مَنَحتني «حربُ الجنرالات» فرصة الالتقاء لأول مرة مع ألمع هؤلاء، الجنرال «أريك» شارون. كانت إسرائيل كلها تحتفل به باعتباره «البطل» الوحيد، و الأكثر حظوة إعلاميا في حرب أكتوبر. ففي هجوم مضاد كاسح، تمكنت فرقته من اختراق خطوط العدو، و اجتياز قناة السويس و تطويق واحد من الجيشين المصريين في ساحة المعركة. فبعد أن خرق وقف إطلاق النار ،أتم هزيمة قوات الرئيس السادات. قال لي منتشيا: «بفضلي أنا، عرفت المواجهة منعطفا حاسما لصالحنا، فعمليتي كانت أفضل العمليات في كل الحرب». مُتناسيا أن تلك العملية كانت مُهيأة بعناية من طرف سابقيه، الذين خرق تعليماتهم، مما أدى إلى تكبيد رجاله خسائر كبيرة و بلا جدوى. كما تناسى أنه كان هو أيضا، واحدا من أبطال الحفاظ على «الوضع القائم»، و من المدافعين عن الأوهام التي أدت إلى «الزلزال». و هو ما لم يمنعه من تحميل مسؤولية الهزيمة للجيش، ضحية «التسييس المتطرف»، مُشيرا بأصبعه إلى الضباط غير الأكفاء المُعينين بسبب تعاطفهم مع حزب العمل الحاكم. كان يتحدث،دون أن يُعلن عن ذلك، باسم حزب «حيروت» اليميني القومي. فبعد خرقه لواجب التحفظ، وَجهت له هيأة الأركان «توبيخا»، دفعه إلى القطيعة مع صديقه و أستاذه، الجنرال دايان، و إلى الاستقالة من الجيش في وقت كانت شعبيته في أوجها، و كان المُعجبون يُحيون فيه «العبقري» و كان المتظاهرون يعتبرونه «ملك إسرائيل» (ميليخ إسرائيل). كان عدم انضباطه معروفا. ففي سنة 1953، حينما كُلف بالقيام بغارة انتقامية في أعقاب عملية انتحارية فلسطينية، قام بنسف جميع بيوت قرية «قيبيا» الأردنية. و بدون أن يرف له جفن، قتل 69 قرويا خائفا، من ضمنهم نساء و أطفال لجأوا إلى أحد هذه البيوت. و كان بذلك «يُعاقبهم» لأنهم عجزوا عن منع مُخرب فلسطيني من التسلل. و قد صَدَمت هذه المجزرة حتى أكثر القادة الإسرائيليين تشددا مثل بن غوريون و موشي دايان، دون أن يتخذا في حقه أية تدابير عقابية. في حين عبر «موشي شاريت» القائد العمالي و رئيس الوزراء المقبل، عن استنكاره، إلا أن الرأي العام لم يؤاخذه على ذلك. و في بداية السبعينات ، و بمبادرة منه، ارتكب عدة مجازر في غزة. فقد هاجمت دباباته مخيمات اللاجئين و أحالت حوالي عشرين ألف مسكن إلى رماد. كما قتل العديد من الفلسطينيين رميا بالرصاص و بدون محاكمة، لا لشيء إلا للاشتباه في تعاطفهم مع المقاومة. و نتيجة لهذا «الإنجاز» أُطلق عليه لقب «البلدوزر» من طرف أتباعه، الذين يعتبرون ، مثله تماما، أن السكان الأصليين أعداء أَزَليين. و هو ما دفع الجنرال دايان إلى القول، دون أن نعرف ما إذا كان الأمر يتعلق بإشادة أم بانتقاد، أن «أريك لم يُنه أبدا عملية قبل أن يُكَبد أعداءنا عشرات الضحايا». و قد أكد شارون هذا الحكم بشكل لاإرادي حين صرح بارتياح : «لم أقتل أبدا أي أسير حرب، لأني ببساطة لم أأسر