إن تقيم مستوى عمل فريق برلماني لحزب حاكم يقاس من خلال إنتاجه في مجال الإقتراح التشريعي ، و بالتالي يشكل محددا لمنهاج العمل الحكومي و برنامجه على أرض الواقع بعيدا عن كل الخطابات الشعبوية أو الإعلامية. كما يعكس المرجعية التحليلية و الفكرية للحزب الذي ينتمي إليه. لقد سادت مغالطات عديدة حول ماهية عمل النائب البرلماني ، حيث أختلط عليه الأمر مع العمل الجمعوي و النقابي . فأصبح البعض يعتقد بأن الفريق البرلماني الناجح هو أكثر الفرق استقبالا و استماعا للهموم الشخصية و الفردية للمواطنين و الأكثر تدخلا لحل بعض المشاكل الصغرى ، أو المنخرط في دعم قضايا تفرضها مرجعيته على حساب القضايا الوطنية الكبرى بهدف توسيع قاعدة المريدين الإنتخابيين أو الحفاظ على علاقات أفقية حزبية دولية محظة.و الحال أن قيمة العمل البرلماني تحدد من خلال قيمة الإنتاج التشريعي و إيجابية المقترحات المقدمة بما يخدم الصالح العام. كما يقدر من خلال كفاءة البرلمانيين و تفوقهم الفكري وهم يناقشون الشأن العام داخل اللجان البرلمانية بما يخدم عموم الشعب و مستقبل البلاد، و التي لا تحظى مع كامل الأسف بالتغطية الإعلامية المناسبة. في هذا الصدد و بكل موضوعية أثار انتباهي في إطار البحث العلمي مقترح قانون تقدم به فريق العدالة و التنمية سجل بمكتب مجلس النواب تحت عدد 65 بتاريخ 12/03/2013 يتعلق بتعديل الفرع الأول من الباب الثاني من القسم الأول من الكتاب الثاني من القانون رقم 22.01 المتعلق بالمسطرة الجنائية الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.02.255 في رجب 1423 (3 أكتوبر 2002) كما تم تعديله و تتميمه. هذا المقترح الذي لا يتعلق إلا بما اصطلح عليه فقها بالإمتياز القضائي. فالإمتياز القضائي هو « الحق الممنوح لبعض الأشخاص من أجل المثول أمام محكمة غير تلك التي يسند لها الإختصاص من قبل القواعد العامة الإجرائية « . وقد عرفه الأستاذ محمد مصطفى الريسوني بأنه « منح طائفة من موظفي الدولة مسطرة خاصة في المتابعة و المحاكمة عند ارتكابهم لجناية أو جنحة أثناء مزاولة وظيفتهم». وقد أثارت مسطرة الإمتياز القضائي على مر التاريخ جدلا واسعا و وجهت لها سهام النقد من قبل الفقهاء و الحقوقيين . لما لها من مساس بأسمى حق إنساني و دستوري هو المساواة أمام القانون و أمام المحاكم من جهة ، وتكريسها للإفلات من العقاب من جهة ثانية، ومساسها بحقوق الضحايا و المتضررين من جهة ثالثة. فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان (10 دجنبر1948) نص في المادة 7 على أن : «الناس جميعا سواء أمام القانون و هم متساوون في حق التمتع بحماية القانون دون تمييز» . كما نصت الإتفاقية الدولية في شأن الحقوق المدنية و السياسية في المادة 14 على أن :» جميع الأشخاص متساوون أمام القضاء . و لكل فرد الحق عند النظر في أية تهمة جنائية ضده أو في حقوقه و التزاماته في إحدى القضايا القانونية ، في محاكمة عادلة وطنية بواسطة محكمة مختصة و مستقلة و حيادية قائمة استنادا إلى القانون». كما أن دستور 2011 جاء بالعديد من