لا يمكن تقييم حقل عطاء الكتابة القصصية بالمغرب الثقافي الراهن بدون العودة للقراءة المتجددة لرصيد منجز الأستاذ والمبدع مصطفى يعلى. ولا يمكن تقييم - كذلك - تراكم البحث الأكاديمي في إبدالات تلقي السرد المغربي بدون الرجوع المستمر للتأمل في رصيد الأعمال الأكاديمية التي أنجزها الأستاذ يعلى داخل الجامعة المغربية وعلى صفحات المنابر العلمية المتخصصة. ويمكن القول، إن هذه التجربة أصبحت من الغنى بشكل أضفى عليها شروط اكتساب الصفات المرجعية الارتكازية في كل محاولات التوثيق لذاكرة السرد المغربي المعاصر، تجميعا لنصوصه المهيكلة، وتعريفا ببيبليوغرافياته المتنوعة، وتركيبا لقيمه الجمالية والفنية المميزة، واستلهاما لعمقه الإنساني الواسع. لقد استطاع الأستاذ يعلى أن يجمع في اهتماماته بين عمق الرؤية الإبداعية، من خلال إنتاج أعمال ونصوص مميزة تركت بصماتها على مستوى أنساق الكتابة السردية الوطنية الراهنة، وبين المنحى الأكاديمي المفتتن بعوالم السرد الثرية وبتلاوين ذاكرتها وبنزوعاتها التفكيكية للرموز وللقيم وللأدوات. وقد ترجم ذلك، في سلسلة من الإصدارات المتواترة، إلى جانب أطروحاته الجامعية ذات الصلة، ثم مسؤولياته داخل كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالقنيطرة والمرتبطة بتأطير الأبحاث العلمية المرتبطة بالموضوع وبتطوير آفاق درس السرد المغربي المعاصر داخل الجامعة. إضافة إلى ذلك، ظل الأستاذ يعلى شديد الارتباط بمجال النشر وتعميم المعرفة العلمية بمجال انشغاله، من خلال انفتاحه على جملة من المنابر المتخصصة، سواء من داخل المغرب أم بالعديد من الأقطار العربية. ولد مصطفى يعلى بمدينة القصر الكبير سنة 1945، تابع دراسته الابتدائية والإعدادية بنفس المدينة والثانوية بمدينة العرائش، وحصل على شهادة دكتوراه الدولة بالرباط سنة 1993. أصدر المجموعات القصصية المعنونة ب « أنياب طويلة في وجه المدينة « ( 1976 ) و» دائرة الكسوف « ( 1980 ) و» لحظة الصفر « ( 1996 ) و» شرخ كالعنكبوت « ( 2006 ). وفي مجال الدراسات التصنيفية / النقدية للكتابة السردية المعاصرة، أصدر الأستاذ يعلى العديد من الأعمال الأكاديمية الرصينة، على رأسها « امتداد الحكاية الشعبية « ( 1999 ) و» القصص الشعبي بالمغرب ? دراسة مورفولوجية « ( 2002 ) و» السرد المغربي 1930 / 1980 ? بيبليوغرافية متخصصة « ( 2002 ) و» القصص الشعبي : قضايا وإشكالات « ( 2007 ) و» السرد ذاكرة « ( 2009 ) و»ظاهرة المحلية في السرد المغربي « ( 2011 ). وإدراكا من باحثي مغرب اليوم بالقيمة الاعتبارية الرفيعة لرصيد منجز الأستاذ مصطفى يعلى، فقد صدر خلال مطلع السنة الجارية ( 2013 )، كتاب احتفائي / نقدي بالتجربة الإبداعية للمبدع يعلى، تحت عنوان « أعشاب المستنقع : أبحاث في التجربة القصصية لمصطفى يعلى «، وذلك في ما مجموعه 159 من الصفحات ذات الحجم الكبير. والكتاب ? في الأصل ? تجميع لأعمال حلقتين دراسيتين كانت قد احتضنتهما رحاب كلية الآداب بالقنيطرة، خصصتا لتقديم دراسات نقدية متخصصة في الأعمال الإبداعية لمصطفى يعلى، ثم أشرف الأستاذ أحمد حافظ على إعداد مجمل المداخلات وتنسيق عملية نشرها في إطار الكتاب موضوع هذا التقديم. وبخصوص السقف العام الذي انتظمت في إطاره جل المساهمات العلمية الواردة في الكتاب، نقرأ في التصدير التركيبي ما يلي : « ... تطرقت هذه المداخلات إلى تحليل نصوص من ثلاث مجموعات هي : دائرة الكسوف، لحظة الصفر، شرخ كالعنكبوت. فتم التركيز على: الموضوعات والتيمات، الكاشفة