قال ابن القيم "... وأما التأمل في القرآن فهو تحديق ناظر القلب الى معانيه وجمع الفكر على تدبره وتعقله وهو المقصود بإنزاله لامجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر ...." ...الانسان مخلوق عاقل و علاقة بذلك يعرف بانه يفكر واذا أضفنا أنه كائن سياسي فهو بطبيعة الحال سيكون مدركا لقدراته ويخطط لمسارات عمله وفقا لقناعاته وأهدافه ... إن ثقافة التامل هي أروع ما أبدع فيه العقل البشري فسيدنا ابراهيم هداه تأمله إلى الايمان الحق... كما هدى التأمل والبحث الى العديد من الحقائق العلمية والفكرية عبر التاريخ البشري ...ويقوم التأمل ويرتكز على بناء الافكار والقدرات الذهنية وإدراك للواقع وتشكلاته مع انتقال ذلك إلى كينونة الشخص وعلاقاته مع محيطه والاخرين... وللتأمل مراتب ومقامات تتعاظم بمقدار تحرر العقل والجسد من الأنانيات والاهواء وانعتاقه من ظلاميات وسوداويات الفكر وتآمر النفس ودناءاتها .. فعندما تصدق النوايا وتشحذ الهمم وتفعل الافكار البناءة، تطوى المسافات وتقام صروح الحضارات... وبمقدار ما تنحط الافكار وتتكلس الانفس، تنجر الأمور نحو القعر بسبب تحول التأمل إلى وسيلة للتآمر والكيد والاحباط مع إلحاق الاضرار المولدة للانكسارات والازمات بالذات والوسط والمحيط مما يصنف قانونا في باب الجرائم الشديدة عقوبتها اي المرتكبة مع سبق الاصرار والترصد. فالعاقل لايمكن أن تكون أقواله وقراراته وأفعاله متسببة في هلاكه وهلاك الناس معه ولا يفترض ذلك فيه ومعه ..لكن أن تحقق الجمع بين ادعاء التعقل والمعرفة والتردي فذلك لايعني إلا وجود إرادة في التخريب أو أن العقل متلبس بما يفسد توازنه و يسفه ويبطل أفعاله ... فإن سما الانسان بعقله متأملا الخير، لوجده حقا.. وإن تدبر به أموره لولج طريق الرشاد فعلا ..وان اقتحم به عباب الحقائق المشرقة والصافية لانتهى إليها يقينا... ولنتأمل في تامل سيدنا إبراهيم ونتائجه ... بسم الله الرحمن الرحيم...وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ( **) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( ** ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (** ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( ** ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ( ** ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ** )"سورة الانعام ....جاء في حكم ابن عطاء الله الاسكندري قوله " اجتهادك فيما ضمن لك.. وتقصيرك فيما طلب منك ..دليل على انطماس البصيرة منك "...لهذا فاذا صحت فكرة الانسان واحبها واعتنقها بصدق تقوده الى طريق البصيرة التي تنير له القلب والروح والنفس ليرى بام عينيه حقيقة الاشياء ليسعى الى بسط ضلالها لتعم الفائدة والمنفعة ...اما ان راى كل ذلك فحجب عن نفسه وعن الناس نور ومحصلة التامل فقد اختار اعتناق الضلال وتضليل من معه ليصدق عليه قول الشاعر ابو فراس الحمداني " اذا مت ظمآنا فلا نزل القطر"...ولقد اجمل البعض درجات التامل والبصيرة في ثلاث مستويات ما يهم الاسماء والصفات وما يعني الامر والنهي وما يحيل على الوعد والوعيد ..ونحن هنا سنضيف دلالات مادية متكاملة مع الاولى بالمعرفة اليقينية روحا ومادة بالالية الملموسة التي اوصلت تامل سيدنا ابراهيم الى ما اعلن عنه ...وبالادراك العقلي والفطري لما يجب ولا يجب عقلا وشرعا في تكامل منطقي مع مصلحة الناس ..وبالاعتقاد اليقيني انه لاجريمة بدون عقاب وان بعد كل عمل صالح جزاء جميل ..والامر بطبيعة الحال له امتدادات في النفس والمجتمع والعوالم المتعددة يقينا ... ان نتائج الاقوال والافعال في الواقع ايجابا وسلبا تخريبا وبناء هي التي تشرح حقيقة وطبيعة البصيرة وخلفيات التامل بل وحتى صحة الايمان من عدمه وليس اعلان النوايا والمبادئ ...فعالم المذاهب والسياسات والاخلاق يقاس بالنتائج والمحصلات وليس بتدبيج الكلام وترصيعه وتنميقه وانتحال صفة المؤمن او المرشد او الزعيم او المفكر الذين منهم من يعقد العزم على ان يغرس اوهامه في النفوس البسيطة لاقتيادها الى مالا علم لها به.. انهم بذلك ممن يمكرون ويعتمدون على قاعدة الغاية تبرر الوسيلة ايا كانت ..ليصدق عليهم قوله تعالى " افمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لايستوون " السجدة وقوله : ?وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ? سورة البقرة (*)