال الازمة المالية لمنطقة اليرو ،وراي عام داخلي ميال الى الاكتفاء بما توفره عناصر القوة المدنية من وضع يرتضيه الجميع داخل المانيا بغض النظرعن اختلاف العائلات السياسية ، بين ذاك وهذا وذاك ، يتحدد الدور والموقع الاستراتيجي المستقبلي لهذا البلد الاوروبي الذي يعتبر اليوم ثاني قوة تصديرية في العالم والذي بلغ حجم فائضه التجاري مع بلدان الاتحاد الاوروبي في ظرف اثنتي عشرة سنة فقط 1تريليون دولار ، أنجيلا ميركل صرحت في ابراز بعض عناصر مشكلة الموقع او الدور الالماني في صيغة مكثفة " انهم ينتقدوننا اذا لم نتول القيادة وينتقدوننااذا عبرنا عن عدم رغبة او استعداد للقيادة "! المقال الذي نترجمه لتيموثي أش Thimothy Garton ash استاذ العلوم السياسية وكاتب افتتاحيات في كبريات الصحف العالمية الناطقة بالانجليزية بدءا ب الفاينانشال تايمزصدر ضمن صفحات مراجعة الكتب في صحيفة النيو يورك تايمز في 15شهر غشت الماضي في اطار مواكبة أطوار الحملة الانتخابية في المانيا يسلط الأضواء على بعض من الأسئلة الاستراتيجية الكبرى التي يثيرها تطور هذا البد أوروبيا وعالميا ، كما يحلل بدقة تطورات الأفكار والمواقف والمزاج العام في هذا البلد الرائد. هناك مسالة ألمانية جديدة اليوم، اطرحها كما يلي :هل بإمكان أقوى دولة في اوروبا ان تتزعم - بصفة متوازية - الطريق نحو بناء منطقة اليورو، تكون قوية وذات تنافسية عالية ، وفي نفس الوقت قيادة وحدة أوروبية ذات مصداقيةان الصعوبات التي يلاقيها البلد في الاجابة المقنعة عن هذا التحدي هي نتاج للأسئلة السابقة التي طرحت على المانيا في السابق والطريقة التي أجابت بها عن هذه الأسئلة . ان إجابات الأمس تلقي أضواء كاشفة على ما يجوز تسميته با المسالة الالمانية اليوم the Germaan question . وقبل الخوض في هذه الروابط التاريخية لنقم اولا بإبراز ما يحدد جدة ( بتشديد الدال وفتحها) المسالة الالمانية اليوم : فبعد ثلاثة وثلاثين عاما من استكمال وحدة الجمهورية الفدرالية الالمانية أضحى هذا البلد نموذجا للدولة الليبرالية الاجتماعية،نموذج يقل نظيره في العالم . لم يقتصر الإنجاز الكبير الذي حققه هذا البلد على الاستيعاب الناضج للتكاليف الضخمة للوحدة ، لقد انجز كذلك ومنذ سنة 2003 إصلاحات اقتصادية حاسمة ، مخفضا من تكلفات العمل ( الأجور ) بتوافق بين الفرقاء الاجتماعيين و مستعيدا تنافسيته العالمية الشاملة . ان هذا البلد هو بلد متحضر ، حر، مزدهر، معتدل ، يحترم فيه القانون ومجموع خصاله تنتمي الى ما يمكن دعوته ب " عفوية الجودة " . في معرض إجابتها عن سؤال ليومية بيل زيتونغ بخصوص نوعية الأحاسيس التي يوقظها فيها ذكر اسم بلدها ،ردت أنجيلا ميركل، المستشارة الالمانية ذات يوم ، بنوع من الإيحاء المعبر : انها النوافذ الجميلة في هذا البلد المحكمة الانسداد ، ليس هناك بلد بإمكانه صناعة تلك النوا فذ . تذكرت كلام ميركل وانا افتح نافذة غرفتي في الفندق الذي أقمت فيه ببرلين مركزا نظري عبر شارع أونتر دير ليندن unter der linden