الشعور بالخصوصية الأدبية لم يوجد في اليونان القديمة بالشكل الذي تعطيه إياه الفترة المعاصرة. لا يخطر على عقل اليوناني في القرنين الخامس و السادس أن يضع الأدب في مقابل الأفكار؛ وبعيدا جدا عن ذلك، فإن التمييز بين هذين المجالين، المجال الأدبي و المجال الإيديولوجي، كان دائما مستحيل التحقيق، بل مستحيلا، إلى درجة أنهما يتداخلان، رغم أنهما مختلفان. إن أقدم النصوص الأدبية اليونانية المعروفة هي نصوص شعرية. فالشعر ظهر، في تلك القرون الأولى من تاريخ اليونان، باعتباره تعبيرا عن المثل العليا اليونانية. وفي هذه الحالة، فإن الأهمية التي يتخذها، في الحضارة اليونانية، الشكل السياسي للمجموعة التي يندمج فيها الفرد، هي مجموعة من المثل السياسية العليا التي تبحث عن التعبير عن نفسها من خلال الشعر. و رغم ذلك، و انطلاقا من اللحظة، التي حلّ فيها النظام القديم الذي تهيمن عليه الأرستقراطية، يفرض نفسه مفهوم ثوري في المدينة، يرتكز على مبدأ الخضوع الجماعي للقانون، والنثر، الذي، من جانبه، يزيح الشعر من أداء وظيفة التعبير عن المثل السياسية الجديدة. هكذا، عندما يتحرر من هذه المهمة، يتجه الشعر نحو مجال جديد، هو مجال الفلسفة. و مثلما كانت النصوص الأدبية اليونانية الأولى نصوصا شعرية، مثلما كان على الاكتشافات الفلسفية الأولى استعارة صوت الشعر. لكن إذا كان ممكنا بهذه الطريقة كشف نوع من القسمة بين الفلسفة والسياسة، لا ينبغي أن نرى فيها انقساما نهائيا. فالإشكالية السياسية ذاتها يجب حتما أن تصاغ في مصطلحات فلسفية، في اللحظة نفسها التي تطلبت ازدهار فرع خاص من فن الأدب: فن الخطابة. إننا نتوجه إلى الحوار الأفلاطوني لرسم هذه المرحلة الثرية بالعلاقات بين الأدب و الفلسفة في اليونان القديمة. 1-الفلسفة و الشعر: إن الذاتية الشعرية هي التي لعبت دور الجسر بين التعبير السياسي و التعبير الفلسفي. و في الواقع، إذا لم تختف مرجعية الجماعة السياسية و الاجتماعية من الشعر، فإنها لم تعد تحضر بالطريقة نفسها: فعوض أن تقدم موضوعة الدعوة، التحريض و إعطاء الدروس التي هي قيمة عامة، فإنها تؤدي فقط دور القاعدة لتأملات الشاعر الشخصية. من هذا الطريق غير المباشر تم إدخال البعد الفلسفي: تغيير المأساة السياسية على المستوى الوجودي الشخصي للشاعر قاد في الواقع إلى الوعي بقضية فلسفية خاصة، هي حرية الإنسان. النص الذي ظهرت فيه هذه القضية بجلاء للمرة الأولى في اليونان هو نص شعري لأرشلوك (بداية القرن السابع قبل المسيح): هو في نفس الوقت أول حوار في الشعر اليوناني. نستخلص هنا بسرعة التطابق التاريخي بين تكوّن الفلسفة اليونانية و تكوّن الشعر اليوناني. كل شيء حدث كما لو أن الشعر كان يضطلع بوظائف الفلسفة في انتظار أن تتشكل هذه الأخيرة باعتبارها حقلا روحيا قائم الذات. بواسطة شعراء مثل أرشلوك، و أيضا أولئك الذين نسميهم شعراء «ما بعد سقراط»، تم ضمان تسلسل مستمر بين الفكر الأسطوري الذي سيطر على الشعر في القرون الأولى و بين الفكر العقلاني الفلسفي. فهذا الأخير، إضافة إلى ذلك، لا ينفي أصوله الأسطورية: لنفكر في الأساطير الأفلاطونية. إن المرور إلى العقلانية أصبح ممكنا انطلاقا من اللحظة التي رأينا فيها الذاتية و قد فرضت نفسها، أو الفردانية تحديدا: التي إذا كانت تضم، في الحقيقة، التعبير عن الرأي أو عن الأحاسيس الشخصية التي تطبع، كما رأينا من قبل، الشعر اليوناني الجديد، فإنها تشترط أيضا تطور التأمل الفلسفي المستقل، المتحرر من مبدأ السلطة و الواثق في السلطة الوحيدة للعقل. إن انتشار الشعر عن طريق العقل الفلسفي يظهر بوضوح في عمل الشاعر «كسينوفان دي كولوفون» (نهاية القرن السادس قبل المسيح). فالعاطفة و العقل لم يتم إذن تصورهما باعتبارهما مجالين مختلفين، حيث واحد سيكون خاصا بالشعر، و الآخر بالفلسفة. إذا كان الشعر لا ينحصر في مجال المشاعر، فإن الفلسفة، من جانبها، تضم عن طريق الاصطفاء شكل الشعر. و «كسينوفان» هو أول شاعر اختار التفكير الفلسفي كمادة لقصائده. ففي عمله، لا وجود لتعارض بين الخيال الشعري و المنطق الفلسفي، بل بالعكس هناك تلاقح بين الاثنين. هذا بالضبط ما يحدث مع الفيلسوف «بارمينيدس ديلي» ( القرن الخامس قبل المسيح)، صاحب قصيدة بعنوان « من الطبيعة»، عرض فيها مفهومه عن عالم خالد، واحد، دائم و ثابت. في هذا النص، قدم «بارمينيد» نفسه شاعرا و رجل منطق جاف. كيف أمكن ذلك؟ بالنسبة ل»بارمينيد»، الوصول إلى الحقيقة باعتبارها الوسيلة الوحيدة لإدراك الوجود ليس شيئا سهلا، بل هو موضوع اكتشاف مثير. العاطفة و الحماس الظاهران في عمله ( وقد اعتدنا على اعتبارهما من خصائص الإلهام الشعري) يوضحان إلى أي حد التفكير الفلسفي يفرض نفسه هنا بكل الطاقة التي للرؤيا. من جانبه، الشاعر «بيندار» ( القرن الخامس قبل الميلاد) يستعمل الكلمة اليونانية «صوفيا»، التي نجدها في «فلسفة» و التي تعني «حكمة»، لتعيين العبقرية الشعرية: العبارة و الفكر لن ينفصلا بعد الآن إذن، لكن كلاهما، المتحدان بدقة، يشكلان ال»صوفيا». الشاعر الملهم و الفيلسوف الملهم هما الاثنان سيتقلّدان مهمة إلهية، و نفس الشخص يمكن أن يكون هذا أو ذاك: هكذا «بارمينيد» هو فيلسوف- شاعر أو شاعر- فيلسوف. انطلاقا من الإدراك الوجودي و الذاتي للقضايا السياسية، الذي نجده عند «أرشيلوك»، وصولا إلى التأملات عن الكون، التي ندها عند «بارمينيد»، لم يتوقف الإلهام الفلسفي عن الامتزاج بالإلهام الشعري عند اليونان في القرنين الخامس و السابع قبل الميلاد. وحدها، الفلسفة كانت في مستوى منح الخيال الشعري حقلا شاسعا جدا ليستثمر فيه كل الإمكانيات التي تحمل داخلها. 2- البلاغة و الفلسفة: المكملون لتقاليد الشعراء، وورثة «أرشيلوك» و «بيندار» كانوا سفسطائيين. لكنهم سيغيرون الأشكال العديدة للعبارة الشعرية، بكل مقاصدها الفلسفية، ضمن نثر فني جديد: البلاغة. لنسجل أنه ما أن وقع ترجمة النظرية الفلسفية من الشعر إلى النثر يدل على أنها، في آخر المطاف، كانت معقلنة كليا. تطورت الحركة السفسطائية في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد. نجد عند كاتب إغريقي محاولة لتحديد لهذه الحركة و علاقاتها بالفلسفة: «في نظري، مصطلح سفسطائي هو على الأرجح مصطلح تكويني، و الفلسفة يمكن أن تكون ضمنه مثل نوع يطبعه نوع من الحب للفضيلة و للمحادثات المرتكزة على الاستدلالات، ولم يكن كما اليوم محملا بدلالة خاصة جدا، لكنها تشير بشكل عام إلى الثقافة». باعتبارهم ورثة المهمة الفلسفية للشاعر، فإن السفسطائيين يتشبثون إذن بمناقشة الطبيعة و القدر. يظنون أن علة وجود الشعر هي التعليم: في ذهنهم، الفلسفة لن تنفصل عن الحياة. فهم لا يمثلون حركة فلسفية بحصر العبارة، بل بالأحرى بغزو الفلسفة من طرف مراكز نفع أخرى و بأسئلة أخرى، خصوصا الأسئلة السياسية. إنهم، كما يقول خصمهم سقراط، « على التخوم بين الفلسفي و السياسي». الفلسفة التي بدأت، قبل قرنين، في الوجود باعتبارها كذلك متخلصة من السياسية، عادت إذن إلى أصولها بمعنى ما، فوجدت نفسها مدعوة لتقديم لغة إلى الإشكالية السياسية. لكن إذا كانت السياسة قد ظهرت هكذا و هي تزيح الفلسفة و تبعدها إلى المرتبة الثانية لتلعب دور الأداة في خدمتها، فإن كسوف الفلسفة هذا ليس سوى ظاهريا: في الحقيقة، السفسطائيون ساعدوا على جعل من السياسة فلسفة حقيقية. هذا التعميق للتأمل السياسي كان مرتبطا مباشرة بظاهرة نشر الديمقراطية في المدينة. كما أن إعادة تشكيل المؤسسات التي رافقت هذه الظاهرة، خصوصا نمو الأهمية التي عادت إلى مجلس الشعب، أصبحت مسألة السلطة و أدوات السلطة من الضروري أن تتشكل ضمن مصطلحات جديدة. في الواقع، لقد أصبحت البلاغة، انطلاقا من ذلك، ورقة لا غنى عنها في اللعبة السياسية: «في المدينة الديمقراطية، حيث الشعب بكامله يجتمع ليحضر لنقاشات سياسية و حيث يكون مسموحا لكل فرد أن يأخذ الكلمة، لا يستطيع أي سياسي أن يعفى عن أن يكون له موهبة الخطيب: إنها القيادة في يد رجل الدولة». المرجع: A.M.Chenoufi, Littérature d?idées, collection Sources, Ceres production, Tunis,1990