المقتضيات ابتداء من ديباجته و التي تلح على الإلتزام بفكرة المساواة . كما أكد على ضرورة احترام الحريات و الحقوق الأساسية و قام بدسترة العديد منها و التي تعتبر ضمانات في حالات إلقاء القبض أو الإعتقال أو المتابعة أو الإدانة . و نص الدستور على حقوق المتقاضيين و سير العدالة ، حيث اعتبر الحق في التقاضي حقا مضمونا لكل شخص ، و أكد على الحق في المحاكمة العادلة التي يعتبر الحق في المساواة أمام القضاء من أهم الأسس التي تقوم عليها ي إطار ماهو وارد في معاييرها الدولية. كما أن الدستور أتى بمجموعة من الضمانات المؤسساتية لحماية الحقوق و الحريات ، مثل نصه على استقلال السلطة القضائية و خلق هيئات لحماية حقوق الإنسان و النهوض بها. كما أنه حد من الحصانة البرلمانية من خلال الفصل 64 منه بجعلها محصورة فقط في عدم إمكانية أي عضو من أعضاء البرلمان ، و لا إلقاء القبض عليه ، و لا اعتقاله و لا محاكمته بمناسبة إبدائه لرأي أو قيامه بتصويت خلال مزاولته لمهامه ، ما عدى إذا كان الرأي المعبر عنه يجادل في النظام الملكي أو الدين الإسلامي ، أو يتضمن ما يخل بالإحترام الواجب للملك. وهكذا عرف المغرب بعد دستور 2011 اعتقال ومحاكمة و إدانة بعض البرلمانيين بشكل عادي بسبب جرائم إرتكبوها دون أن يتم الإحتجاج في مواجهة هذه المحاكمات بخرق لحقوق الإنسان أومعايير المحاكمة العادلة .كما أن المتضررين تمكنوا من اقتضاء حقوقهم و ممارستها كما يقرها القانون. كما أن الدستور في الفصل 94 ينص على أن :» أعضاء الحكومة مسؤولون جنائيا أمام محاكم المملكة عما يرتكبونه من جنايات و جنح ، أثناء ممارستهم لمهامهم . و يحدد القانون المسطرة المتعلقة بهذه المسؤولية. و بالتالي فإن روح الدستور و مقتضياته تدعو إلى تكريس المساواة و ضمان المحاكمة العادلة و التقليص الشديد الحصانات القانونية و الإجرائية و الحد منها ، إن لم نقل بإلغائها. و إذا بمقترح القانون المقدم من فريق العدالة و التنمية يبقي على مواد الإمتياز القضائي على حالها و يشمل بالتعديل فقط المادة 265 من قانون المسطرة الجنائية ، وذلك بإضافة شخصيات جديدة إلى الطائفة القديمة المستفيدة منه. فالمادة 265 من قانون المسطرة الجنائية تنص على ما يلي: «إذا كان الفعل منسوباً إلى مستشار لجلالة الملك أو عضو من أعضاء الحكومة أو كاتب دولة أو نائب كاتب دولة مع مراعاة مقتضيات الباب الثامن من الدستور أو قاض بمحكمة النقض أو المجلس الأعلى للحسابات أو عضو في المجلس الدستوري أو إلى والي أو عامل أو رئيس أول لمحكمة استئناف عادية أو متخصصة أو وكيل عام للملك لديها، فإن الغرفة الجنائية بمحكمة النقض تأمر- عند الاقتضاء - بناء على ملتمسات الوكيل العام للملك بنفس المحكمة بأن يجري التحقيق في القضية عضو أو عدة أعضاء من هيئتها. يجرى التحقيق حسب الكيفية المنصوص عليها في القسم الثالث من الكتاب الأول المتعلق بالتحقيق الإعدادي. بعد إنهاء التحقيق يصدر قاضي أو قضاة التحقيق، حسب الأحوال، أمراً قضائياً بعدم المتابعة أو بالإحالة إلى الغرفة الجنائية بمحكمة النقض.