على القبة المضاءة لمبنى الرايشتاغ ( البرلمان الالماني) و ذلك في القلب من مدينة هي اليوم ، بعد لندن ، اكثر المدن الاوروبية حيوية وجاذبية وعنفوانا . كان اليساري الفرنسي لوك ميلنشون قبل مدة قد اثار زوبعة إعلامية حينما صرح قائلا بانه" من بين كل يمتلك الشعور بمتعة الحياة لا احد يمكنه ان يختار او يفضل ان يكون المانيا" !! . ليس من شك في هذه الحالة ان الذين لا يملكون ذلك الشعور سيشكلون عددا ضخما من الناس لا مجال ممكنا لاحصائه ، فوفق استطلاع للراي أجرته قناة BBC شمل عينات تمثيلية في 35 بلدا في العالم ، تبين ان المانيا اليوم هي اكبر بلدان العالم شعبية حيث تتجاوز فرنسا بلد ميلنشون بعشر نقط كاملة . لهذا البلد نقاط ضعفه ومشاكله بالطبع ( من هو هذا البلد الذي ليست له مشاكل ؟) فالمانيا تشكو من ضعف الخصوبة السكانية ،ومن نسب شيخوخة مرتفعة ، إذ حسب بعض التوقعات الديموغرافية يمكن ان يجد البلد نفسه في افق 2030 في وضعية معدل شخص نشيط في مقابل شخص يعيش على المعاش . واذا لم يقع تشجيع الهجرة بشكل دال فان عدد السكان قد ينخفض سنة 2050 مما يفوق 80 مليون حاليا الى اقل من 60 مليونا . ومعنى هذا ان الهجرة ستكون احدى الوسائل الاساسية لمواجهة التحدي الديموغرافي الذي يواجهه البلد . لكن المانيا تصنف اليوم وراء فرنسا وبريطانيا ( دون ان نذكر كندا والولاياتالمتحدة ) فيما يتعلق بنوعية الإشارات الاجتماعية والثقافية التي ترسلها باتجاه ذوي الأصول الاجنبية ، المقيمين بها, اي الاشارات التي قد تجعلهم يتماهون مع وطنهم الجديد. على صعيد اخر فان المانيا ، باتخاذها ذلك القرار السياسي، الذي يبدو لا عقلانيا في مضمونه، والقاضي بالتخلي عن برنامج الطاقة النووية ، بعد كارثة فوكوشيما في اليابان ،ما ادى الى اعتماد متزايد على الفحم والغاز ، فإنها تسببت في الرفع من تكاليف الطاقة الصناعية بما يفوق المعدل الفرنسي ب 40/100 . ان الاقتصاد الالماني قوي جداً حينما يتعلق الامر بصناعة المنتوجات المرغوب فيها في مختلف البلدان بما فيها الصين : السيارات ، الآلات بمختلف أشكالها وأحجامها ،المصنوعات الكيميائية ، ولكنه ضعيف في جانب الخدمات . ان الشركات الالمانية قوية جداً في كل مناحي التجديد التكنولوجي ولكنها اقل قوة وبريقا في صنف التجديد والابتكار التي نصادفها مثلا في منطقة السيليكون فالي Sillicon Valley في الولاياتالمتحدة ، ثم ان هذا البلد الذي كان سباقا الى ادخال منظومة البحث العلمي الجامعي مبكرا منذ القرن التاسع عشر والذي توجد به جامعات عريقة، لا يتوفر اليوم على جامعة بإمكانها ان تنافس جامعة أوكسفورد او جامعة ستانفورد على سبيل المثال . لازالت برلين تحتضن مقهى أينشتاين الرائع ، لكن ومنذ الثلاثينيات ، فان العلماء العالميين من عيار أنشتاين صاروا ميالين ،فيما يظهر، الي الذهاب نحو وجهات اخرى للعمل . واذا قدر لنقاط الضعف تلك ان تنتج تراجعا في القوة الاقتصادية فان المسالة الالمانية يمكن ان تعاود البروز من جديد: ذلك ان الاستقرار الليبرالي