أزمة سياسية خانقة تمر بها البلاد التونسية بعد الوضع المأساوي الذي وصلت إليه في ظل حكومة النهضة. والخلاف الآن يدور حول استقالة الحكومة بقيادة علي العريض وتشكيل حكومة إنقاذ وطني بعد الفشل الذريع الذي طبع أداءها وجعل تونس تقف على حافة الهاوية. ولئن نادت المعارضة بضرورة استقالة الحكومة قبل أي إجراء آخر وقبل الجلوس على مائدة الحوار، فإن مقترح الترويكا كان يشدد على الحوار أولا حول الحكومة البديلة. ويذهب مراقبون إلى أن الحل الذي ربما يفك الأزمة هو موافقة الترويكا على حل الحكومة حالا وموافقة المعارضة على عودة المجلس التأسيسي، وهذا الحل سيكون مؤلما للطرفين لكنه يحل الأزمة السياسية التي تتواصل منذ أكثر من شهر. وتنتقد المعارضة تلكؤ النهضة ومناورتها وربحها للوقت وعدم تقديمها لموقف واضح من مبادرة الاتحاد والتسريع بتنفيذها، مما يجعلها تهدد باللجوء إلى مواقف تصعيدية أخرى قد تجر البلاد إلى ما لا يحمد عقباه. ونعرض لقرائنا الكرام موقفين متباينين من استقالة الحكومة الأول لسمير الطيب النائب المنسحب من المجلس الوطني التأسيسي، الذي يرى أن الضغط الشعبي سيجبر حكومة الترويكا على الاستقالة التي يعدها ضرورية قبل أي شيء آخر. والثاني لعبد اللطيف المكي القيادي في حركة النهضة، الذي يذهب إلى أن استقالة الحكومة من حيث المبدأ مقبولة لكنها غير ممكنة قبل إجراء حوار وطني. لا حوار مع الترويكا قبل استقالة الحكومة الضغط السلمي سيجبر الحكومة على الاستقالة يرى سمير بالطيب النائب المنسحب من المجلس الوطني التأسيسي أن الضغط الشعبي سيجبر حكومة الترويكا على الاستقالة وأنه لا حوار معها قبل إعلان علي العرض استقالة حكومته. ويعتقد بالطيب أن تصريحات راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة بخصوص مبادرة اتحاد الشغل أعطت الأمل وجعلت العديد يتفاءل إلا أن قيادات النهضة توزعوا في المنابر الإعلامية لإعطاء مواقف مغايرة لما قاله رئيس الحركة مما يبيّن أن النهضة أرادت ربح المزيد من الوقت عبر تلك المناورة السياسية. ويذهب بالطيب إلى أن النهضة قد حاولت تقسيم وضرب المعارضة المتحدة في جبهة الإنقاذ إلا أن مساعيها قد فشلت مؤكدا أن الضغط السلمي والمدني سيتواصل وأنه لا يمكن للحوار أن ينطلق ما لم تقبل بحلّ هذه الحكومة. ويؤكد النائب المنسحب مضي جبهة الإنقاذ في التصعيد عبر تواصل حملة ارحل معلنا مغادرة 4 معتمدين لمقرات المحافظات في سيدي بوزيد و2 في صفاقس بعد أن علموا أن «حملة ارحل» ستشملهم مشيرا إلى أن الدور قادم على كل الولاة المحسوبين على النهضة. ويرى سمير بالطيب أن إثر الاغتيال السياسي الغادر بالرصاص الحي، الذي استهدف النائب محمد براهمي ، يوم ذكرى الجمهورية 25 يوليو 2013، واقتناعا منه بضرورة وصحة الموقف الوطني والشعبي الداعي لحل المجلس الوطني التأسيسي واستقالة الحكومة المؤقتة والرئيس المؤقت لفقدانهم الشرعية والمشروعية، فإنه قرر مع