ضمن فسحتها الصيفية لهذه السنة، طرحت يومية ليبراسيون سؤال «من أين تكتب؟» على مجموعة من الكتاب والباحثين في مجالات مختلفة، وهو السؤال الجغرافي الذي تتفرع عنه عدة علامات استفهام تستدعي طقوس الكاتب وتاريخه الذاتي الذي تتشرب منه كتابته. إنها طريقة ابتدعتها الجريدة الفرنسية لمقاربة خيمياء الكتابة التي تظل دائما فاتنة وآسرة. جان ماري غوستاف لو كليزيو، الروائي الفرنسي الحائز على جائزة نوبل للآداب، أجاب على أسئلة اليومية بواسطة المقال المنشور في عددها الصادر يوم 29 يوليوز الماضي، الذي نقترح ترجمته على القراء. أكتب من بلد غير موجود. ليس لأن هذا البلد بدون كينونة ملموسة، أو لأنني في منزلة بين قارتين، إقامتين أو مقعدين. كلا، إن الأمور تجري بالأحرى هكذا: حين أكتب، فأنا لا أكون هنا. ولا أكون في مكان آخر أيضا. أكون في ما أكتبه، أو أكون بالأجدر ما أكتبه. كثيرا ما أعجبت بالكتاب والكاتبات الذين يتماهون تماما مع مكان ما، مع مدينة أو مع واد. كما لو أنهم (أنهن) ازدادوا (ازددن) فيه. كنت أقول لنفسي إنه من الرائع والمطمئن أن يحمل المرء اسم هذا المكان. أن يكون انبعاثه، هويته، روحه الممجدة. لا بد أن هذا يثير الإحساس بالتجذر، مثله مثل خريطة، ويجعل كل جزء من الأرض، كل منبع، كل أيكة، كل زاوية في زقاق تحمل اسما، وأن يكون هذا الاسم ملكي أنا وليس ملك أي شخص آخر. وأفضل من كل هذا، أن تسمح قراءة تلك الأسماء باقتفاء أثر الزمن مثلما نفعل مع تجاعيد الوجوه، وبتذوق التاريخ الخارجي لجسد مثلما نتذوق طعما أو رائحة. أكتب في ولاية نيو مكسيك (التي لا يربطها بالجدة إلا اسمها، ذلك أنها تحتضن أعتق قرية سكنها البشر دون انقطاع في القارة الأمريكية الشمالية). أحب كل اسم من أسمائها، كل مكان من أمكنتها: تاوس حيث عاش ه. د. لورانس... ألبوكيرك حيث عاش هنري روث (في زنقة نيو يورك فضلا عن ذلك)... ريو غراندي حيث يقطن دائما جون نيكولس... الزنقة الخامسة عشر حيث عاش ألدو ليوبولد وزوجته إستريلا... تيسوكي حيث عاش الطابع بوكانغرا... قرية أكوما حيث جنحت باخرة الفاتح كابيزا دي فاكا، والتي حكمها بتسلط العربي إستيفانيكو... سان إيزيدرو حيث يقدس الناس صورة سانت كاثرين تيكاكويثا، سليلة الهنود الموهوك... سانتا في حيث يعيش الفنان التشكيلي جون كويك- تو- سي سميث. وفيشو تشافيز، ساعي شركة المداخن، الذي منح اسمه ربما إلى الزنقة الوحيدة في العالم المحتفية بمهاجر بدون وثائق. أحب الأراضي البائرة. ثمة واحدة هنا، أمام نافذتي. أرى فيها أمواج المحيط الهندي العاتية وهي تتقدم لتحتضر فيها، على شاطئ مغبر تتدحرج فوقه نباتات من أحد أصناف القطائف (الصنف الذي كان يستعمل الأزتيك حبوبه لتهيئ خبز ذي شكل إنساني يتناولونه أمام التماثيل المدمية للآلهة ملتهمة القلوب). أحيانا، على طول خط الأفق اليميني وعلى ارتفاع 1500 متر عن سطح البحر، تشع الشمس ببريق زمردي قبل أن تختفي. أسمع البحر في رحم الريح، مثل إشاعة من إشاعات الطريق. أشم رائحة الأعماق، أمشي فوق حطام صدفات رُميت قبل ستة مليون سنة. قريبا في اتجاه الشمال الشرقي، كشفت مغارة بحرية عن آثار سكن عمره 15 ألف سنة، بضع حصي ملساء، أسنة من الصوان وآثار أكلة. هذا المكان يسمى فولسوم. أكتب وأنظر عبر كل هذا. أكتب عن البحر، عن جزيرة حيث عاش طائر خارق ووديع، أبله كبير وعاشق لم يكن بمقدرته الحياة دون نصفه الآخر، طائر كان يموت من الجوع وهو يبكي حين يتم إيداعه خلف سياج. أكتب كذلك حول شعب كان يعتقد نفسه أزليا، لكن شراسة الأزمنة قلصته إلى حفنة مصرة وشبحية من الأفراد. وهي عودة عادلة للأمور إلى نصابها، إذ كان أبناءه قساة إلى حد لا مثيل له، يقطعون عرقوب عبيدهم الفارين. (...) لقد خط المهاجرون الأوائل العطشى على شِعب إل مورو خربشات مقتضبة من صنف «كيلروي كان هنا». ليست لدي قرية، ولا زاوية زقاق، ولا حتى مقهى معتاد تتم مناداتي فيه باسمي. أحب الورق الأبيض، ذلك الغشاء النسيجي الذي يرتج حين تعبره الكلمات، قليم «بيك» ذي الحبر الدهني الذي يلطخ الأصابع ويسل لعابه في جيبي حين أستقل الطائرة. نافذتي ستكون ورقة بيضاء. أكتب من بلد الكلمات. وهي متخيلة إذا شأنا، لأنها خفيفة مثل نفَس. لكن الأزتيك القدامى كانوا يصفونها على شكل لولب مغيم ينبعث من فم الأقنعة الناطقة. دخان تبغ إلى حد ما. طفلا، لم أكن أومن بشيء آخر غير المكتبات. وفي المكتبة الموروثة عن والد جدي، الذي كان قاضيا في جزيرة موريس، التقيت بالبشر الحقيقيين: لاثاريو دي طورميس، الكيخوتي، بيكويك، ديفيد كوبرفيلد، بول وفيرجينيا، بل وحتى هياواتا الشاعر لونجفيلو. وسأصاحب، لاحقا، تريتسدام شاندي، باردامو، مارلو ومورفين. علما أنني واجهت بعض الصعوبات مع لويز وإيما، لكنها كانت أقل مع جيجي ونينا، خاصة هذه الأخيرة، آه نينا! أحب المدن إلى حد ما. لقد كتب ديكارت كما أورد ذلك كامو: «أذهب للتجول كل يوم وسط زمجرة شعب عظيم، بحرية وراحة مثيلتين للتين تستطيعونهما في طرقاتكم». الكتب هي ماكينات السفر الوحيدة في الزمن. أتخيل شبكة الكلمات والأسماء المكتوبة في مؤلفات كل الأزمنة على شكل نسيج صوتي يغطي العالم ولا ينتهي مع وفاة مؤلفي تلك الكتب، نسيج لا يتغير لا مع حركة الطائرات ولا مع أشكال الردة، شيء مثل ضوضاء الزيزان المصرصرة فوق مدينة سيول العملاقة خلال شهر غشت. هنا أيضا توجد الزيزان، وهو السبب الذي يدفعني إلى الكتابة هنا ربما.