«إريك رولو» طبقت شهرته الآفاق كصحفي ثم كدبلومسي و محلل و كاتب. فقد انضم «رولو» اليهودي ذو الأصول المصرية (إسمه الحقيقي إيلي رفول)، إلى هيأة تحرير صحيفة «لوموند» العريقة في منتصف خمسينات القرن الماضي، بعد أن هاجر في سنة 1950 من مصر إلى باريس، خشية تداعيات الحرب العربية الإسرائيلية الأولى (1948) . و عمل لفترة وجيزة في وكالة فرانس بريس قبل أن ينضم لصحيفة «لوموند» التي كان متعاونا معها، فكلفته إدارة هذه الأخيرة بمنطقة الشرق الأوسط نظرا لإجادته اللغة العربية، رغم أنه محروم من زيارة معظم البلدان العربية بسبب أصوله اليهودية . بعد ثماني سنوات على ذلك سيستدعيه جمال عبد الناصر، الذي كان يريد تحسين علاقاته مع فرنسا الدوغولية، إلى القاهرة، لإجراء حوار معه، سيكون له تأثير كبير على مستقبله المهني و سيفتح له أبواب الدول العربية مما شكل منعطفا في مسار إريك رولو. و في مساره هذا، تنقل بين مختلف بلدان المنطقة، على إيقاع الأحداث و التطورات، مُحاورا صُناع الحدث في هذه البلدان ، مُقابلا المثقفين الأكاديميين و مُعايشا البسطاء المساكين ، مما مكنه من التعرف على النبض الحقيقي لمجتمعات المنطقة،. في مذكراته هاته «في كواليس الشرق الأوسط» يروي «إريك رولو» أحداثَ أكثر من عقدين من تاريخ المنطقة. يسرد خلالها بأسلوبه الدقيق مشاهداته و لقاءاته و قراءاته اتلك المرحلة الهامة من تاريخ الشرق الأوسط متنقلا بالقارئ من القاهرة إلى عمان و من بيروت إلى دمشق و من تل أبيب إلى القدس. و أهمية هذا الكتاب، تكمُنُ في التفاصيل الدقيقة التي يقدمها الكاتب عن بعض الشخصيات المهمة و الأحداث الفاصلة، مما يمنحنا مفاتيح لتطورات الأزمة السياسية في مختلف بلدان المنطقة. و مما يزيد الكتاب أهمية هو أن صاحبه يعالج الأحداث بموضوعية باردة ، تكشف المزايا حيثما كانت و تميط اللثام عن العيوب في أي شخص كان. لهذه الأسباب جميعها، فضلنا ترجمة هذا الكتاب ، بصورة أمينة دون زيادة أو نقصان، توخيا لمنح القارئ العربي نافذة شفافة يطل منها على خلفيات و كواليس أحداث يعتقد أنه يعرفها، فيكتشف أنه لا يعرف منها إلا اليسير. لدى عودتي لباريس، كنت بعيدا عن الاعتقاد بأن عبد الناصر سيأخذ مبادرة جديدة، ستخلق هذه المرة، أزمة كبرى داخل إسرائيل، بل أكبر أزمة منذ حرب 1967 . و قد تم توريطي فيها بدون إرادتي. ففي منتصف مارس، أي أقل من شهرين على تصريحات الرئيس المصري لصحيفة «لوموند»، تلقيت في باريس زيارة مفاجئة من العقيد أحمد حمروش، عضو «الضباط الأحرار» الذين نظموا، تحت قيادة عبد الناصر، الانقلاب على الملكية. سبق و أن التقيته بالقاهرة ضمن الأوساط الناصرية اليسارية، حيث علمتُ أنه قبل الثورة كان جزءا من الجناح العسكري للمنظمة الشيوعية «الحركة الدمقراطية للتحرير الوطني»، التي أنشأها «هنري كورييل». و بهذه الصفة كُلف بطبع مناشير «الضباط الأحرار» في المطبعة السرية للتنظيم الشيوعي الذي ينتمي إليه، و