مجموعة من النواب المنسحبين الدخول موحدين في مسار نضالي يتبنى هذا الموقف وينحاز للإرادة الشعبية ويساهم في إنقاذ البلاد وإنجاح المرحلة الانتقالية الثانية لتجنيب تونس أي فراغ. ويؤكد بالطيب أن انسحابه مع المجموعة من المجلس الوطني التأسيسي والدخول في اعتصام لحل المجلس ولإسقاط الحكومة وتشكيل حكومة إنقاذ وطني تترأسها شخصية وطنية مستقلة، ويلتزم كافة أعضائها بعدم الترشح لأي استحقاق انتخابي، وتكليف لجنة خبراء لإنهاء صياغة الدستور في أسرع وقت وعرضه على الاستفتاء الشعبي هو بمثابة الرفض لممارسات الحكومة الحالية وعدم استجابتها للمطالب الشعبية. ويعتقد النائب المنسحب أن الترويكا فشلت في إدارة المرحلة الانتقالية، حيث لم تنجز الدستور، ولم توفر الأمن للمواطنين وفتحت المجال للاغتيالات السياسية، إضافة إلى الإخفاقات الاقتصادية والسياسية من خلال غياب أرضية أو بيئة مناسبة لإنجاز انتخابات حرة وديمقراطية. وكان الناطق الرسمي باسم حزب المسار الديمقراطي والاجتماعي انتقد في وقت سابق تصريحات رئيس كتلة حركة النهضة الصحبي عتيق خلال وقفة للحركة، لمساندة شرعية محمد مرسي بشارع الحبيب بورقيبة ورأى أنها أظهرت بالدليل ضعف أدائه السياسي وتشنج الحركة وطابعها العنيف منذ تأسيسها . كما أنّه عبر في مواقف سابقة أنه سيتم فرض التوافق على حركة النهضة مشيرا إلى أنّه في حال رفضها التوافق بشأن النقاط الخلافيّة فإنّ الرد على ذلك سيكون شعبيا حسب تعبيره، و أن المعارضة ستواصل الضغط على حركة النهضة التي ستكون مجبرة على تغيير الواقع السياسي بالبلاد مشددا على وجود شبه إجماع على فشل الحكومة الحالية وضرورة تغييرها بحكومة إنقاذ وطني. وكان سمير بالطيب قال إنّ النواب المنسحبين سيرابطون لإخراج هذه الحكومة الفاشلة من تاريخ تونس. وأكّد بالطيّب في السياق ذاته أن حركة النهضة هدّدت بعزل بن جعفر بسبب مواقفه وأنّ ذلك لن يتم إلا بمقاييس تعيينه وهو التصويت بأغلبية مريحة وفي جلسة عامة مشيرا إلى أنّ هذا غير وارد بالمرة بعد أن فقدت الحركة أغلبيتها المطلقة في المجلس. كما اعتبر أنّ رئيس الجمهورية المؤقت المنصف المرزوقي أصبح يعتمد أسلوب التهديد ذاته الذي تعتمده حركة النهضة وهو ما زاد من إضعاف مكانته كرئيس. الاستقالة غير ممكنة قبل إجراء حوار وطني يذهب عبد اللطيف المكي القيادي في حركة النهضة إلى أن استقالة الحكومة من حيث المبدأ مقبولة لكنها غير ممكنة قبل إجراء حوار وطني. ويرى المكي أنه بعد إعلان حركة النهضة قبول مبادرة الاتحاد يوم الخميس 22 أغسطس 2013، فإن الاستقالة يمكن تمريرها والقبول بها، لكن على مستوى الإجراءات القانونية والدستورية فإن الاستقالة تقتضي أن يعلن رئيس الجمهورية فورا تكليف حكومة جديدة وهو أمر غير ممكن لأنه لم يحصل الاتفاق بعد على الشخصية التي ستترأس الحكومة المقبلة على حد تعبيره. ويضيف المكي أن ذلك أمر غير ممكن قبل إجراء الحوار الوطني وأنه بمجرد