والهوية القومية في هذا البلد، مرتبطان اشد الارتباط بالنجاح الاقتصادي ، ولا يمكن ان نستبعد في حالة ظهور او تبلور مصاعب جدية وعوامل تحد من هذا النجاح ، ان ينتعش من جديد التشاؤم التاريخي والتطرف السياسي ، وما دعاه بطل التنس بوريس بيكر ذات يوم نزوع الألمان الى تقليب رؤوسهم ،والحقيقة اننا صرنا نصادف هذا السلوك الذي نبه بوريس بيكر من مخاطره ، اكثر فاكثر ، وبصفة هستيرية في الولاياتالمتحدة اكثر مما نعثر عليه في المانيا وبالتالي فان احتمال بزوغ قضية اسمها القضية الالمانية غير وارد إطلاقا. في مجال التنافس حول الاعمال والأنشطة تبدو الشركات الالمانية اليوم على نفس الدرجة من القوة والتنظيم التي كانت عليها الفيالق زمن الحرب ، وهي شركات مدعمة من طرف الحكومات المتعاقبة ، اما على المستوى الجيو سياسي فان المانيا هاته لا تظهر إطلاقا أية طموحات للهيمنة على جيرانها أوعلى اي طرف اخر، وواضح اليوم ان " المكان تحت الشمس" الوحيد الذي يتطلع اليه مواطنوها هو مكان على شواطئ البحر الابيض المتوسط لقضاء العطل ، كما ان مجال الانتصار الوحيد الذي يود هذا البلد الاحتفاء به هو الانتصار في ملاعب كرة القدم ، لعبة برع فيها الألمان لدرجة ان نهايات كؤوس أوروبية مشهورة صارت تجمع فرقا ألمانية تتبارى مع بعضها كما حدث هذه السنة بملعب ويمبلي في لندن بين فريقي بايرن ميونخ وبروسيا دورتموند. خلال فترة استكمال الوحدة الاوروبية كان قد تم التعبير عن مخاوف من ان تهيمن المانيا على وسط اوروبا وان تشكل من جديد مركز قوة فيما عرف في اللغة الاستراتيجية بالميتل-اوروبا،mitteleuropa غير ان الامور اتخذت منحى هادئاتماما ،فعلى المستوى الاقتصادي تتمتع المانيا اليوم بمركز الصدارة في وسط اوروبا ، لقد قامت بعض الشركات الالمانية العملاقة مثل فولسفاكن بنقل اجزاء مهمة من سلاسل إنتاجها الى شرق اوروبا للاستفادة من يد عاملة رخيصة ومدربة، واذا أخذنا بلدان الفيسكراد مجتمعة ( بولونيا ، هنغاريا ، جمهورية التشيك وسلوفاكيا ، فإننا نرى كيف انها اصبحت تشكل الشريك التجاري الاول لألمانيا ، غير ان هذه المنطقة من من وسط اوروبا ، هذه الميتل-اوروبا ، تشكلت بالتوافق والتراضي ، ويتم النظر اليها اليوم من طرف شعوب المنطقة كلها ، سلافيون' وماكيار' وجرمان على انها تخدم رخاء الجميع ، ويكفي ان نشير الى ان العلاقات الالمانية البولونية وصلت الى مستوى من التحسن والجودة لم تعرف مثيلا له خلال الألف سنة من التاريخ المشترك ، وتعتبر بولونيا اليوم اكبر بلد صديق لألمانيا داخل بلدان الاتحاد الاوروبي ، إذ سبق لوزير خارجية بولونيا Radek Sikodsky ان صرح، في جملة اصبحت مشهورة ، قائلا "ان خوفي من القوة الالمانية اليوم هو اقل بكثير من خوفي من قلة حركيتها وسلبيتها" ولفهم هذا التردد الالماني في ممارسة القيادة علينا ان نتذكر ، للتاريخ، ان الوحدة الالمانية المستعادة لم تكن مشروعا المانيا للهيمنة على اوروبا ، ولكنها كانت بالأحرى مشروعا أوروبيا لاحتواء المانيا. وحول السؤال الذي طرح سنة 1989" ما الذي يتعين فعله إزاء وحدة ألمانية تتحقق بسرعة مذهلة؟