الذي ساهمت شبكتُه في توزيعها. و خلال لقاءاتنا، لم يكن يُخفي إعجابه بل تقديسه ل»هنري كورييل»، الذي كان يزوره مرة بعد المرة في باريس، حيث اختار الزعيم اليهودي المصري منفاه بها. كما لم يكن يُخفي تعاطفه مع دعاة السلام الإسرائيليين الذين كانوا يناضلون من أجل إنشاء دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل. خلال لقائنا بباريس، تقدم حمروش مباشرة إلى الهدف: لقد كان مكلفا من عبد الناصر بدعوة الدكتور «ناحوم غولدمان» إلى القاهرة. كان الأمر غير مسبوق في تاريخ النزاع الفلسطيني، و كان من شأنه إثارة زوابع الاستنكار بالشرق الأوسط. فغولدمان، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، كان واحدا من أركان المنظمة الصهيونية العالمية، التي قادها خلال عدة سنوات. و كان مواطنا لبلد عدو هو إسرائيل. و بذلك فإنه من الممكن توقع قيام أغلب الدول العربية بشجب «خيانة» الرئيس عبد الناصر. و كان هذا الأخير مستعدا لمواجهة العاصفة. ففي أعقاب حواره مع «لوموند»، كان يسعى بوضوح إلى التعبير عن إرادته السلمية و إلى تكذيب مزاعم و ادعاءات إسرائيل. و كان الرهان مُستندا ربما على الأمل في نسف حكومة الوحدة الوطنية لغولدا مايير، التي صرحت قبل شهر من ذلك التاريخ أنها لن تتردد في القطع مع اليمين القومي، الممثل داخل تحالفها، إذا اقتنعت بأن واحدة من الدول العربية مهتمة بالسلام. و لأنه يعرف الصداقة التي تربطني بناحوم غولدمان، فإن حمروش طلب مني أن أُرتب له لقاء سريا مع هذا الأخير. و أثناء اجتماعهما في شقتي الباريسية، كان اللقاء حارا، و التقط الزعيم اليهودي بحماس، الفرصة التي عُرضت عليه بالشروع في حوار مع الرئيس المصري، فوافق دون تردد على المقترحات الثلاث التي قدمها هذا الأخير: أن تكون زيارة القاهرة عمومية، أن ينال غولدمان الموافقة المسبقة لغولدا مايير، و ألا يكون للمباحثات أي طابع رسمي، بما أن رئيس المؤتمر اليهودي العالمي سيقتصر على عرض «وجهات نظره الشخصية» حول النزاع و حول سُبُل إنهائه. كان بديهيا أن الرئيس المصري يريد إبعاد تهمة التآمر لمحاولة نسف حكومة القدس، و هي التهمة التي قد يتورط فيها غولدمان إذا لم ينل موافقة مايير. لذلك فإن اللقاء ينبغي أن يكون ذا طابع خاص تماما بين رجلين، يقتسمان قليلا أو كثيرا نفس الرؤية لتسوية النزاع. و في مختلف المقالات المنشورة في الصحافة الدولية، و من ضمنها «لوموند»، أدان الزعيم اليهودي في العديد من المرات الحرب «الوقائية» التي شنتها إسرائيل سنة 1967 ، و دافع عن فكرة أن السلام ممكن إذا ما أعادت إسرائيل جميع الأراضي العربية المحتلة، باستثناء القدس الشرقية، التي تُمنح نوعا من الحكم الذاتي كي تصبح «فاتيكان» إسلامية. و لأول مرة، كان غولدمان متفقا حول هذا الموضوع مع بن غوريون ، الذي أدان بدوره الحرب على غرار إدانته لدُعاة الضم و الإلحاق. عاد حمروش إلى القاهرة لإبلاغ رئيسه بموافقة الزعيم اليهودي على