حصول اتفاق بهذا الخصوص فستقدم الحكومة استقالتها. ويرى المكي أنه لا مجال لفرض تغيير في مؤسسات الدولة إلاّ بالطرق الدستورية داعيا قوى جبهة الإنقاذ الوطني إلى الحوار والتفاوض في ظل القانون والشرعية. ويذهب القيادي في حركة النهضة إلى أنّ الشعب التونسي اكتشف حقيقة التيار العبثي والفوضوي على حد تعبيره. وكان وزير الصحة دعا المجموعة الوطنية إلى التضامن للتصدي لخطر العنف والإرهاب بتطبيق القانون مؤكدا أن حركة النهضة لم تتساهل مع من يمارسون العنف حسب تعبيره ونفى صحة التسريبات حول قائمة وزراء الحكومة القادمة التي سربتها قناة المتوسط. وقال إن أغلبية الكتل في المجلس التأسيسي اتفقت بشكل شبه رسمي أن يكون موعد الانتخابات في شهر أكتوبر القادم. وأكد القيادي في حركة النهضة أن هناك دعوات من داخل حركة النهضة إلى التسريع في أشغال المجلس التأسيسي وبعث الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وتحديد يوم 23 أكتوبر 2013 كموعد شبه رسمي لأجراء الانتخابات. ويؤكد المكي أن رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي قد استشار المكتب السياسي للحركة قبل مقابلته لرئيس حزب نداء تونس الباجي قائد السبسي . وأوضح المكي أن تغيير موقف الغنوشي من حزب نداء تونس لم يكن في إطار صفقة سياسية أو أي محاصصة حزبية مؤكدا أن الحركة مازالت متشبثة بقانون تحصين الثورة ولم تتخل عنه عكس ما أعلن عنه الغنوشي في حواره على قناة نسمة. وفي تعليقه على الندوة الصحفية لرئيس الحكومة علي العريض قال وزير الصحة إن الحكومة ملتزمة بشكل واضح بإجراء الانتخابات في أقرب الآجال خلافا لبعض الأطراف التي أفصحت عن نواياها برغبتها في تأجيلها. وقال المكي إنه لا يرى مبررا لتغيير هذه الحكومة الأصل أن تواصل إلى حين الوصول إلى انتخابات وإنهاء الفترة الانتقالية، ولكن تفاعلا مع مطالب المعارضة فقد قررت النهضة القبول بتقسيم ما تبقى من الفترة الانتقالية إلى جزأين الأول تشرف عليه هذه الحكومة إلى حين الاتفاق على حكومة انتخابات داخل الحوار الوطني وهو الجزء الثاني. وأشار المكي إلى أن مسألة الأحكام الانتقالية محلّ الخلاف داخل المجلس الوطني التأسيسي تعتبر قضية جزئية بالنسبة للدستور مؤكدا حسم أغلب القضايا الرئيسية بعد تضافر جهود الأحزاب السياسية الممثلة في التأسيسي. ويؤكد رغبة الحركة في اتجاه بناء نظام سياسي ومقاومة الفساد وتحقيق مكاسب شعبية وإنجاز العدالة الانتقالية وتحقيق التنمية الشاملة خاصة في الميادين الإستراتيجية. وأشار المكي إلى أن المعركة القادمة ستكون بين قوى الثورة وقوى الرجعية وقوى الردة وقوى الفساد التي تريد استمرار المنظومة السابقة على حد تعبيره. ومع تأكيد حركة النهضة على أن حكومة الترويكا لن تستقيل وستواصل مهامها إلى أن يفضي الحوار الوطني إلى خيار توافقي يضمن استكمال مسار الانتقال الديمقراطي وإدارة انتخابات حرة ونزيهة، فإن المكي يرى في ذلك