«من هذا العالم الجديد، لم يفهموا شيئا، كل شيء كان مثل عناصر قصيدة» روبير ميوزيل زار الكاتب الفرنسي «بيير لوكوز الجنوب المغربي، وفي وعيه أنه يزور الصحراء الموشومة في الذاكرة الجمعية الغربية. وما يميز نصوص «لوكوز» عن هذا الجنوب، كتابه هذا عن تارودانت، و كتاب آخر عن مراكش، هو النظر إلى هذه الأبدية باعتبارها نقطة انطلاق بين الحرارة الحارقة و القاسية وبين العذوبة في أقصى دراجتها. ألا يعيدنا «لوكوز» هنا إلى ب»ريلكه» في تصوره للشيء المرعب الذي قال عنه إنه التحديد الحقيقي ل»الجميل». لأن القرب من هذا الشيء المخيف- وهو هنا الخوف من الصحراء- هو ما يجعل من هذا البلد، المغرب، بوثقة للعجيب. و كتاب «لوكوز» هذا عن مدينة «تارودانت» يوقظ نوعا من المعاني الفردوسية التي نسيها الغرب منذ زمن طويل. «بيير لوكوز» كاتب فرنسي من مواليد سنة 1954 ب «فينيستير»، يعيش و يعمل اليوم في فرنسا، ويأتي بين الفينة الأخرى للإقامة في المغرب. المسافر وهو قادم من مراكش على طريق تزنتيشكا، يوقف سيارته لحظة على قمة الجبل، و يكتشف أسفل قدميه سهلا تنتشر فيه أشجار الأركان و النخيل. وحوله تنتشر، على شكل دائرة عظيمة، جبال الأطلس الكبير، المتوجة أحيانا بالثلج، حتى في عز الصيف. لكن تنتظره هناك، في عمق وادي سوس الممتد الذي ينتهي في المحيط، محجوبة بضباب الحرارة الصاعدة من الأرض الجافة، عند ظل أسوارها المصنوعة من التراب الوردي، مدينة الحكاية. يتجه نحوها الآن، نازلا من الجبل عبر هاوية يصعد منها المساء دخانا واضحا. بعد الصعود البطيء لتيزنتيشكا الذي يبلغ أكثر من 2000 متر، يكون للنزول ثانية نحو سوس شيئا سحريا و مدوخا. في بضع دقائق، نعبر طبيعة وعرة في الجبل المغربي المفتقد إلى اعتدال واد في الشرق. الطريق خطرة جدا، تلامس الهاوية و تلتف حول ركام من الصخر المشتعل تحت الحركة المترافقة للجمود و الحرارة الحارقة. و بعد اجتياز خاصرات الجبال الأخيرة، تلقاك أرض السهل المستقيمة و المغبرة. بعد قليل ستبدأ السلسلة الكئيبة لأشجار الأركان، هذه الأشجار التي مازالت تنمو حيث لا شيء ينمو، و التي نستخرج منها زيتا مرة. في أقل من ربع ساعة، فقدنا ألف متر من العلو و ربحنا خمسة عشرة درجة من الحرارة. ساعة بعد ذلك نصل إلى تارودانت، عاصمة سوس. تارودانت هي مراكش أخرى، أقل حجما و أكثر جنوبية. و مثل المدينة الكبيرة في الجنوب المغربي، فهي تمتلك ساحة رئيسية يخفق فيها قلب المدينة، و أسواقا عميقة تحميها سياج حرارة النهار، حزام من الأسوار و النخيل. سواء في الشتاء أو الربيع، القمم نفسها مرشوشة بثلج الأطلس تتوج بسلاسلها الدقيقة صفّ أسطحها و مناراتها. و أخيرا، مثل أختها في الجانب الآخر من الجبل، تمتلك هي الأخرى بناية خيالية: فندق قصر السلام... و رغم أنها ليست سوى مدينة صغيرة في الإقليم، نستطيع مع ذلك تفضيلها عن العاصمة المراكشية. و إنه في بعض الأوقات، على طول الشوارع القاحلة التي تجتازها آخر النساء المحجبات، يخيّل