الدعوة، و عاد بعد بضعة أيام بمشروع البلاغ الذي سيتم نشره إثر لقاء القاهرة. و كان النص، الذي وافق عليه غولدمان، عاديا يُشير إلى أن الرجلين تحادثا حول عدة مواضيع في جو مطبوع بالود، دون توضيح أكبر. و هنا أيضا فإن الهدف من ذلك كان هو التقليص إلى أدنى الحدود، لمواضيع الجدل في إسرائيل كما في العالم العربي. إذ سيكتفي الرجلان بنشر رسالة رمزية تتحدث عن لقائهما لا غير. أخذ رئيس المؤتمر اليهودي العالمي الطائرة جذلا إلى القدس، معتقدا بأنه سيحصل على رخصة غولدا مايير للقاء مع الرئيس المصري. متفائلا إلى أبعد الحدود، كان يعتقد بأن الزعماء الإسرائيليين سيرحبون بهذه المبادرة التاريخية، التي لن تُلزمهم بشيء. و قد كان إحباط غولدمان في مستوى أوهامه. فقد أبدت غولدا مايير اهتمامها بالموضوع لكنها رفضت منحه الترخيص محتفظة موقتا بالسر، كما طلب منها ذلك غولدمان. ادعت مايير أن عليها استشارة الحكومة، التي تعرف مسبقا أن أغلب أعضائها سيعترضون على الترخيص للقاء، علاوة على علمها بأن «تسريبات» ستحصل بالضرورة مما سيؤدي إلى معارضة معظم الأحزاب، و هو ما حصل فعلا. و قد أجبر الرفض الحكومي العلني رئيس المؤتمر اليهودي العالمي على الاعتذار عن دعوة عبد الناصر مُتهما «غولدا مايير» بأنها «نسفت» متعمدة لقاء لم يكُن إلا مُربحا للدولة اليهودية . و في المقابل بررت رئيسة الوزراء الإسرائيلية تصرفها بالقول بأن السلطات الرسمية وحدها هي المُخولة بالحوار مع العدو، و هو ما يعرفه جيدا «دكتاتور» القاهرة. كانت تعتبر أن هذا اللقاء لن يمُر بدون آثار، و أن الهدف منه كان هو إحراج الحكومة الإسرائيلية. و لذلك لم يكن بإمكانها الموافقة على مثل هذه المناورة. بينما لم يجد أبا إيبان، رئيس الدبلوماسية شيئا سوى القول بأن «عدم انضباط» ناحوم غولدمان ينزع عنه صفة محاور لدولة أجنبية، و لو بشكل غير رسمي. كما تعرض هذا الأخير للانتقاد لكونه لم يكشف عن أسماء الذين توسطوا له مع القاهرة، فيما كذبت بلغراد الشائعات التي تحدثت عن أن المارشال تيتو هو صاحب هذا المشروع. و الواقع، أن الرئيس اليوغوسلافي، خلال حديث يعود إلى يوليوز 1968 ، قد قال فعلا للزعيم اليهودي أنه سيحاول ترتيب لقاء له مع عبد الناصر. إلا أن العرض لم يُنجز، كما قال لي رئيس المؤتمر اليهودي العالمي. و بعيدا عن الإقناع، فإن الحجج الرسمية لإسرائيل قد أدت إلى توترات داخل الرأي العام، و إلى سجالات لا مُنتهية في وسائل الإعلام، و إلى طوفان من الاحتجاجات و النقاشات داخل الكنيست، في حين رفع متظاهرون كثيرون شعارات مثل «غولدا إلى المطبخ، غولدمان إلى القاهرة». كما انتقدت ثلاثة أحزاب سياسية و فصائل مهمة من أحزاب أخرى، بما فيها تلك المنتمية للتحالف الحكومي، الموقف الرسمي. و رغم أن حكومة الوحدة الوطنية كانت تمثل عدديا 90 بالمائة من السكان، إلا أن استطلاع رأي نشرته صحيفة «ها ارتز» المعروفة بجديتها، أشار إلى أن 63 بالمائة من