أيا منهم «. أما الجنرال «بارليف»، العسكري اللامع و رئيس الأركان السابق و الذي يحظى بالاحترام فقد أدانه بدون غموض : «شارون رجل بدون ضمير و لا مبادئ». و هناك بطل آخر من أبطال حرب 1967، و هو الجنرال «عيزر وايزمان» فقد وصفه كالتالي : «شارون مثل إناء مليء بالحامض الكبريتي، يبدأ بتذويب الإناء قبل أن ينتشر في الخارج». كان الضباط المكونون حسب التقاليد البريطانية يحتقرونه. و كان شارون يعرف ذلك، فغادر الجيش سنة 1973 ، عالما أنه بذلك يتنازل عن الحلم الذي طالما راوده للوصول إلى رئاسة هيأة الأركان. لكنه سينجح في مساره السياسي أكثر، بتحمله مناصب وزارية مختلفة، و خاصة منها منصب وزير الدفاع، قبل أن يصل في 2001 إلى رئاسة الحكومة. حينما تحادثتُ معه ،غداة حرب أكتوبر، قدم لي شارون نفسه باعتباره «المحارب»، و هو نفس النعت الذي اختاره عنوانا لسيرته الذاتية بعد ذلك بعدة عقود. شكلُه و أساليبُه و طريقةُ كلامه تتطابق و صورة «المغامر» الذي كانه. طويلُ القامة، جسيم، ذو بطن بارزة و شعر غير مصفف و مظهر رجولي، كان يتكلم بصوت عال. أما حديثه العنيف و الفج فقد كان يستخدمه من أجل تسخيف رفاق السلاح. و تدريجيا، فرض شارون نفسه كزعيم لليمين القومي. فطيلة حياته السياسية، و كيفما كان المنصب الذي يتولاه، عمد إلى تكثيف استيطان الأراضي المحتلة، وفاء لعقيدة موشي دايان المعروفة ب»الأمر الواقع». أصبح بطلا ل»إسرائيل الكبرى». و في نهاية 1973، بُعيد استقالته من الجيش، علمتُ من خلال الصحافة بأنه اشترى ضيعة شاسعة المساحة بمبلغ مليون و نصف مليون دولار. و بما أن أَجرَه كضابط كان متواضعا، و بما أن عائلته القريبة أو البعيدة لم تكن من الأثرياء، فإن الصحافة قد شككت طويلا في مصدر هذه الأموال التي اقتنى بها الضيعة، دون أن تنجح في كشف سرها. و بعد بضعة شهور،و في لحظة كان يسعى فيها إلى الدفاع عن نفسه أمام الإعلام، حصلتُ على امتياز التحاور معه داخل الضيعة الشهيرة، و التي سماها ب «ضيعة الجُميز». كانت الضيعة تقع إلى جانب النقب، مُشيدة على أطلال قرية عربية، و كانت شبيهة بقلعة. خلف السور المزدوج الذي يحميها، كانت آثار القرية الفلسطينية التي دمرها الجيش الإسرائيلي لا تزال ظاهرة. كانت «أكبر ضيعة في إسرائيل» ، حسب الصحافة، تمتد على مساحة أربعمائة هكتار. كانت تضم ثلاث بنايات و عدة مسابح مُحاطة - و هو أمر استثنائي في هذه المنطقة الصحراوية- بنباتات متنوعة. أما شارون ، المرتاح في دوره الجديد كفلاح دجنتلمان، فقد كان سعيدا و هو يتحدث عن جمال الطبيعة و عن مشاريعه الفلاحية. على عكس الآباء المؤسسين للدولة، المعروفين بحياتهم المتقشفة و باستقامتهم، لم يتوقف شارون عن العيش في رَغَد مُتَباه و مستفز، مثير للشكوك و للاتهامات و للمتابعات القضائية. و تمكن التحقيق من تحديد المليارديرات الأجانب، الذين