إلينا عودة الحياة إلى المغرب العتيق، المغرب الخالد- على الأقل ذلك الذي يحلم به المسافر الأوروبي: مزيج من الجمال، من الكسل و السبات؛ بقيا طعم الشرق المتخيل من طرف أجيال الغائصة في ألف ليلة و ليلة. و رغم ذلك فالمدينة واقعية، مزدهرة اقتصاديا في مركز واد زراعي غني: الأغنام، الحمضيات و المنتوجات البقولية. لكن هنا الحلم يأتي دائما ليختلط بالملموس، لا لنزع عنه مادته، لإخراجه من الواقع، بل بالعكس لمنحه مزيدا من الحضور و مثل ذلك ركنه العجائبي. إن أقل الثمار، إذن، هي كوكب دائري نستطيع إمساكه في راحة اليد، و أصغر ليمونة هي حلم نخرج منه عصيرا لذيذا. و رغاء الجمال المشكّلة في الغسق تعود بك إلى ألف حكاية قرئت بنهم في الطفولة، إلى ألف مغامرة جرت في الصحاري الحارقة. و بشكل مناقض، فالأكثر صعوبة في هذه الأنحاء هو عدم الارتماء كليا في الحلم، ليس بسبب بعض الأخطار، بل لأن فائضا من أحلام اليقظة ينتهي بالإفضاء إلى المبهم و يضيّع البلد الواقعي. مثل كل المدن المغربية، يجب أن تصل إلى تارودانت في المساء، في تلك الساعة، بعد فراغ الظهيرات القائظة، التي تمتلئ فيها الشوارع من جديد، ناقلة هذا التجمهر المختلط الذي هو أحد مظاهر الإثارة في المغرب، التي هي بمثابة توقيعه المستمر. ألا تعني كلمة «مغرب» باللغة العربية «بلد الليل»؟ رجال و نساء، شيوخ و أطفال، عربات تجرها الحمير، دراجات نارية «موبيليت»، دراجات هوائية، عربات الجيّاد و سيارات: الكل يجري في النهر اللّامبالي، الملوّن، الهادر الذي أصبحه الشارع. المقاهي تنير أضواءها، المطاعم تقدم قوائم أطعمتها؛ قريبا سيمتلئ الهواء الخبّازي بدخان اللحوم اللذيذ الذي يشوى على نار تسعرها الريح. و يبدو هذا الفائض من الضجيج، و الألوان، و الروائح، و الكلام و الهيجان مثل ثأر السكان ضد الاحتجاز العنيف الذي يفرضه عليهم النهار و القيظ... أعرف مواطنا فرنسيا الذي جاء للمكوت في المغرب أسبوعا واحدا، فبقي كل الفصل، غير قادر على الانفصال عن إغراء هذه الساعات. حجز غرفة في فندق قرب «جامع الفنا»، بمراكش، وتركزت كل تلك الأيام في انتظار تلك اللحظة، حوالي السادسة مساء، التي يرن فيها صوت الطبول الأولى على الساحة. فكان يخرج، إذن، فقط ويذهب للاختلاط بالجموع، وسط الموسيقى الصادرة عن آلات سحرة الأفاعي، و أناشيد «كناوة» و نداءات الصغار الذين يبيعون البرتقال. يوليوز، غشت، شتنبر، أشهر ستمر، وسكون دائما هنا يشرب الشاي نفسه في الساحة نفسها حيث يوجد «مقهى فرنسا»، وهو منذهل أمام مشهد الحشد السعيد، بينما الشمس تنحرف ببطء وراء «منارة الكتبية». ساحة «السراج» بتارودانت ( تحمل اليوم اسما آخر، لكن الجميع مازال يناديها بذلك الاسم) أكثر تواضعا من «جامع الفنا»: لا وجود لمطاعم في الهواء الطلق، ولا إثارة للسياح. لكن وهي هكذا أليست أكثر واقعية، أكثر «مغربية». فهي أيضا تلعب الدور نفسه بالنسبة للمدينة الصغيرة في «سوس» الذي تلعبه الساحة الشاسعة لجامع الفنا بالنسبة للمدينة الإمبراطورية: منفذ طبيعي، تلقائي، للحياة الحارة في هذه ساعات الغروب هذه حيث يبدو أن المغرب يلتقي بوضوح مع جوهره. نستطيع، مثل فرنسي مراكش، أن نقضي الصيف كله على سطح «فندق الروداني» دون تمني شيء آخر غير هذه السعادة البسيطة: شرب الشاي و أنت تحلم أمام هذا المشهد اللانهائي في الشارع...