الإسرائيليين لا يُوافقون على «الفيتو» الحكومي. أما «جيروزاليم بوست» من جهتها فقد دعت إلى محاكمة رئيس المؤتمر اليهودي العالمي. و بما أن إسمي قد ذكر في الصحافة باعتباري الوسيط بين غولدمان و القاهرة، فإن زعيم اليمين القومي «مناحيم بيغن» هاجمني بعنف نادر واصفا إياي ب»العميل المصري». و في خطاب ألقاه أمام اجتماع لحزبه، الليكود، أضاف قائلا: « لو أن رولو عاش في الغيتوهات، لكان نظم مواكب لليهود نحو أوسفيتز». و هو بذلك كان يهاجم مجموع كتاباتي التي لم تكن لتروقه. فكلفتُ فورا محاميين، واحد بفرنسا و الثاني بإسرائيل، كي يرفعا ضده دعوى بالقذف كنت متأكدا من ربحها. إلا أن مجهوداتهما المتضافرة أخفقت،لأن بيغن رفض التخلي عن حصانته البرلمانية. و في مصر، فقد سارعت وسائل الإعلام لمحو ما اعتُبر عارا لحق بالريس. و هكذا زعمت صحيفة «الأهرام» شبه الرسمية، مثلا و في مانشيطات كبيرة بأن «قضية غولدمان قد تم تلفيقها و اختلاقها», و هو ما لم يمنع عبد الناصر من مواصلة الطريق التي رسمها لنفسه. ففي خطاب ألقاه في فاتح يوليوز 1970، ابتعد عن القاموس التقليدي بإشادته «بدعاة السلام» داخل الدولة الصهيونية، و بذلك يكون أول مسؤول عربي يقول بأن هناك إسرائيليين «طيبين» إلى جانب «السيئين». و بعد ثلاثة أسابيع، و خلال اجتماع مُغلق للهيآت القيادية للحزب الوحيد، الاتحاد الاشتراكي العربي، خلق بعض التململ بتأكيده المبادرة التي قام بها بدعوة غولدمان إلى القاهرة. و أعلن عن مبعوثه بالإسم العقيد أحمد حمروش، لكنه لم يكشف، طبقا للاتفاق، عن هوية الوسيط. بيد أن هذه الثغرة قد تمت تغطيتها في المذكرات التي سينشرها مبعوثه بعد ذلك بإثنى عشر عاما، و فيها أشاد بقوة بغولدمان مستعيرا منه أطروحته التي تقول أن النزاع يتعارض فيه «حقان»، أحدهما يهودي و الآخر عربي، و أن إسرائيل قد اكتسبت حقها في الوجود. و قد غطت «قضية غولدمان» التي انفجرت في بداية أبريل 1970، على حدث آخر أكثر أهمية وقع في نفس الفترة ،و هو توقيف إسرائيل المفاجئ - وبدون أي تفسير- لغاراتها الجوية العميقة على وادي النيل. و قد كشف كيسنجر في مذكراته عن أسباب هذا التوقيف المفاجئ حين قال، أن إسحق رابين جاء لزيارته من أجل إبلاغه بأن أجهزة المخابرات الإسرائيلية اكتشفت بأن التواجد العسكري السوفياتي في مصر أصبح أكثر اتساعا من المُعتقد، و أن حوادث وقعت بين الطيران الإسرائيلي و الخبراء الروس المشرفين على صواريخ أرض جو من طراز سام3. و لذا فإن إسرائيل قررت تفادي مواجهة محتملة بين طيران الدولة العبرية و الاتحاد السوفياتي، مما من شأنه أن يؤدي إلى مواجهة بين القوتين العظميين. لم تنل زيارة عبد الناصر لموسكو في يناير التقدير الحقيق بها. و حسب تقرير تال للمخابرات المركزية الأمريكية، فإن الكرملين قد سلم مصر ما بين أربعة إلى خمسة مجموعات من بطاريات «سام3» مع خبرائها و تقنييها، إضافة إلى عدة طائرات من طراز «ميغ 21» بربابنتها و مدافع