، كان كل من،فرانسوا ميتران في فرنساوجوليو اندريوتي في ايطاليا قد اجابا بما يفيد ان المطروح في الأجندة السياسية كان هو العمل من اجل الربط الوثيق والنهائي لالمانيا بأوروبا الموحدة عبر الوحدة النقدية . صحيح ان خطط الوحدة النقدية ، بهدف استكمال بناء السوق الموحدة كانت موجودة ، وكان المستشار الالماني هيلموت كول متفقا من حيث المبدا على هذا المشروع ، لكن الأجندة الزمنية لهذه الوحدة التي تم أعدادها والاتفاق عليها ، وبعضا من ملامح هندستها آنذاك كانت نتيجة مباشرة للحسابات السياسية التي أحاطت بمسلسل الوحدة الالمانية . لقد رأينا بعضا من ذلك في حينه،لكن الوقوف على فصول الحكاية كلها اصبح متاحا اليوم إذ يمكن متابعة هذه الفصول من خلال الوثائق الالمانية والبريطانية والفرنسية والأمريكية المنشورة ، ولكي نعطي مثالا واحدا فقط ، دعونا نتوقف عند تسجيل يعود الى سنة 1989 ، يعرض لحوار جرى بين هلموت كول وجيمس بيكر وزير الخارجية الامريكية الأسبق ، يشرح خلاله هيلموت كول لضيفه المحاولات التي قامت بها المانيا من اجل احتواء المخاوف الاوروبية حيال وحدتها.: يسال هيلموت كول وكانه يكلم نفسه، " ما الذي يمكن ان نفعله اكثر مما فعلنا ، لقد ساهمنا بشكل فعال في بناء الوحدة الاقتصادية والنقدية ، لقد اتخذنا قرار الانضمام الى الوحدة النقدية ضدا على المصالح الالمانية ذاتها ، فعلى سبيل لم يكن رئيس البوندسبانك (البنك المركزي الالماني) متحمسا للموضوع ، لكننا مضينا قدما في تنفيذ المشروع ، وكان تقديرنا ان الخطوة قد تكون مهمة من الناحية السياسية لان المانيا كانت في حاجة الى أصدقاء ولم يكن مقبولا او مستحبا بالمرة ان تثار أية مشاعر خوف او قلق بخصوص ذلك الموضوع ". لقد حاجج كول بقوة ونبه وعبر عن قناعته بدون هوادة بان الوحدة النقدية ستتطلب وحدة ضرييبية، وحتى سياسية لتجسيدها، ولم يكن بمقدور ميتران او اندريوتي القول بإمكانية تحقيق ذلك في أمد قريب. وهكذا فان الفكرة الاصلية التي حركتهم كانت ان عليهم ان يتحكموا شيئا ما في الشان المالي الالماني بدل ان تتحكم المانيا في شانهم الموازناتي ، ومن هنا فان جزءا من المشاكل المرتبطة بعجوزات الأداء defaults التي تتخبط فيها منطقة اليورو اليوم هي في العمق مشاكل ناتجة عن وجود وحدة نقدية بدون تنسيق متبادل في مجالات حيوية كالميزانيات والديون والأبناك،. ان جزءا من تلك المشاكل تجد جذورها في المناخ السياسي والحسابات السياسية التي أحاطت بتكوين هذه الوحدة النقدية . لم يسال الألمان بواسطة استفتاء فيما اذا كانوا يرغبون في التخلي عن عملتهم " الدوتش مارك" علما بان هذه العملة شكلت في المخيال الجماعي للألمان بعد الحرب ما تشكله مثلا الملكة والملكية في المخيال الجماعي للبريطانيين ،ولو كانوا استفتوا في الموضوع فان الاحتمال الاكبر انهم كانوا سيرفضون التخلي عن عملتهم لصالح اليورو، ، لكن رجل المانيا القوي آنذاك هيلموت كول مضى قدما