عبروا عن إعجابهم به بهبات مالية وصلت إلى عدة عشرات من ملايين الدولارات. و بعد انتخابه في 2001 لرئاسة الحكومة، أعلنت الصحافة بأنه «أغنى الوزراء الأولين في تاريخ إسرائيل»، بينما شجبه اليسار العمالي باعتباره «السياسي الأكثر فسادا». و بفضل حصانته البرلمانية، أفلت من القضاء، الذي تمكن من متابعة أحد نجليه، «أومري»، بالتواطؤ و حُكم عليه بعقوبة سجنية. بعد استقالته من الجيش سنة 1973، ظهر بأن مساره السياسي كان أكثر دموية من مساره العسكري. فحينما كان وزيرا للدفاع، شن في يونيه 1982 هجوما كاسحا على لبنان، أودى بعدة آلاف من القتلى و الجرحى المدنيين، من مواطني بلد الأرز أو من اللاجئين الفلسطينيين، الذين تعرضت مخيماتهم لسيل كثيف من القنابل و الصواريخ الحارقة. فيما اندفعت دباباته إلى بيروت و احتلت بذلك أول (و آخر) عاصمة عربية يغزوها جيش الدولة اليهودية. كانت أهدافه تُتاخم جُنون العظمة: فقد كان مُصمما، حسب أقواله، على سحق منظمة التحرير الفلسطينية، و على قتل زعيمها ياسر عرفات و على إحداث هجرة كثيفة للفلسطينيين نحو الأردن، التي ستصبح دولتهم بعد قلب الملكية الهاشمية. وضع على رأس الحكم في بيروت حزبا مسيحيا يمينيا متطرفا، في خدمته، بهدف إعادة النظر في نظام الدولة متعددة الطوائف التي أقيمت غداة الحرب العالمية الثانية. أما جريمته الكبرى، فهي ترخيصه للميليشيات المسيحية بغزو مخيمي صبرا و شاتيلا للاجئين الفلسطينيين، حيث عمدت هذه الميليشيات إلى ارتكاب مجازر وحشية، قاتلة دون تمييز، الرجال و النساء و الأطفال و الشيوخ. و قد تعرض معظم الضحايا للذبح بالسلاح الأبيض، في وقت كانت صرخات استنجادهم تصل إلى آذان جنود الجنرال شارون الذين كانوا يرابطون على قمة عمارة لا تبعُد عن المخيمين إلا بمرمى حجر. وصل الاستنكار أوجَهُ لدى الرأي العام الإسرائيلي. و خرج عدة مئات من الآلاف متظاهرين في تل أبيب شاجبين جرائم «جزار بيروت». تعرضت سمعة الدولة اليهودية للتلطيخ في العالم بأسره. فتمت إقالة شارون، المتهم من طرف لجنة تحقيق بأنه «مسؤول غير مباشر» عن حمام الدم، بينما ابتعد الوزير الأول، مناحيم بيغن، مُهانا و مُحطما، عن الحياة السياسية نهائيا و مات في وحدة مثيرة للشفقة. فباستخدامه لخرائط مزورة، تمكن وزيره في الدفاع من خداعه طيلة الهجوم مُخفيا عنه أحلامه المجنونة، التي لم يتحقق أي منها. و سيحتفظ التاريخ أيضا لشارون ، بأنه كان المُتسبب في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حين قام بتدنيس صَدَمَ العالم الإسلامي حين تجول، رفقة عشرات من رجال الشرطة المدججين بالسلاح، في ساحة المسجد الأقصى، بالقدس، ليؤكد بأن ثالث الحرمين في الإسلام يُشكل جزءا لا يتجزأ من القسم اليهودي للمدينة. و أمام رُهابهم من عنف الانتفاضة الثانية، حمل الإسرائيليون «المحارب» إلى رأس الحكومة.