مضادة للطيران و رادارات للرصد, أخذت موسكو عمليا مهمة حماية وادي النيل، حامية العاصمة و المدن الكبرى بشكل خاص. أُقيمت «المظلة» السوفياتية على بعد خمسين كيلومترا غرب قناة السويس، و ذلك بالضبط لتفادي مواجهة مع القوات الإسرائيلية المُعسكرة على طول الممر المائي. و قدر الأمريكيون عدد العسكريين و الخبراء الروس المقيمين بمصر بما يتراوح بين 12 و 14 ألفا. و هكذا تبين خطل رأي كيسنجر الذي كان يقول بأن مواصلة حرب الاستنزاف من شأنها إضعاف النظام المصري و النفوذ السوفياتي بالتالي، و هو ما أثلج صدر «ويليام روجرز» الذي كان يُساند الطرح المضاد. ومنذ ذاك الحين نال كاتب الدولة في الخارجية النور الأخضر من «ريتشارد نيكسون» كي يستأنف مشروعه للسلام. تم تسليم «مشروع روجرز2» بشكل رسمي إلى المتحاربين و كذا إلى موسكو في 19 يونيه ،و علمتُ أن الرئيس عبد الناصر توجه مرة أخرى إلى الكرملين دون أن أعلم بالضبط دواعي هذا التنقل. و الواقع أنه أعلن لحُماته عن قراره قبول المشروع الأمريكي. و أبلغهم أنه يكفيه أن المشروع يعترف صراحة بسيادة مصر الثابتة على سيناء، طبقا للقرار 242 للأمم المتحدة، بالرغم من منحه بعض الامتيازات لإسرائيل. و حسب بعض المقربين منه، فإن عبد الناصر كان هو أيضا قلقا لتنامي تبعيته للسوفييت، خاصة أنه كان يعتقد بأن حرب الاستنزاف لن تنتهي بانتصار مصري، لذا كان من الضروري وضع حد بأي ثمن لهذا النزاع المسلح الذي أدى ، حسب تقدير إسرائيلي، إلى مصرع 5000 عسكري و 2000 مدني مصريين (كانت القاهرة متكتمة حول الخسائر حفاظا على معنويات السكان). و لأنه لم يكن مطلعا على الخبايا، اقترف أنور السادات، نائب رئيس الجمهورية آنذاك، خطأ كاد يؤدي ثمنه غاليا. فبينما كان عبد الناصر في موسكو لا يزال،أعلن في ختام مجلس للوزراء كان يرأسه بالنيابة، بأن مصر ترفض مخطط روجرز2 . و لمعاقبته على هذه المبادرة السيئة، قام عبد الناصر بإبعاده فور عودته إلى القاهرة، في انتظار معاقبته في الوقت المناسب. بيد أنه لم يتمكن من ذلك، لأنه سيموت بعد ذلك بثلاثة شهور، مُفسحا طريق الرئاسة للسادات. و بالعودة إلى الخلف، نُلاحظ المفارقة الكبيرة بين هذا العداء المُفرط لأمريكا في يوليوز 1970 ، مع الحماس الملتهب منذ السنة التالية من أجل نيل بركات واشنطن، قبل أن يأخذ طريق القدس لإبرام السلام مع إسرائيل. برزت بارقة أمل عقب الموافقة التي حظي بها «مشروع روجرز2»، ابتداء من 22 يوليوز، تباعا من طرف مصر و الاتحاد السوفياتي و الأردن. إلا أن البارقة ما لبثت أن خبت ثم انطفأت، إذ أن إسرائيل رفضت المشروع، فيما شنت منظمات اللوبي اليهودي بواشنطن حملة قوية ضد «ريتشارد نيكسون»، متهمة إياه بالتضحية بالمصالح الحيوية للدولة اليهودية. و في ثامن غشت، حصل تطور جديد، حين انضمت إسرائيل بدورها للمشروع الأمريكي دون تفسير لدواعي هذا الانقلاب في الموقف. و سيتبدد السر بعد ذلك ببضع سنوات، حين كشف كيسنجر في