ولد نبيل سليمان سنة 1945. تخرج من قسم اللغة العربية، جامعة دمشق، كلية الآداب، عام 1967. عمل في التدريس بين 1963-1979. أسس دار الحوار للنشر و الوزيع عام 1982 في اللاذقية، حيث يعيش إلى اليوم. منذ 1989 تفرغ سليمان للكتابة الروائية و النقدية. حاضر في العديد من المؤتمؤات والندوات والجامعات، ومنها في: واشنطن سياتل أوستن إسبانياالسويد مصر تونسالجزائر المغرب اليمن الإمارات العربية المتحدة البحرين سلطنة عمان الكويت الأردن لبنان، وسورية. له في الرواية 19 نصا، وفي النقد الادبي و الثقافي 27 كتابا. كما كتب للتفزيون والسينما العديد من السيناريوهات. أيها القارئ نبيل سليمان يكلمك من اللاذقية، من الجحيم السوري. أستاذ نبيل أنت تعيش في اللاذقية، أنت تعيش في سورية، ما الذي يحدث؟ هل هو الجحيم حقاً؟ أظن أن الجحيم هو الجنة إذا ما قيس بالعيش الرغيد في سورية اليوم. في اللاذقية حيث أقيم، كان الصدى الأول للشرارة التي قدحت في أقصى الجنوب السوري، في درعا. ولعل أحداً لا يزال يذكر أن تلك الشرارة أعقبت ما قدح خلال ثلاثة أشهر من شرارات تونس ومصر واليمن وليبيا. الآن قد يكون واحدنا مصلوباً أمام شاشة، كما يليق بالحيوان التيلفزيوني أو بالحيوان الفيسبوكي والحيوان التويتري، وإذا براية سوداء تجلجل بشعارات القاعدة، أو يد تلوح بساطور ولحية سوداء أيضاً، وقاعدية أيضاً أو أدهى، تسبّح لمن حلّل لها ذبح هذا الكافر، ثم تقطع رقبته. ولن تتأخر الشاشة السخية بطائرة تقصف عمارة، ولا ببرميل يهوي على قرية، أو أبواط تهرس صدوراً. وما إن تنقطع الكهرباء، ويرخي الليل سدوله بأنواع الهموم، حتى يسطع في السماء ذيل متقد، كأنه واحد من الشهب السماوية التي تتنصت على الأرض، لكنه ليس شهاباً، بل صاروخ سيزلزلك عبوره فوق رأسك، فكيف بمن سيقع على رؤوسهم هناك أو هنالك، على مسافة مئتين أو ثلاثمائة كيلو متر؟ منذ حرب الخليج 1991 إلى حرب العراق 2003 إلى حرب لبنان 2006، والآن إلى سورية 2011 2013، ما عاد لمثل هذا الكلام المكتوب من مطرح في وصف ما نعيش. ألسنا في عصر الحرب بالصورة؟ لذلك ينحبس الكلام مثل الآهات في الصدور، بانتظار أن تنشق من تلقاء نفسها، أو أن يشقها وحش من الوحوش الذين ضاقت بهم الروح السورية، أكثر مما ضاقت بهم الأرض السورية والسماء السورية. ما اسم هذا الذي يجري في سورية؟ تبدلت الأسماء كثيراً على ما يحدث في سورية منذ 15/3/2011 حتى الآن، لكن الأسماء جميعاً ظلت قاصرة عن أن تفي بحق المسمّى. في البداية قيل: هذا حراك سلمي، هذه انتفاضة شعبية، ثم قيل هذه ثورة، ثم قيل هذه حرب كونية،والآن: هذا هو الجحيم. لكن ما نحن فيه الآن أدهي وأمر من الجحيم. يحضرني هنا تشخيص سمير أمين لمصر 25 يناير 2011، إذ رآها أكثر من انتفاضة وأقل من ثورة. كما تحضرني السحرية التي تلبّس بها القول بالربيع العربي، وأنا ممن أصابتهم هذه السحرية، وتغنيت بها طويلاً وعالياَ، وبخاصة أنها تستحضر في سورية ما عشناه في مطلع هذا القرن من (ربيع دمشق)، والذي وأده النظام شر وأد. حسناً. لكي نستطيع أن نبدع لما نعيش اسمه أو أسماءه، لابد من أن نصحو أولاً، سواء من هول السحرية أم من هول الجحيم، وهو ما يبدو مستحيلاً الآن، وإلى مدى غير منظور. إننا في النفق بلا بصيص. من هم الثوار؟ وماذا يفعلون؟ في البداية كان الثوار هم المتظاهرون سلمياً، ومن الشباب بخاصة. وحين انهزمت السلمية أمام عنف النظام صار صوت العسكرة هو الطاغي، وأخذت الأوراق تختلط، وزادتها المعارضة السياسية اختلاطاً، كما زادتها الأصابع الإقليمية والدولية اختلاطاً. وهكذا ما عاد الحديث يستقيم عن الثورة والثوار، فيما أظن. فنحن الآن أمام آلاف مؤلفة من مقاتلي القاعدة وأشباهها، نحن الآن أمام جحافل جبهة النصرة وما لا يحصى من المجاهدين الليبيين والتونسيين والسعوديين والمصريين واليمنيين و.. ومن مئة جنسية وجنسية أخرى. نحن الآن أمام سعار ديني ومذهبي وطائفي، طغا على البقية الباقية من الثوار الذين أخذ ذلك السعار المتأسلم يقطع رقابهم أيضاً. الآن نحن أمام الهيئات الشرعية وتحجيب بنات السبع سنوات والدعوة إلى الخلافة، وأمام جهاد النكاح!!!، لذلك بات الحديث يجري عن الثورة المغدورة أو الثورة المهزومة أو الثورة المضادة، وأنا ممن يقولون ذلك. حزب الله كيف دخل المعركة؟ بعد الانتصار التاريخي لحزب الله على إسرائيل عام 2006، جاءت نفخة النصر من جهة، وتضاعف تسليحه الإيراني السوري من جهة، ومن جهة ثالثة، ما عاد له أن يصرّف قوته على الجبهة مع اسرائيل، بفضل اليونيفيل. وبما أنه لابد من تصريف فائض القوة التي يمتلكها حزب الله، فمن المحتوم أن يجري هذا التصريف في مكان آخر غير الجبهة الجنوبية، سواء أكان هذا المكان الآخر جبل لبنان أم بيروت أم القصير في سورية، وفيها أيضاً في حمص وأطراف دمشق وسواها. هذا من حيث المبدأ، أي: قوة عسكرية مدججة بالأيديولوجية، لابد لها من أن تخوض من حين إلى حين معركة ما. ومن ناحية ثانية، دفع ارتباط حزب الله المصيري بإيران وبالنظام السوري، إلى أن يخوض الحرب السورية. إنها مأساة هذا الحزب وخطيئته التاريخية الكبرى، مهما تكن المبررات التي يسوقها، من حماية ظهره إلى مواجهة التكفيريين إلى.. ومن أسف أن يصدق في هذه الحالة المثل القائل: غلطة الشاطر بألف. كيف هي مشاعرك تجاه الصمت العربي والعالمي عما يجري في سورية؟ أظن أن الصخب العربي والعالمي هو الغالب، وليس الصمت. فمن السعودية إلى قطر إلى تونس وليبيا ولبنان (خصوم حزب الله) يجلجل الصوت العربي المحارب في سورية، وكذلك هو الصوت العالمي الأمريكي الأوروبي التركي، وبالمقابل هو ذا الصوت الإيراني الروسي الصيني العراقي اللبناني (حزب الله) يجلجل بالحرب أيضاً وأيضاً. أما إن كان سؤالك يذهب إلى الصمت المطبق أمام المأساة المروعة التي يعيشها ملايين السوريين في الوطن وفي الملاجئ، فهذا الصمت هو قمة التبلد والخسة، في ألطف عبارة. ولئن كان كثيرون في الجوار السوري وفي شتّى أنحاء العالم يقدمون ما يقدمون لملايين النازحين (ربع الشعب السوري حتى الآن) في الداخل والخارج، فإن الموقف الغالب هو الموقف المنافق والانتهازي والابتزازي. ماذابقي من سوريا؟ بقي من سورية الكثير، ومهما دكت الطائرات والمدافع والهاونات والرايات السوداء، فسوف يبقى من سورية الكثير. هو ذا جبل قاسيون، هي ذي قلعة حلب، هو ذا نهر الفرات، وتلك هي آلاف المآذن والكنائس التي تتحدى التدمير، تلك هي الأرواح الخفاقة فوق الأحياء والقرى التي سوّيت بالأرض، هوذا الفن السوري، هي ذي الآثار، حتى تلك التيينهبونها أو يقصفونها، وماذا أعدد أيضاً؟ هل ألهمك هذا الجحيم برواية؟ من المعروف أن مغامرة الكتابة في الأتون هي أفدح المغامرات، حيث تنتصب أفخاخالشعارية والسطحية واللهاث خلف الراهن والعابر. لكن ذلك لم يحل يوماًدون الإبداع في الرواية أو الفن التشكيلي أو الموسيقى، في غمرة الحروب. لقد غرقتُ في المجريات خلال الشهور الأولى، وأصابني الشلل بعد الاعتدائين اللذين تعرض لهما بيتي وسيارتي في صيف 2011، وكنت في أولهما في مهرجان أصيلة، فقطعت زيارتي وعدت ليواجهني بعد أيام الاعتداء الثاني الأكبر والأخطر. لم يكن من السهل أبداً أن تنتزع نفسك مما حولك من دماء أو رصاص أو تدمير أو نزوح أو عهر السياسة، كي تخطط أو تنفذ مشروعاً روائياً، والرواية تحتاج دوماً إلى إعداد وزمن. ولأن ما يجري هو بحق رمال متحركة، فقد عدتُ إلى ثمانينات القرن الماضي في سورية، عندما زلزلها الصراع المسلّح بين السلطة والإخوان المسلمين، واستقرأت من تلك السنوات الدامية ما يخاطب ما نحن فيه اليوم وغداً، وكتبت رواية (مدائن الأرجوان) التي صدرت في مارس الماضي، وكنت قد أنهيت كتابتها صيف العام الماضي. وبعد شهور من المراوحة، بدأت منذ مطلع هذا العام أحاول أن أكتب من هذا الجحيم سطراً رواية، فادع لي بالسلامة. كيف انعكس هذا الجحيم في مختلف نواحي الإبداع في سورية؟ كالمألوف في مثل هذا الأحوال، جاء من الشعر القليل الذي نجا من الخطابية أو الأدلجة أو الشعارية. ومن هذا القليل قصائد لنوري الجراح وهالة محمد و أدونيس.. وفي الرواية لم يكن الأمر أفضل، كما بدا في روايات عبدالله مكسور ومها حسن وربى منصور، وحيث تميزت بخاصة رواية خالد خليفة. وقد تابعت إبداعات بالغة التميز خلال السنتين الأخيرتين في الغناء (سميح شقير مثلاً) والأفلام القصيرة وفي الفن التشكيلي (يوسف عبدلكي وعلي فرزات..). وعلى أية حال، لا زال الوقت مبكراً، فكثير من الكتاب والفنانين يرزحون تحت وطأة القمع (من ينسى ما تعرض له علي فرزات) والسجن (مؤخراً يوسف عبدلكي) والمنافي، وهذا كله يعقد المساهمة الإبداعية السورية، عدا عن أن أية مساهمة في ظروف الحرب هي بطبيعة الحال محفوفة بالمخاطر والمزالق. أستاذ نبيل كلمة إلى العالم العربي،إلى العالم، إلى الإنسان القادم، إلى هذه الأرض . لقد حمّلتني مالا طاقة لي به، ومع ذلك آمل ألا أثير سخرية أحد إذا ما استعرت من الشاعر اليازجي مطلع قصيدته قبل مائة وعشرين سنة: (تنبهوا واستفيقوا أيها العرب). أما العالم، فلن أنطق بحرف، بل أمدّ له لساني. ولهذا / لهذه الذي / التي سيأتي / ستأتي أقدم اعتذاري عن إرث الدم والدمار، عن الوحش المنفلت من الإنسان، وعن التقصير في كل شيء، وليس فقط في كتابة الرواية، أو في الوفاء بحق سورية في رقبتي.