تبت الغرفة الجنائية بمحكمة النقض في القضية. يقبل قرار الغرفة الجنائية الاستئناف داخل أجل ثمانية أيام. وتبت في الاستئناف غرف محكمة النقض مجتمعة باستثناء الغرفة الجنائية التي بتت في القضية. لا تقبل أية مطالبة بالحق المدني أمام محكمة النقض.» غير أن فريق العدالة و التنمية لم يتجرأ على إعادة النظر في مقتضيات المسطرة و التي وجهت لها انتقادات كثيرة. على اعتبار أنها تمنع تحريك المتابعة عن طريق الشكاية المباشرة ، كما أنها تمنع من التقدم بالمطالب المدنية ، بالإضافة إلى كون الغرفة الجنائية بمحكمة النقض هي الوحيدة المخولة بتحريك المتابعة بناء على ملتمس للوكيل العام لدى محكمة النقض. وهي كلها مقتضيات تجعل من المستفيدين من مسطرة الإمتياز القضائي و المنتمية للفئة المنصوص عليها في هذه المادة تحاكم بمسطرة تختلف عن التي يخضع لها باقي المواطنين مما يشكل مساسا بمبدأ المساواة و خروج عن فكرة محاكمة الشخص أمام قاضيه الطبيعي و الذي من المفروض أن يحاكم أمامه جميع المواطنين الذين يخالفون مقتضيات القانون الجنائي، بغض النظر عن حمل أعضاء الغرفة الجنائية لدى محكمة النقض لصفة قضاة. كما أن منع المتضرر من التقدم بشكايته المباشرة و كذا طلباته المدنية أمام محكمة النقض في هذه الحالة يؤدي إلى المساس بحقه في التقاضي ، و تطويل إجراءات التقاضي بلجوئه في إطار القضاء المدني للمطالبة بالتعويضات و ما يعرفه هذا الفرع من طول و تعقد في الإجراءات و تكلفة جد مرتفعة في المصاريف بالمقارنة مع القضاء الجنائي في إطار الدعوى المدنية التابعة. و بالتالي فمساهمته في الدعوى العمومية و أطوار المحاكمة تكون منعدمة.دون أن ننسى المساس بالحق في الولوج للعدالة و تقريب القضاء من المواطنين الذي ما فتئ ورش إصلاح العدالة الذي يقوده وزير العدل الأستاذ مصطفى الرميد ينادي به ي كل محفل أو منبر إعلامي دون أن يجد إسقاطاته على هذا المقترح الذي نحن بصدده. لكن فريق العدالة و التنمية جاء بمقترحه من أجل توسيع قاعدة المستفيدين من مسطرة الإمتياز القضائي بإضافة شخصيات أخرى للطائفة الأصلية . و نظريتهم في ذلك من خلال تقديم المقترح هو الموقع المرموق للمؤسسات التي ينتمي إليها هؤلاء الأشخاص ، و كأن من تطبق عليهم المساطر العادية في المسطرة الجنائية هم في مرتبة أدنى وأقل من مراتب المواطنة حتى لا نقول شيئا أخر. و الأشخاص المنعم عليهم من قبل فريق العدالة و التنمية للإستفادة من مسطرة الإمتياز القضائي, بالإضافة إلى الفئة الأصلية السابق ذكرها هم : * أعضاء البرلمان. * أعضاء المحكمة الدستورية. * أعضاء المجلس الإقتصادي و الإجتماعي و البيئي. * أو رئيس إحدى المؤسسات أو الهيئات المنصوص عليها في الفصول من 161 إلى 170 من الدستور. و الهيئات المنصوص عليها في الفصول من 161 إلى 170 هي : * المجلس الوطني لحقوق الإنسان . * الوسيط. * مجلس الجالية المغربية بالخارج. * الهيئة المكلفة بالمناصفة و محاربة جميع أشكال التمييز. * الهيئة العليا للإتصال السمعي البصري. * مجلس المنافسة. * الهيئة الوطنية للنزاهة و الوقاية من الرشوة. * المجلس