مذكراته بأن رئيس البيت الأبيض كتب رسالة شخصية و سرية إلى غولدا مايير،يضمن لها فيها بأن الولاياتالمتحدة لن تُجبر الدولة اليهودية على تطبيق قرارات الأممالمتحدة «كما يُفسرها العرب». و بذلك يترك لحكومة القدس حرية عدم إرجاع الأراضي المحتلة مقابل السلام. لم تدم طويلا ،لعبة البوكر الكاذبة التي بدأت . إذ أن إسرائيل تشكت من مصر بدعوى أنها خرقت وقف إطلاق النار بوضعها بطاريات «سام3» في مواقع أكثر قربا من قناة السويس. و هو ما اعتبره كيسنجر أمرا غير مقبول. أما «ويليام روجرز»، فكان يدعو على العكس إلى الصبر، في انتظار أن يفصل تحقيق فيما إذا كان تحريك البطاريات قد تم قبل أو بعد وقف الاشتباكات. و بذلت وزارة الخارجية محاولات من أجل التقليل من أهمية الخلاف معتبرة أن «سام3» ليست سوى أسلحة دفاعية و أن الخلاف يمكن تسويته بهدوء. و كان «ويليام روجرز» يُلح على أن الأساسي بالنسبة له هو فتح مفاوضات بين المتحاربين في أسرع ما يمكن من خلال ممثل الأممالمتحدة، «غونار يارينغ». و هو أفق لم يكن لينال إعجاب الدولة العبرية، بما أن الدبلوماسي السويدي، على غرار المجموعة الدولية كاملة تقريبا، لا يتبنى «تأويل» حكومة القدس للنصوص الأممية. و لهذا، فإن إسرائيل متذرعة بخرق وقف إطلاق النار، أعلنت في فاتح سبتمبر، عن القطيعة الكاملة مع «غونار يارينغ»، و بذلك يكون «مشروع روجرز2» قد عاش،إن أمكن القول، ثلاثة أسابيع لا غير. و فاز هنري كيسنجر بالجولة الأخيرة من معركته مع كاتب الدولة، الذي سيحُل محله على رأس الدبلوماسية الأمريكية بعد ذلك بثلاث سنوات. أدى تبني الرئيس المصري للمشروع الأمريكي ، إلى احتجاجات حادة و مظاهرات نظمتها منظمات الفدائيين، الذين استنكروا «خيانة» مصر و الأردن. و في هذا الخضم، اقترف مُنشطو إذاعة منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت تبث برنامجا لها على أمواج إذاعة القاهرة، خطأ جسيما بانتقاد الرئيس المصري بالإسم، و هو ما دفع هذا الأخير إلى إصدار أمره فورا بتعليق برامج المنظمة. كما تم إغلاق مكتبي المنظمتين الأكثر راديكالية، الجبهة الشعبية و الجبهة الدمقراطية، فيما تم طرد أكثر من نصف كوادرهما، حوالي المائة ، إلى خارج البلاد. عقدت اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية اجتماعا طارئا لها في عمان ، كان خلاله ياسر عرفات ضمن الأقلية، لأنه، عن قناعة أو عن حذر، لم ينتقد الريس، مع شجبه «لمؤامرات الامبريالية الأمريكية»، المتمثلة في مشروع روجرز. و مع ذلك فقد قررت الهيأة القيادية للمركزية الفدائية إرسال وفد عنها إلى القاهرة لتطلب من عبد الناصر»بعض التوضيحات». و قد وصف لي أبو إياد، الرجل الثاني داخل منظمة التحرير و عضو الوفد، كيف جرى اللقاء مع الريس: فقد استقبلهم هذا الأخير ببرودة، و توجه إلى عرفات سائلا بطريقة ساخرة: « في نظركم ،كم من الوقت ستحتاجون من أجل تدمير الدولة الصهيونية و إقامة الدولة الموحدة و الدمقراطية على مجموع فلسطين المحررة ؟» مضيفا : «من الأفضل لكم أن تقبلوا قيام فلسطين صغيرة في الضفة الغربية و غزة ، عوض لا شيء». و واصل عبد الناصر كلامه حول «سياسة الكل أو اللا شيء» فقال : «إن شعبكم لن يتبعكم على طريق اليوتوبيا...