تستطيع أيضا، في يوم قائظ، أن تفضل الاختباء في صحن أحد البيوت أو في الرطوبة المجوهرة لقنينة «بولعوان»: يكفي إذن أن تجتاز الساحة وتلج « فندق تارودنت». 2 - «الهجائية المضمرة». ولعل ما يلفت الانتباه أن مجمل المقايسات الطافحة مرارة وحسرة على أحوال المجتمع والوطن، لا تتخايل إلى النظر إلا مقترنة بسمة «الهجائية»، والتصوير التهكمي للطبائع البشرية المختلة، وما يتصل بها من تشوه في السلوك والذوق، وقبح في المعمار وترهل في المؤسسات. وهي العنصر الجمالي الذي يكاد يمثل جوهر الأسلوب الروائي في النص، فعبره تتشكل صور الشخصيات المفعمة حيوية، وبالاستناد إلى طاقة السخرية تستقيم المواقف والمشاهد، وتكتسب نسغها الدرامي، وبإضمار التهكم تشكل الفضاءات، ويضخ فيها نبض الحياة. على هذا النحو تسكن الهجائية اللغة وزوايا النظر، إلى الذات والآخر، وإلى الوطن والبلدان الأخرى، وعليه فبرغم تعاطف السارد الشديد مع جو الحصار الخانق الذي أهلك مجتمع العراق، فإن نبرة التمثيل الأسية لا تتكرس حدتها إلا بانتقالها المفاجئ إلى «هجاء» السلوك الإنساني الملتبس الذي ينمو داخل هذا مناخ الفاجع، مثلما هو الحال مع سلوك الشاعر العدمي غير المبالي الذي يتحول فجأة إلى أكثر المواطنين جبنا حين يتعلق الأمر بنقد الزعيم البعثي. أو كالهجاء الجوع الجنسي المؤبد في مخيلة المحاصرين... إلى غيرها من المواقف التي تضحى لحمة التخييل وسداه، بل إنه حتى في بعص التفاصيل الجزئية، لا يترك الروائي الفرصة تمر دون هجاء الموقف، من مثل تعليقه على طرق باب غرفته في الفندق الهندي بعنف، بقوله: «هذه طريقة مصرية صميمة ... فمتى انتقلت إلى الهند»(ص 94)، أو تعجبه من هدوء الهنود وصبرهم ورويتهم قائلا: «رغم عدم انتمائهم ولا معرفتهم بثقافتنا العنيفة التي تقول إن العجلة من الشيطان»(ص94). لكن الهجائية لا تبلغ ذروتها إلا مقرونة بالمقايسة الحية مع الداخل العميق، حينها تصير السخرية ولعا أصيلا، ومقصدا جماليا يبدي نقيض ما يضمر من قيم الاعتداد بالذات وإدمان مباهجها ومفاجعها على حد سواء. يقول السارد في مقطع بالغ الدلالة من النص: «انتشر الميكروباص كالميكروبات أو السرطان في كل الطرق بمصر، وأصبح علامة على العصر الذي يستهان فيه بالبشر، فالسيارة التي تحمل 15 شخصا أو أكثر، هي مشروع جنازة في أي لحظة، ... وما دام الميكروباص نعشا طائرا، فإن سائقيه ورواده من متوسطي الثقافة ...