لا بد من الإشفاق على من يتولون مسؤولية المواجهة التاريخية التي تدعمها أغلبية ساحقة من الشعب المصري مع جماعة الإخوان، كعنوان للأحزاب التي تستخدم الدين في السياسة. يمكن مقارنة ما يحدث في مصر بعصر النهضة في أوروبا، الذي افتتح بإقصاء الكنيسة عن الحياة السياسية، وما كان لأوروبا أن تنهض دون ذلك. مصدر الإشفاق هو حجم المسؤولية وخطورتها وقلة تفهم المجتمع الدولي لما يحدث في مصر، ذلك المشهد المتقدم لما يمكن أن يحدث في معظم البلدان »الإسلامية« وفي جميع أنحاء العالم، إذ سعت جماعة لهدم كل قيم المواطنة والعدالة، من خلال استخدام تفسيرها الخاص للدين وفرض وصايتها باعتبارها »حزب الله« الوحيد في الأرض. يمكن أن نفهم أن العالم أمام معضلة استثنائية، فهو أمام إرادة شعبية تنقلب بمساعدة العسكر لتصحيح خطأ تاريخي أوصل جماعة إلى الحكم عبر الانتخابات، لكن الشعب أدرك خطأه وعبّر بأغلبية ساحقة، أنه ندم على ذلك. وما لا يدركه العالم أن »سفينة هائلة« أدرك ركابها أن من آلت إليهم قيادتها سيغرقون السفينة. ثمن المواجهة الحالية باهظ، لكن إغراق السفينة المصرية ثمنه أكبر. قضية مصر كما ذكرنا مشهد متقدم عالميا. والشعب المصري تمكن بسرعة من إدراك حجم المواجهة التاريخية، التي لم يدركها العراقيون والتونسيونوالإيرانيون، الذين يرزحون تحت حكم الإسلام السياسي، ربما لأسباب ليست في يد تلك الشعوب. فحركة النهضة في تونس لم ترتكب ما يكفي من الحماقات التي ارتكبها الإخوان في مصر، كي تبلغ المواجهة ذروتها. والعراق واقع في فخ استقطاب خارجي ودولي واسع، ويملك عوائد نفطية كبيرة، تسمح للأحزاب الإسلامية الحاكمة باللعب على حبال كثيرة، إضافة لافتقاره لمؤسسات الدولة والمجتمع المدني، التي ساعدت المصريين على الانقلاب على الوضع الشاذ. أما إيران فهي قضية معقدة، تغذيها ذخيرة طائفية وتاريخية مزمنة تمتد جذورها إلى 14 قرنا، ولا تقف عند 35 عاما من عمر الثورة الإيرانية. لو كان في تصرف حكومة الإخوان المصرية 100 مليار دولار من العوائد النفطية السنوية مثل العراق، ربما كانوا سيتمكنون من تعميق الخراب. بغض النظر عما سيحدث في مصر، فإنها ستسدي للعالم خدمة لتقريبه من إجماع دولي يمنع استخدام الدين في السياسة، سواء تمكنت من فرض سلطة دولة مواطنة مدنية، أو انزلقت في مواجهة طويلة مع التطرف. المفارقة، أن الرأي العام والحكومات الغربية ترفض قيام أي تجمع سياسي على أساس ديني أو حتى قومي، في حين أن الاحتلال الأميركي للعراق سلّم السلطة للأحزاب الدينية، ويواصل في مصر تحفظه على المساس بحركات الإسلام السياسي. يمكننا أن نتخيل الذخيرة التي كان سيمنحها لأحزاب الإسلام السياسي، لو عبّر بوضوح عن تأييده لإقالة حكومة الإخوان. كانت أحزاب الإسلام السياسي ستقيم الدنيا ولا تقعدها، على أنها مؤامرة غربية وصليبية ضد الإسلام، وكانوا سيكسبون التعاطف من جانب واسع من المسلمين. لكن الموقف الغربي المتحفظ سيخدم المصريين بشكل أكبر، وسيمكنهم من فرض إرادتهم وإعادة ضوابط الدولة المدنية. وقد يساعدهم على حظر جميع الكيانات السياسية القائمة على أساس ديني. المواجهة المصرية التاريخية ستجعل العالم يدرك يوما أن دخول الدين في السياسة هو أخطر ما يهدد مستقبل التعايش في العالم، وأن العالم بحاجة إلى ضوابط تمنع دخول جميع الأديان في السياسة. ينبغي عدم قصر الحديث على خطورة الإسلام السياسي، سواء عند الحديث عن الوضع المصري أو التونسي أو العراقي أو أي بلد آخر. الحديث ينبغي أن يذهب إلى خطورة استخدام جميع الأديان في السياسة في جميع أنحاء العالم. فالأمر لا يختلف مع أي دين آخر وفي أي بقعة من العالم. يمكن أن نذكر فوز حزب بهارتيا جاناتا الهندوسي في ولاية كوجارات في الهند قبل أشهر، وما أدى إليه من أعمال عنف فور فوزه. ويمكننا أن نعود إلى ما بين 1998 2004 حين حكم الحزب الهندوسي الهند، فلم يمر يوم دون إحراق مسجد أو معبد. وبمجرد عودة حزب المؤتمر لزعامة الحكومة عام 2004 اختفت تلك الأعمال وعادت دولة المواطنة، وعين الحزب العلماني رئيس وزراء من طائفة السيخ، التي لا تشكل أكثر من 3 بالمئة من سكان الهند. مجرد مثال يظهر أن القضية ليست قضية إسلام سياسي، بل هي قضية استخدام الدين في السياسة، ولن يختفي هذا النوع من التوترات الخطيرة إلى أن يصل العالم إلى قناعة صريحة برفض استخدام الدين في السياسة، كي لا يشعر أتباع دين معين بأن القضية موجهة ضدهم، ولكي لا يستخدم المتطرفون ذلك لتجييش البسطاء في معارك دينية.