و بعيدا عن إطفاء الحريق، قام شارون بتغذيته بالمزيد من العنف و القمع و مضاعفة عمليات اغتيال القادة الفلسطينيين. و بلغ القتلى و الجرحى لدى الفلسطينيين بالآلاف و بالمئات داخل الإسرائيليين. في مقالاتي المتعددة، أكدت بأن تصرفه ذاك يستجيب لحسابات سياسية، تهدف إلى الحؤول دون الشروع في مفاوضات سلام، «طالما ظل الإرهاب قائما» كما يزعم. و اختير المبرر بشكل جيد، إذ أن شارون سيحظى بالمساندة الكاملة للرئيس الأمريكي «جورج بوش» الإبن، الذي كان بدوره يرفع شعار «مكافحة الإرهاب في أي مكان بالعالم» و ذلك بعد عمليتي القاعدة في نيويورك و واشنطن في سبتمبر 2001. و هكذا سيرفض شارون العرضَ التاريخي الذي تقدمت به الدول العربية قاطبة، في 2002، من أجل تطبيع علاقاتها مع الدولة اليهودية إذا ما أبرمت هذه الأخيرة اتفاق سلام مع الفلسطينيين. و قد كشف «ونستون تشرشل الثالث»، حفيد الوزير الأول البريطاني السابق، بأن شارون قال له : «الفلسطينيون؟ سنجعل منهم سندويتشا. سنُقيم وسطهم سلسلة من المستوطنات على طول الضفة الغربية، بشكل لا يمكن لأحد تفكيكها، لا الأممالمتحدة و لا الولاياتالمتحدة». و الحقيقة أن سابقيه من حكام إسرائيل كما التالين له، لم يشذوا عن هذه القاعدة. مفارقة هي أم سخرية من التاريخ، سينجح «المحارب» في أن يظهر ك»بطل للسلام»، في نظر الأوساط المعجبة به. فرغم ماضيه المعروف،حيث انضم متأخرا و على مضض، للسلام الإسرائيلي-المصري، و شجَب بقوة اتفاقيات أوسلو ناعتا «بالمجرمين» كلا من ياسر عرفات و إسحق رابين (لم تكن الحملة الحادة ضد هذا الأخير غريبة عن اغتياله من طرف أحد المتطرفين) و عارض اتفاقية السلام مع الأردن. إلا أن مؤيدي الوزير الأول شارون، الذين لا ذاكرة لهم، استقبلوا تصريحاته حول السلام و كأنها صادقة. ففي الوقت الذي كان يُواصل فيه سياسته القمعية و يكثف من بناء المستوطنات بالأراضي المحتلة، كان يضاعف التصريحات المهدئة، التي اعتبرها أتباعه تجديفية. و بذلك أثار استنكار حزبه نفسه حين صرح بأنه ينبغي وضع حد «للاحتلال» و تيسير إنشاء «دولة فلسطينية»، حرص على عدم تحديد حدودها. و أوهم الجميع بأن انسحاب الجيش من غزة في 2005، يشكل خطوة أولى نحو هذا الهدف، في حين أنه لم يكن سوى خدعة تهدف إلى مراقبة قطاع خطير بتكلفة أقل. و بمهارة فائقة، ساند الطرح - الخاطئ- الذي يقول بأن رجلا من اليمين هو القادر وحده على تقديم التنازلات الضرورية من أجل إبرام السلام. ألم يُعد مناحيم بيغن سيناء إلى المصريين؟ كانت الحجة المرددة زائفة، إذ أن زعيم الليكود و رئيس الوزراء آنذاك قد تخلى عن صحراء لم يطالب بها الإسرائيليون أبدا، بينما تشكل الضفة الغربية («يهودا» و «السامرة»)، حسب العقيدة الصهيونية، المرتكز الأساسي ل»وطن الشعب العبراني». الحلقة المقبلة : خطوات كيسنجر و وهم السلام