، يبحثون عن يقين، ويستعذبون جلد الذات، في خطب تجعلهم يلعنون الحياة، وتؤهلهم نفسيا للاستعداد للموت الإسفلتي»(ص 101). تتكرر هذه الصورة (هجاء الميكروباص) في مواضع كثيرة من الرحلة، ووهي بسخريتها اللاذعة، وطاقتها المجازية، ونضحها الخيالي، تمد المبنى التمثيلي بدفقات «الروائية» المرتكزة في أساسها على المفارقات الذهنية والسلوكية المنطوية على مغزى أنساني عميق. ولا يعزب عن النظر أن تبجيل الذات والاعتداد بها يتوارى في مثل هذه الصور فاسحا المجال لغيرية مهيمنة، حيث تضحى كل السجايا الشخصية والقيم الحياتية وتفاصيل السلوك اليومي، ذات الإيحاء الموجب، شأنا غيريا خالصا، وهي السمة التي تستثير في كل مرة نزوع «الهجائية» والسخرية من الوطن والمحيط، بحيث لا تكاد تخلو كل رحلة من عشرات الأسطر الموحية بخيبة الأمل والمرارة والخجل من انحطاط يبدو لا فكاك منه. بيد أن ما يستثير الانتباه أن اقتران الهجائية بالمقايسة الممتدة مع أحوال المجال الجديد المكتشف، لا تتخذ دوما منحى سالبا، يزري بالوطن والأهل، وإنما تتحول في كثير من الصور إلى حافز لتأكيد العشق الطاغي لمصر وللقاهرة، ومن ثم تتحول إلى هجائية ظاهرية مخادعة وغير حقيقية، قصارها تأكيد قولة صلاح جاهين: «أكرهها وألعن أبوها بعشق زي الداء» (ص 46). 3 - السفر السينمائي. هذا ويشكل «السفر السينمائي» المرتكز الأخير للرهان التصويري للنص الذي ينطلق من قاعدة الرحلة ليتقاطع وسياقات الرواية والسيرة والنقد الفني، والمقصود به اقتران السفر بالسينما واقعا ومجازا، إذ ياتي سفر الروائي في معظم الأحيان استجابة لدعوات مهرجانات سينمائية، في الآن ذاته الذي تتحول فيه مشاهد الأفلام الأجنبية (الهندية والمغربية والعراقية...) إلى سفر جديد، ورحلة مضاعفة، ترتقي بالحسي، وما يستدعيه من مقارنات، إلى نطاق الجمالي والرمزي؛ وسرعان ما تنصرف المقايسة الحية، بالتدريج، من الصفات والمقامات البشرية إلى تمثيلاتها الفنية، ذلك ما نلاحظه حين يعرض لوصف حصار العراق وتداعياته على الحركة الثقافية والفنية، لينتقل إلى وصف حال النهوض السينمائي الذي شهدته مصر على إثر هزيمة 1967. وهو ما يطالعنا عندما ننتقل مع السارد من مشهد المجتمع العراقي المحاصر تحت ديكتاتورية صدام حسين إلى فيلم «تحت الأرض» للبوسني «أمير كوستوريتسا» حيث يعزل الحاكم المواطنين عن العالم الخارجي و»يسيطر على خيالهم، ويوهمهم بشبح الكارثة، التي توجب بقائهم تحت الأرض نصف قرن، مستخدما قدرته، وحده لا شريك له، على الاتصال بالعالم»(ص 34).وهو الانتقال الشبيه بالاستعارة التي تكثف المعنى الرمزي، وتجرده من سياقه المؤقت، وترتقي به إلى صورة ذهنية ماتعة الظلال. والظاهر أن سير الأفلام وما تخلفه من وقع جمالي، وما تولده من نقاش فكري، يضحى معبرا لمقارنة ذهنية المشاهد «هنا» و»هناك»؛ وفي هذا السياق بالذات ترصد السينما عمق المغايرة بين المجتمعات والعقائد، أكثر مما تفعل أية أداة تعبيرية أخرى، إنها سفر مجازي إلى الداخل العميق، في مقابل الرحلة الواقعية إلى الخارج الظاهر والحسي. ولعل هذا الانتقال من الواقع إلى السينما ومن اللغة المرجعية إلى الصور الرمزية الذي يرتبط بالمراوحة