الأعلى للتربية و التكوين و البحث العلمي . * المجلس الإستشاري للأسرة و الطفولة. * المجلس الإستشاري للشباب و العمل الجمعوي. لقد سعى مقترح فريق العدالة و التنمية من جهة إلى الإلتفاف على المقتضى الدستوري القاضي بإلغاء الحصانة البرلمانية و خلق نوع من الحصانة الإجرائية لهذه الفئة. بالإضافة إلى التوسع الكبير في فئة المستفيدين. وهو نوع من تكريس الإفلات من العقاب. والتوسع في المساس بمبدأ المساواة. وتوسيع قاعدة المتضررين من المادة 265 من قانون المسطرة الجنائية بالرفع من المتضررين من هذا القانون . فهل هذه هي مصالح المواطنين التي انتخبوا من أجل الدفاع عليها؟ وماذا يقصدون بالعفاريت و التماسيح إذن ، إن لم يكونوا أشخاصا يرتكبون جرائم و يستفيدون من امتيازات في مساطر التقاضي، قد تؤدي إن لم تستعمل بشكل صحيح إلى إفلاتهم من العقاب؟ إن أغلب المنظومات القضائية تتجه إلى إلغاء الإمتياز القضائي و الحد منه. ففرنسا مثلا ألغت الإمتياز القضائي من مسطرتها الجنائية قد تم إلغائها بتاريخ 1 مارس 1994 وذلك بحذف الفصلين 679 و 681 من قانون المسطرة الجنائية الفرنسية. فأين هذا المقترح إذن من المرجعية الدولية و القانون المقارن. و أين هو من مبادئ التشريع الجنائي الإسلامي الذي يدعوا للمساواة. و أين هو من رسالة الفاروق لأبي موسى الأشعري الذي يقول له فيها :» آس الناس في مجلسك و في وجهك و في قضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك و لا ييأس ضعيف من عدلك». إن العدالة و تحقيقها من المفروض أن تكون حقا لجميع المواطنين على قدم المساواة. وذلك بضمان المحاكمة العادلة للجميع . و تفعيل المقتضيات الدستورية في هذا الباب في أبعد غاياتها،و ربط المسؤولية بالمحاسبة . و الإصلاح الشامل و الحقيقي للمنظومة القضائية ،لا بتوزيع الإمتيازات الفئوية. فمن خلال تحليل مقترح القانون هذا نكون قد أمطنا اللثام على السياسة التشريعية المنتهجة من قبل فريق العدالة و التنمية و من يمثلونهم داخل الحكومة. مما يتعين معه الإنتباه إلى كل ما يمكن أن يمس المسلسل الديمقراطي في البلاد ، وتعبئة الجميع من أجل التفعيل الصحيح و السريع للمقتضيات الدستورية لتجنب كل ارتكاسة أو انتكاسة قد تقوض إرادة الشعب في الإصلاح و التقدم و كذا الإرادة الملكية التي تلح في التسريع بالإصلاحات و التنزيل السليم الدستور و التأكيد على مبدأ المساواة ، فقد جاء في خطاب جلالة الملك ل20 غشت 2013 ما يلي :» كما أن المغاربة كلهم عندي سواسية دون تمييز، رغم اختلاف أوضاعهم وانتماءاتهم . إذ لا فرق بين رئيس بنك وعاطل، وربان طائرة وفلاح ووزير. فكلهم مواطنون، لهم نفس الحقوق، وعليهم نفس الواجبات .لذا، لا بد من اعتماد النقاش الواسع والبناء، في جميع القضايا الكبرى للأمة، لتحقيق ما يطلبه المغاربة من نتائج ملموسة، بدل الجدال العقيم والمقيت، الذي لا فائدة منه، سوى تصفية الحسابات الضيقة، والسب والقذف والمس بالأشخاص، الذي لا يساهم في حل المشاكل، وإنما يزيد في تعقيدها». * (محام بهيئة فاس باحث في العدالة الجنائية و العلوم الجنائية)