ترتبط القضية الفلسطينية في الوعي العربي بشكل عام بمحاولات النهوض التي عرفتها الساحة العربية في وقت مبكر من القرن العشرين إثر التحديات الكبيرة التي طرحت على الوطن العربي بسبب الاجتياح الاستعماري لمناطقه المختلفة، وهو الاجتياح الذي سيتم تتويجه بزرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي (فلسطين) ككيان استيطاني عنصري وكدولة عسكرية وظيفية تعتبر رأس حربة للمشروع الإمبريالي الغربي القائم على تأييد مشاكل التجزئة والتبعية في الوطن العربي والسيطرة على مقدراته الاقتصادية ومحو شخصيته الثقافية والحضارية. وفي هذا السياق. لم يكن غريبا أن تتناوب الدول الاستعمارية الكبرى على احتضان المشروع الاستعماري الصهيوني ذي الطابع العنصري في فلسطين ودعمه في مراحل مختلفة، بريطانيا في البداية (وعد بلفور المشؤوم وزرع الكيان الصهيوني بقرار أممي جائر سنة 1948م) ثم فرنسا في الخمسينات وبداية الستينات (بناء المشروع النووي الصهيوني والعدوان الغاشم على مصر قلب العروبة النابض)، وأخيرا الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تبنت أطروحات هذا الكيان العنصري منذ منتصف الستينات مع مشروع وزير خارجيتها روجرس، ودعمته بالمال والسلاح، ووفرت له غطاء سياسيا غير محدود منذ عدوانه سنة 1967م على مصر وسوريا ولبنان والضفة والقطاع حتى وقتنا الحاضر، جاعلة من أمن الكيان الصهيوني جزءا من الأمن القومي الأمريكي، وخطا أحمر يجمع عليه كل الساسة الأمريكيين على اختلاف انتماءاتهم السياسية والحزبية! وانطلاقا من هذه الاعتبارات فقد شكل المشروع الصهيوني في فلسطينالمحتلة ولايزال، تحديا كبيرا للوجود العربي باعتباره المشروع النقيض لطموح الأمة العربية في التحرر والوحدة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتجدد الحضاري لاستئناف مسيرتها النهضوية ومساهمتها في بناء الحضارة الإنسانية، وهو المشروع الذي ينبغي أن يكون حافزا لكل القوى الحية في الوطن العربي ولكل الشرفاء في العالم قصد بذل المزيد من الجهد في التصدي له ومواجهته، بعدما ثبت أنه مشروع يستهدف وجودنا ككل وبدون تمييز، وهذا ما تؤكده التجربة النبيلة لانتفاضة أطفال الحجارة في فلسطين التي أسقطت ورقة التوت التي تغطى بها المشروع الصهيوني طيلة التسعينات من القرن العشرين - بعد سيادة أوهام ثقافة التسوية التي سوقتها خطابات النظام الرسمي العربي - وتلقفها بعض ضعاف النفوس من المثقفين الفاشلين ليقودوا حملات الهرولة والتطبيع مع الكيان الصهيوني الغاصب من فنادق «كوبنهاغن» و «أوسلو»، والتي أعلن عن فشلها كخيار ليصبح خيار الكفاح والانتفاضة والمقاومة الشعبية بكل الوسائل، البديل الأوحد أمام العرب لتحرير أرضهم ومقدساتهم، وهو الخيار الذي تم تعميده بدماء الشهداء (ما يفوق 700 شهيد) وتسييجه بإجماع صلب للقوى الحية في المجتمع الفلسطيني على هذه الاستراتيجية لدحر الاحتلال وضمان حق اللاجئين في العودة، وتفكيك المستوطنات وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على كافة ترابها الوطني، ليصبح الشعار القائل بأن «عصر الهزائم العربية قد ولى، وأن عصر الهزائم الصهيونية قد بدأ»، حقيقة ملموسة تتجسد على أرض الواقع، خاصة بعد تمكن أبطال المقاومة الوطنية اللبنانية بقيادة حزب الله من تحطيم أسطورة «الجيش الذي لايقهر»، وطرد الصهاينة من جنوب لبنان، وهم يجرون أذيال الخيبة والهزيمة، الأمر الذي هيأ الأجواء لاندلاع انتفاضة الأقصى التي حركت الضمير العربي الراكد كخطوة أولى في طريق تحرير فلسطين كل فلسطين، ليبدأ الزمن العربي الحقيقي المؤذن بعودة العرب الى الفعل التاريخي بعد أن خرجوا من التاريخ لمدة طويلة، هذا التحرير الشامل (الانتصار على المشروع الصهيوني العنصري، والذي تعتبر انتفاضة الأقصى أولى خطواته الفاعلة) هو الكفيل وحده بإراحة الضمير العربي من ذل الهزائم المتتالية وهو الكفيل بجعل شمس النهضة العربية تشرق من جديد. تلك هي أهمية الانتفاضة، وذلك هو الأفق الذي ترسمه أمام المواطن العربي، فهل يدرك الضمير العربي تلك الأهمية؟ وهل يستوعب أبعادها؟! سؤال ستجيب عنه الأيام القادمة، وفي انتظار ذلك للشهداء الرحمة وللانتفاضة المزيد من الصمود والاستمرار حتى دحر الاحتلال وتحرير الأرض والإنسان.