الجدلية بين الداخل والخارج لهو ما يمنح الرحلة بعدها التخييلي المفتوح، حيث تكاد تتحول في بعض المقاطع والصور إلى سفر ذهني خالص ورهان من رهانات الذاكرة والمخيلة واللغة التصويرية، كما يفتح النص أيضا على بعد نقدي وتحليلي بات من المكونات الرئيسة للسرد المعاصر، خصوصا في جنسي الرواية والسيرة، حيث تطل رؤية القاريء المهووس الذي يسكن وجدان الكاتب، عير ظلال الشخصيات والفضاءات والمشاهد والموقف الإنسانية، التي يستدعيها السياق السردي. وهو ما نلمسه بقوة في فقرة وصفية من رحلة السارد إلى الهند لحضور مهرجان السينما الآسيوية والعربية؛ يقول: «حظي جمهور المهرجان بما فات معظم أبناء هذا الجيل من العرب، بمشاهدة (باب الحديد) على شاشة كبرى تستوعب نظرات قناوي (شاهين) الجائعة إلى فتاة المحطة، وإلى هنومة (هند رستم)، نظرات بعمق الاشتهاء والجرح والحرمان، والحاجة إلى التحقق الشخصي، وهو ما لا تفلح في إظهاره شاشة التلفزيون المستأنسة... [في الفيلم] يتوارى فريد شوقي، يدخل في مساحة الظل، في حين يتقدم قناوي نصف المجنون، نصف العاشق، المنتقم الكامل في النهاية... عاش الفيلم نصف قرن، ولا يزال قادرا على تجاوز اختبار الزمن واللغة والجغرافيا، استنادا إلى سحر السينما»(ص 96-97). تطل هذه الفقرة في السياق باعتبارها عنصرا تكوينيا في معمار النص، المستند إلى المزاوجة بين مكونات السيرة والرواية والتحليل الفني، ينطق من خلالها القارئ الناقد الذي لا يستطيع التخلص من سلطة النصوص والصور في مقاربته لوقائع أسفاره، بحيث يتحول كل تفصيل إلى مثير لسلسلة من الصور المتداعية، كما يتحول كل فيلم إلى ذريعة للانتقال من السفر الحسي إلى التطويح في فضاء التخييل، ففي الفقرة المقتبسة لم يعد الجمهور الهندي مهما في حد ذاته، إلا من حيث كونه قد حظي بمشاهدة فيلم «باب الحديد» على الشاشة الكبرى، أما كيف تفاعل معه؟ أو ما مدى استيعابه لصوره ورسائله الفنية؟ فتلك أسئلة لا تكتسي أولوية في السياق السردي، الأساس أن الفيلم عرض عبر شاشة كبيرة ومكن السارد من تحليل وقع «هناوي» و»هنومة» مجددا عليه، ونقل ذلك الأثر عبر مقطع تحليلي بات جوهريا في مبنى التخييل. لقد كتب سعد القرش «رحلته سبع سماوات» بكثير من النعومة في الإحساس، والعذوبة اللغوية، مستقطرا في عوالمها الفسيحة التي امتدت من أسيا إلى أوربا إلى أقصى المحيط، كل مهاراته في وصف الداخل العميق، والسخرية من أحوال الوجود المختل، وتكثيف اللوعات المقيمة، والاستدعاء الدرامي للمواقف والشخوص التي توارت وغابت في تلافيف الذاكرة، حتى أضحت سيرة شفيفة لولعه الأثيل ببلده «مصر» وبهاء أدبها وروعة فنونها، أضمر فيها غيرته الشديدة، على عوالمها، التي تشارف القسوة، وحسرته على انحدارها لدرجة الكفر بالانتماء. إنها رحلة في مجاهل الذات بقدر ما هي خروج إلى منابذ الغير، وهي مقايسة هجائية ونثر غزلي في آن، لا يمكن أن نخرج من عوالمها دونما أصداء عميقة لا تخلدها إلا صنعة روائي الحاذق.