عن بعض القيم الرمزية والتناقضات والعلاقات الاجتماعية المتوترة، والتحولات التاريخية للمجتمع، وخاصة في مرحلة حاسمة من مراحل تاريخ المغرب الحديث. وهو ما يمكن من مقارنة مواقف نصية بمشاهد من قصص إدغار ألان بو، وجي دوموبسان، ومسوخ بعض الشخصيات بنزوع المسخ في قصص فرانز كافكا مثلا. المكونات الجمالية والفنية للنص من خلال استجلاء تقنيات الحذف والتكثيف واللعب اللفظي، ومخاتلات السخرية والانعكاس المرآوي وبلاغة التكرار والمحاكاة الساخرة وشعرية الاسترجاع. وهو ما يعني انخراط الكاتب في كتابة قصصية تجريبية مكنته من الاطلاع على جانب مهم من التراث العربي والإنساني، واستثمار بعض ما يزخر به هذا التراث من إمكانات التخييل والتعبير والكتابة ... «. واستجابة لمطلب هذا الأفق العام في استقراء عتبات الكتابة داخل «مغارات» المبدع مصطفى يعلى، سعى محمد أنقار إلى تفكيك معالم انفتاح الدائرة وانغلاقها داخل مجموعة « دائرة الكسوف «، وتتبع أحمد حافظ معالم النص والنص الموازي في مجموعة « لحظة الصفر «، واهتم محسن أعمار بقضايا سيميولوجية الصورة والعنوان في نفس المجموعة القصصية، ووسعت فاطمة كدو تنقيبها في نفس المجموعة بدراسة راصدة لأوجه البحث عن الدفء الإنساني في النصوص القصصية المكونة للمجموعة، اعتمادا على تفكيك بلاغة العنصرين الناظمين في الكتابة السردية للمبدع يعلى والمرتبطين بالآليات الفنية لكل من الصورة والحوار، وهي الآليات التي تقترب كثيرا من بنية كتابة السيناريو ومن نسق الخطاب السينمائي الوصفي المغرق في تفاصيل وجوه الأشخاص والأمكنة. ومن جهته، قدم عبد الله بن عتو دراسة في شكل استقراء في جمالية الحدث داخل مجموعة « شرخ كالعنكبوت «، وساهمت زهور كرام بدراسة حول بلاغة حكي الحالة داخل نفس المجموعة القصصية، وتوقف جهيد شداد عند المقوم الفني في قصة « بارا بول «، ورصد علي برعيش معالم التشكيل الساخر في مجموعة « شرخ كالعنكبوت « انطلاقا من محددات تفصيلية تجعل « الأدب صوت من لا صوت له «، وبالارتكاز إلى رؤية عميقة ساخرة للعالم وعلى استلهام ذكي للتراث وعلى تطويع فني للغة السردية الشفيفة. إنه « تحليل نقدي « ? حسب تعبير علي برعيش ? يتراوح بين سقف قراءة الإنجاز القصصي ضمن نظريات السرد الحديثة، وبين الكشف عن الإمكانات القائمة والمشرعة بالنسبة للقصة المغربية في توظيفها للمحددات السوسيولوجية، ثم بين الإمكانات الإبداعية وأسئلة الواقع الكامنة خلف التحولات والانزياحات الفنية. وفي آخر مواد الكتاب، نجد نص حوار كان قد أجراه محمد مشبال مع مصطفى يعلى تحت عنوان « الإبداع في المغرب يتيم النقد «، كان قد عرف طريقه للنشر على صفحات جريدة « العلم الثقافي « بتاريخ فاتح يونيو من سنة 1996. ويمكن القول، إن هذا الحوار يختزل الكثير من المقومات العلمية / الأكاديمية والفنية / الجمالية التي أثمرت « صنعة « الكتابة السردية لدى مصطفى يعلى على امتداد السنوات الطويلة الماضية، تنظيرا وتحليلا وتطويرا وإبداعا. وبهذه المواد الثرية والمتنوعة، أمكن تقديم آخر نتائج الدراسات التصنيفية والنقدية المشتغلة على أعمال الرائد مصطفى يعلى، مما ساهم في تحويل رصيد منجز هذا المبدع المتميز إلى ورش مفتوح أمام السؤال النقدي الكفيل ? وحده ? بالكشف عن الأبعاد الجمالية والتأصيلية والفنية والمفاهيمية في العدة المنهجية والأدواتية التي صنعت « ذاكرة « المبدع مصطفى يعلى وأكسبتها عناصر الريادة والتميز داخل حقل تلقي الكتابة السردية الوطنية الراهنة، إبداعا وتنظيرا وتوثيقا.