حينما نعاني البؤس لأكثر من عشرين عاما في مخيمات اللاجئين، و حينما نحرص على التحرر من الاحتلال الإسرائيلي، فإن أحلام السياسيين، مهما كانت لذيذة، تصبح غير محتملة. لهذا أنا مقتنع بأن الرأي العام الفلسطيني، في معظمه، يفهمني و يساندني حين أصرح بقبولي لمشروع روجرز». و بعد أن شرح بأن اتفاقا ينص على إخلاء كافة الأراضي المحتلة، هو في مصلحة الفلسطينيين مثلما هو في مصلحة الدول العربية المعنية، حاول عبد الناصر طمأنة محاوريه الفلسطينيين قائلا : «لا ينبغي أن تتخوفوا من مشروع روجرز، فهو مُدان مسبقا من طرف إسرائيل». و من جهته كان يسعى فقط إلى ربح الوقت، و استغلال الهدنة من أجل إعادة بناء قواته العسكرية، لأن مواجهة جديدة مع الدولة العبرية لا مناص منها . و ختم بالقول : «تأكدوا من شيء و هو أنه حتى لو نجح مشروع روجرز، فإن لا شيء يمنعكم، إذا كان هذا هو قراركم، من مواصلة المعركة السياسية من أجل انعتاقكم». أعلن عرفات و الرجل الثاني أبو إياد، عن اقتناعهما التام بتوضيحات الريس و عادا إلى عمان، مقتنعين بضرورة عدم التعرض للرئيس المصري. و يفسر الرجل الثاني لمنظمة التحرير في سيرته الذاتية: «تكتيكيا، كان من الانتحار أن نتعرض لعبد الناصر في الوقت الذي يمكن أن نُطعن من الظهر من طرف الملك حسين، و استراتيجيا، لم نكن نملك الإمكانات للقطع مع أقوى الدول العربية، التي نعتبر مساندتها لنا جهويا و دوليا مساندة ثمينة، و ختاما فإننا كنا نثق في وطنية عبد الناصر». شهران بعد ذلك، و قُبيل وفاته بيوم واحد، تمكن رئيس الدول المصرية من إنقاذ الفدائيين الذين كانت القوات الأردنية على وشك إبادتهم في حرب شرسة قاسية. ففي سبتمبر،بدا و كأن أزمة الشرق الأوسط قد بلغت أوجها. فالمُواجهة بين القوات الأردنية و الفدائيين كان بإمكانها هدم الملكية الهاشمية المتحالفة مع الغرب، و رحيل عبد الناصر، بعد ذلك بقليل، أثار جوا من الغموض في مجموع المنطقة،التي تُزود الولاياتالمتحدة و أوربا بحاجياتهما من النفط؟ هذه الأزمة، وُضعت على رأس قائمة المذكرة اليومية للرئيس نيكسون، الذي يُواجه مع ذلك مشاكل أخرى لا تقل خطورة: مثل بناء قاعدة بحرية سوفياتية في كوبا بسرية كاملة، و مثل وصول الاشتراكيين من رفاق «سالفادور ألندي» إلى الحكم في الشيلي، علما أن « ألندي» رئيس لا يُكن الود للولايات المتحدة. و مع ذلك فإن المهمة الأكثر استعجالية بالفعل، بالنسبة لواشنطن، كانت هي إنقاذ عرش الملك حسين، المُهدد من طرف المنظمات الفلسطينية، المُصنفة ضمن فئة الوطنيين المعادين لأمريكا، و بالتالي فهي موالية للسوفييت. فالحرب الباردة لم تفقد بعد حقوقها. الحلقة المقبلة: نهاية حقبة (1)