حلا توافقيا للخروج من الأزمة. حملة «ارحل» رد فعل مدني على تمسك النهضة بالحكم بدت الأوضاع في تونس تتجه نحو التأزم في ظل تمسك حركة النهضة بالسلطة ومماطلتها بخصوص الاستجابة لمطالب المعارضة بإسقاط الحكومة. ويذهب مراقبون إلى القول إن الأزمة لم تشمل قطاعا واحدا بل هي أزمة شاملة مست جل القطاعات الحيوية في البلاد. فبالإضاقة إلى تدني المستوى المعيشي نظرا لتزايد مستويات الفقر وارتفاع البطالة وغلاء الأسعار وعجز الطبقة المتوسطة على مواكبة نمط الحياة وتعقده بعد الثورة، فإن المستوى الاقتصادي عرف أيضا انحدارا ملحوظا وعجزت القروض التي منحت إلى الحكومة على الحد من الهبوط الواضح للدينار التونسي. أما الأزمة الحقيقية التي يمكن أن تؤدي إلى فوضى عارمة تهز الأمن والاستقرار في البلاد قتتمثل في الأزمة السياسية التي تكاد تعصف الآن بها، اعتبارا لتلكؤ الحكومة الحالية وعدم قدرتها على الخروج من الحالة البائسة التي أوصلت إليها البلاد. وفي كل الدول التي تحترم شعوبها، فإن على الحكومة التي تعي أنها فشلت ولم تقدر على مسايرة مطالب الشعب والخروج من المعضلات التي تواجهها، أن تعلن صراحة على استقالتها وتقدم الاعتذار للشعب على عجزها وتتمنى التوفيق للحكومة التي ستخلفها. إلا أن حكومة النهضة التي بالرغم من عجزها وعدم تمكنها من النهوض بالمستوى الاقتصادي والاجتماعي للتونسيين، مازالت متشبثة بالحكم ولا تملك الجرأة لتعلن أنها فشلت وتقدم اعتذاراتها للشعب الذي أوصلها للحكم من حيث لا يدري أنها أعجز على أن تلبي طموحاته ومطالب ثورته. لكل ذلك وأمام التعنت والممطالة والتكبر الذي أبدته حكومة النهضة ولإمكانية أن يجر ذلك البلاد إلى أزمة حقيقية، فإن المعارضة ارتأت أن الواجب الوطني يحتم عليها التحرك والنضال لتجنيب البلاد مأساة حقيقية قد تهدد مستقبلها لسنوات قادمة. التحرك الذي اختارته المعارضة هو تحرك سلمي مدني يطالب الحكومة بالاستقالة والرحيل وتشكيل حكومة كفاءات تدير البلاد إلى حد إجراء الانتخابات وتجاوز المرحلة الانتقالية بأقل الأضرار. فكانت حملة «ارحل» تعبيرا مدنيا عن رغبة الشعب التونسي في تجنب السيناريو المصري الذي بات يهدد البلاد نتيجة إصرار حكومة النهضة على التشبث بالحكم وعدم تقديرها لخطورة المرحلة ودقتها. ويذهب العديد من المتتبعين للمشهد السياسي التونسي أن النهضة ساهمت بقدر كبير في الوصول بالبلاد إلى هذه المرحلة الخطرة لأنها لم تقدر العواقب التي قد تنجر عن سياستها ولأنها أيضا لم تعترف بفشلها الذريع في الحكم. وإعلان الفشل في الحكم هو الذي تخشاه حكومة النهضة ولا تريد التصريح به وتريد خروجا مشرفا يضمن لها بعضا ما تبقى من ماء الوجه. لكن إذا كانت هذه الحكومة تمتلك قدرا طفيفا من الوطنية، فإن الإعلان عن الفشل والخروج من المشهد السياسي أفضل لها من أن تجر البلاد إلى كوارث قد تندم على وقوعها لأنها كانت السبب الرئيس فيها ووقتها لن ينفعها الندم.