الى الامام وتم الانضمام لمنطقة اليورو . وخلال العقد الاول من اعتماد هذه العملة تعامل الألمان معهابهدوء ولكنهم لم يبدوا اي استعداد لتعلم كيف يحبونها او يتعلقون بها ، وهذا في الوقت الذي كانت كل الأصابع في اوروبا تشير الى ألمانيا، بما يفهم منه انها المستفيد الاول والأكبر من اقامة منطقة اليورو ، باعتبار انها خلقت الشروط المثلى لزيادة الصادرات الالمانية سواء داخل اوروبا او خارجها ، فوفقا لإحدى الإحصائيات يتبين ان فائض الميزان التجاري الالماني مع بقية بلدان الاتحاد الاوروبي بين سنة 1999 و 2011وصل الى أزيد من 1تريليون دولار . بعدها جاءت ساعة الحساب ، فبعد عاصفة الأزمة المالية لسنة 2008 التي ضاعفت من مفعولها هستيريا الاسواق ، تبدت بوضوح وعلى العلن أزمة هذه العملة ( اليورو) ، لقد غدا من الضروري حل هذه المعضلة الاوروبية لان المسالة أضحت مسالة اقتصادية بامتياز ، او لنقل للتدقيق اكثر أضحت مسالة اقتصاد سياسي ، وهكذا فان كل الأنظار اتجهت الى القوة الاقتصادية الاوروبية الرائدة بدون منازع، اي الى المانيا التي وجدت نفسها في موقع القيادة بفضل نجاحها وديناميتها الاقتصادية ، التي عززتها إصلاحات ما بعد 2003، وبفضل اليورو كذلك ، إذ لا يمكن إغفال دور هذا العامل . لم تسع المانيا لهذا الدور الريادي في اوروبا ، فبعد 1989 كان يكفي الألمان ذلك الفرح بعودة وحدة البلد في مناخ من الغنى والحرية ، كان يكفيهم ذلك الشعور بانهم يتحولون الى نوع من " سويسرا كبيرة " . كان يكفيهم توفر بلدهم على قدرة تصديرية هائلة ، كان يكفيهم التفكير في برمجة عطل سعيدة على شواطئ المتوسط ، لكن الذي حصل ان الوحدة النقدية التي خطط لها ميتران، لتبقي على فرنسا في موقع السائق وألمانيا في موقع الراكب المسافر أفضت الى وضعية معاكسة لذلك تماماً ، فلقد وضعت الوحدة النقدية المانيا في مركز القيادة بشكل غير مسبوق ، وفجأة وجد الألمان انفسهم يتحملون أعباء اداءات لإنقاذ اقتصاديات شركائهم ( ما يسمى بعمليات Bail out) ووجدت الحكومة الالمانية نفسها في وضعية من يقترح على اوروبا الجنوبية ما الذي يتعين فعله للخروج من الأزمة ، طارحة عليهم العلاج والدواء " خفظوا من حجم موازنا تكم ' أنجزوا الإصلاحات البنيوية ، وحاولوا ما امكن ان تتبعوا نموذجنا " وبدون نية او قصد او تخطيط وجدت المانيا نفسها في وضعية كان بسمارك في خطاب شهير له في الرايشتاغ سنة 1878 قد حذر الألمان منه ، وضع تصبح فيه المانيا معلمة ( بكسر اللام وتشديدها) للآخرين . نتذكر أصوات أولئك المتظاهرين القبارصة وهم يحملون لافتات كتب عليها " ميركل هتلر"!! نتذكر كذلك اتهام اليونانيين للألمان بانهم يتصرفون بصورة هيمنية في الشان الاوروبي . وفي استطلاع هاريس للراي العام انجز مؤخرا , في ماي 2013 تبين ان 88/100من المستجوبين الإسبان و82/100 من الإيطاليين و 56/100 من الفرنسيين اكدوا ان التأثير الالماني في اوروبا كبير بأكثر مما يلزم . وربما ذلك هو ما جعل السيدة ميركل تصرح يوما ، وبنوع من المرارة " اننا منتقدون اذا لم نتول القيادة ومنتقددون اذا قمنا بذلك " . من المؤكد ان الطابع البراغماتي ومقاربة الخطوة خطوة التي تعتمدها السيدة ميركل يعكسان أسلوبها الشخصي ، لكن واحدا من الأسباب الاساسيةالتي صنعت شعبيتها الهائلة خلال السنوات الاخيرة هو انها لم تغامر ولم تقم بأكثر مما هو مطلوب لا يمكن تأجيله او تلافيه، عند كل مرحلة من مراحل أزمة اليورو . والحقيقة ان هذا المسلك كان يحمل في الحقيقة بصمات سلوك أمة بكاملها ، سلوك الأحجام عن اتخاذ قرارات متسرعة ، والقرار الحاسم الوحيد داخل منطقة اليورو ، لم يكن قرارا المانيا ، بل كان قرار رئيس البنك المركزي الاوروبي ماريو دراغي ، وهو إيطالي الجنسية ، الذي كان قد صرح في يوليوز 2012 ان البنك سيتخذ كل الإجراءات الممكنة للحفاظ على منطقة اليورو . ونتيجة لذلك حافظت منطقة اليورو على وجودها ، وجود بدون ازدهار ، خاصة في البلدان المرتفعة المديونية في الجنوب ، ففي اسبانيا مثلا تتجاوز نسبة البطالة في صفوف الشباب 50/100 اليوم . والآن فإننا نقترب من لحظة الحقيقة في مجموع الاتحاد الاوروبي ، ففي كل القارة شمالها والجنوب انحدر مستوى الثقة في مستقبل البناء الاوروبي وارتفعت أصوات الاحتجاج داخل الاحزاب السياسية وبين الانتخابات التشريعية ليوم 22شتمبر وانتخابات البرلمان الاوروبي التي ستبتدا في 2ماي 2014 هناك فاصل زمني لا يتجاوز 8اشهر يتوجب خلالها إقناع المتشككين بان الاحزاب السياسية الاوروبية وزعمائها قد بداوا يرون ضوء نهاية النفق والا فإننا سنكون إزاء برلمان أوروبي جامد او مجمد. وفي هذه الحالة يمكن لحالة التوتر او الحنق ان يصلا الى درجة كبيرة ما عدا اذا تبينت لشعوب المنطقة نقطة ضوء في هذا النفق الذي يراه الكثير الان نفقا مفروضا من طرف الألمان . لقد لاحظ السيد كييدو ووسترويل عن صواب كيف ان هذه المرحلة هي مرحلة مؤسسة ، ومرحلة تكوين على ثلاثة مستويات على الاقل : مستوى مصداقية مصداقية الاتحاد الاوروبي إزاء مواطنيه ، ومستوى موقع اوروبا في العالم ومستوى الطريقة التي ترى بها اوروبا ويرى بها العالم المانيا اليوم . وتتصادفهذه المستويات الثلاث مع مرور قرن على بداية الحرب العالمية الاولى سنة 1914. بعد إنجاز الوحدة الالمانية بوقت قصير صرح السيد فريتز ستيرن في صيغة لا تنسى بان لهذا البلد فرصة ثانية second chance. لقد كان لهذه القوة الوسط أوروبية حظها الاول كما لاحظ رايمون أرون واسر بذلك يوما لستيرن ولكنها أضاعت الفرصة في حربين مدمرتين ، والآن تنتصب فرصة أجرى لالمانيا من جديد. ويمكن اليوم ، بهذا التباعد الزمني الذي يصل الى ربع قرن ان نؤكد ان المانيا استخدمت فرصتها الثانية على المستوى الداخلي بشكل جيد . اننا اليوم بصدد المانيا أوروبية بشكل كان يمكن لتوماس مان ان يفتخر به لو رآه .اما بخصوص دور المانيا في صياغة نظام أوروبي جديد و معالجة القضايا الاوروبية التي بقيت معلقة منذ زمن الوحدة ، فان اختبار كيف ستستخدم المانيا فرصتها الثانية تبدأ في الحقيقة الان فقط . يتبع