هناك بعض الأمور شغلتني كثيرا في الفترة الأخيرة، وأظن أنه كان لها تأثير واضح علي، بل، ربما، هي التي وجهتني من حيث لا أدري وأنا أشتغل على روايتي التي تحمل عنوان « حلم بين جبلين» وهي الرواية الثالثة بعد روايتين سابقتين هما: متاع الأبكم و دوائر الساحل، و أعمال قصصية أخرى .. من هذه الأمور اثنان أساسيان: - الأول ، وهو الأهم ، يتعلق بموضوع أو بالأحرى بسؤال الكتابة، ويتلخص في كوني أخذت أطرح على نفسي بشكل متواصل ومضن السِؤال التالي : ما جدوى الكتابة في وقت نلاحظ فيه عزوفا واسعا رهيبا عن القراءة ، بالتحديد قراءة الإبداع الأدبي من قصة ورواية وشعر و ما إلى ذلك؟..في الواقع هذه الوضعية تدعو إلى القلق. غير أنني والحالة هذه أرى أن الكتابة أشبه ما تكون بقدر لا يمكن التخلص منه، فهي مثل ماء نهر دائم التدفق لا يتوقف ولا يجف، و لدي دليل من هذه الرواية التي تحمل، ربما بالصدفة، عنوان «حلم بين جبلين» ، هو أن ميرة إحدى أجمل و أمهر نساء الرواية لم تعثر على شيء آخر للتعويض عن إخفاقاتها سوى أن تطلب من سيء الحظ عصام الدهماني تأليف كتاب من باب أولى أن يكون رواية، وهي على ثقة أنه سيرضي خاطرها على النحو الذي فعل عندما رسم وجهها وهو صبي يتسلى بتفاصيل الوجوه والألوان..- الأمر الثاني يتمثل في ظاهرة تبدو لي شخصيا ، ولا شك أنها كذلك عند غيري، عصية على الفهم والتفسير... فقد نشأت واتسعت وتحولت إلى عامل أساس من عوامل اغتراب وتغريب الذات عن محيطها الطبيعي. هذه الظاهرة تتجلى في نوع محير للغاية من الفردانية أو الأنانية ، و هي كما يبدو لي لا تتجسد في سلوك تتصارع فيه الذوات وتتنافس لتتكامل كل في إطار حقه وطموحه الإنساني العادل السوي، بل تتجسد وتتراكم كسلوك عدواني متسلط قائم على الرغبة في الهيمنة وعدم الاعتراف بحق الآخر ، لذلك تتجه عن وعي و سوء نية أو عن جهل إلى إقصائه و النيل منه.. لهذا فإن ميرة، مدفوعة دون سابق حقد بكل رغباتها ومشاعرها النبيلة، راهنت على إعلان وجودها بمشاركة عصام في تأليف كتاب اقتنعت عن طيب قلب بضرورة إحياء علاقة الحب التي جمعتهما على الدوام لمواجهة العزلة والفقدان من خلال فعل الكتابة الأبهى والأسمى، وذلك بترجمة المودة إلى علامات، حروف و ألفاظ و جمل، أي إلى رواية...هكذا اختارت الكلمة، أو اختارتها الكلمة، أو هما معا، نكاية في واقع يرفضها و ترفضه، يخادعها وتخادعه، ينساها و لا تنساه لأنها تدونه. أستحضر بهذه المناسبة آراء بعض الباحثين في مجال الأدب الذين قالوا إن مشاريع التحديث عند العرب تكاد تكون كلها متعثرة عدا مشروع الكتابة الأدبية وتحديدا الكتابة الروائية ، بحيث انتصرت الرواية وصارت شكلا لغويا وفنيا يمثل في صورته المثلى لسان طبقة أو بالأحرى فئة اجتماعية مهووسة بالتجديد والتغيير .. في هذا النطاق وحتى لا يكون الأدب بوقا للدسائس و نوايا الغدر فان ميرة آمنت بأن الحب يصلح أعطاب الحياة فوضعت يدها على الرواية كي تعلن من خلالها أوجاعها. و من غير شك تم بتواطؤ مقصود مع الكاتب استحضار تجربتين شريفتين في الحب فيهما معا كثير من ملامح الأسطورة، تعرفهما ميرة أكثر مما تعرف أي شيء آخر، و يعرفهما أيضا عصام حق المعرفة.. التجربة الأولى تتعلق بقصة الحب الروحاني القاتل الذي جمع سيد العشاق قيس بن الملوح وليلى العامرية على الأقل في قصة، وقد خلد الشاعر تفاصيله المذهلة في شعره كما خلدتها أقلام المؤرخين والقاصين ودونوها بألوان مختلفة... والتجربة الثانية قريبة منا تاريخيا، وتتعلق بقصة أخرى تتمثل في علاقة الحب التي جمعت بين الشاعر الفرنسي الكبير لويس أراغون و إلزا.. و لعل من أبرز وجوه الغرابة في هذه القصة هو أن أراغون مناضل وطني اشتراكي يدافع عن بلده أحب إلزا وأخلص لها إلى آخر لحظة في حياته، حتى بعد موتها مكث وفيا لها إلى أن مات بدوره، في هذا الوقت حضر الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران ليعلن عبر شاشة التلفزيون أن شمس فرنسا قد غربت، و بذلك منح للشاعر العاشق والمناضل حياة جديدة، كان ذلك سنة 1982 كما جاء في الرواية. لم يتسع قلب أراغون الكبير سوى لبلده وإلزا والناس النبلاء، وهو القائل: افتحوا قلبي تجدون باريس.. والمهم، كان الحب والوطن والإنسان، وكانت القصة. قد ينتابنا الشك حينما نجد أنفسنا أمام حالات لا تبعث على الأمل، و قد ينتابنا كذلك حينما نقرأ أن ميرة ماتت هي أيضا، لكن علينا ألا ننسى أن امرأة أخرى ظهرت بكل ملامحها ، وهي لم تنجبها كما أنجبت سناء ابنتها ، لكن أنجبتها الرواية.. هل هي وهم؟ مهما يكن فقد ظل عصام متعلقا بهذا الوهم لأنه وحده يضمن له البقاء على قيد الحب والحياة ، لكن الحياة مع ذلك تبدو له مشلولة معطوبة مطوقة بحواجز، مما قاده إلى العزلة والانطواء والخوف، غير أنه لم يتخل عن الوهم والحلم، أي أنه بعبارة أوضح لم يتخل عن الكتابة إذ هي القلق الأفضل لربط الصلة بالعالم ، وهي دائما مستمرة ،لذا ما أن ماتت ميرة برصاصة في الرأس (أو بجرة قلم) حتى ظهرت هذه الفتاة باسمها وصفاتها لتهنئه بمناسبة تخلصه من ميرة التي ليست سوى وهم في عمل خيالي تعلق به ، أي أنها مجرد شخصية متخيلة، لذا عليه أن يتفطن لهذه اللعبة، ويستعيد وعيه، وعليه أن يعلم أنها هي ميرة الحقيقية، الأم والوطن والحبيبة، ثم تعقد معه موعدا في رواية لا أقل و لا أكثر. و لأن هذا اللقاء لم يتحقق بعد لم يكن أمامه غير قلم ووقت للانتظار.. معناه أنه ما حصل إلا على وعد وهو ما زال أمام أوهام أو حكايات جمعها في كتاب .. + حلم بين جبلين،منشورات فكر، الرباط طبعة أولى 2008 دار أسامة، الجزائر طبعة ثانية 2009