هل كان زفزاف يؤمن حقا أن قصة فوق قصة، ورواية فوق رواية، تساوي سلحفاة؟ لم يكن هذا الكاهن الذي يرتدي لحية هوشي منه، يهتم بتسريح شعر قصته. فهي دائما شعتاء، وتدرك تماما أن لا فائدة من الرقص العاري لتلتفت الانتباه إلى أصالتها. لم تكن قصته استعراضية، ولا مترددة أو خائفة، لأنه عرف كيف يبعدها عن مدافئ البيوت الريفية، وعن الاستعارات البليدة التي تجعل الوردة تسرق البحر بلا حياء. ليس من السهل أن تكتب عن زفزاف الذي عاش بيننا مثل قديس. لم يكن شخصا واحدا، بل كان غفيرا وغزيرا. وليس من السهل أن تلج محبرته من دون أن تخرج كالحا وصلدا مثل الغربان.. ليست الغربان التي تهاجم بقسوة حقول القمح أو جماجم الأيائل.. بل الغربان التي تزهو لأنها رأت الشمس تستحم بالطوفان.. هل بإمكانك أن تدرك عمق المعنى المتدفق من لسان »علي« في رواية »الثعلب الذي يظهر ويختفي«: »لو ولد هيمنغواي في الحي المحمدي لكان على أكبر تقدير ماسح أحذية«؟.. المعنى بعمق بئر، فكل شبر كان في بلادنا يغتال العباقرة ويحولهم إلى علبة تنك مرمية كيفما اتفق على الرصيف. هذا معناه أن الوطن جاحد، وأنه يمارس مهنة حفر القبور لكل وردة تينع، ولكل شجرة تورق، ولكل سحابة تمطر. وهل بإمكانك أن تظل باردا أمام ما تمثله »سوزي« في رواية »المرأة والوردة«، حين تتحرك سطرا بعد سطر في الزاوية البعيدة للسقوط؟.. وهل السقوط إلا جحر بارد يطل على ليلنا العلني؟ وهل بإمكانك أن تقرأ »قبور في الماء«، من دون أن تتحول إلى لوح مكسور بعدما عادت قوارب الصيد فارغة بلا صيادين؟.. هل بإمكانك ذلك دون أن تكتشف أن وراء الجدار موسيقى جنائزية يصنعها الملح والغياب؟ وهل بإمكانك أن تقيم في »بيوت واطئة«، من دون أن يجرفك التراب الرملي الممتد على أطراف أحزمة الفقر، ومن دون أن تبحث عن الأوكسجين وأكياس الدم المستعملة، بعيدا عن »لاَبَازْ أمريكان«؟ الأفضل أن تسكت كثيرا. لا تجازف بقطف التفاح حين تعلم بأن جلد زفزاف تحت الجاكيت الكاكي مصنوع من الأسلاك الشائكة، وأن الحياة ليست في عينيه دائما غيلما وغليونا، وأن الأدب كان (وظل إلى آخر رمق من حياته) هو الخبز والزيت والأنفاس. لنتأمل ما كتبه عنه صديقه أحمد بوزفور ذات حلم: «أجلس أمامه على الطاولة، في سطيحة على البحر. هو يشرب قهوته ويدخن، وينظر بعيدا في اتجاه الأفق: حيث يلتقي الماء بالسماء. يمسك السيجارة بيده اليمنى، وبها أيضا يمسك فنجان القهوة من عروته فيرشف رشفة، ثم يضع الفنجان على الطاولة. بيده اليسري يمشط لحيته من أسفل، ويمسح شاربه. أنا أجلس أمامه على الطاولة. وجهي إليه وظهري إلى البحر. أنا أعرف أنه ميت، وأراه أمامي حيا، دون أن أدهش أو أعجب أو أتساءل. كأن ذلك طبيعي. وهو يقول لي كأنه يتابع حوارا سابقا: »ثم إن المطموس لا يفتح«. وأنا أفهم أن المطموس تعني الذي ختم الله على قلبه فلا يعي شيئا، وأفهم أن (لا يفتح) تعني: لا يفتحُ الله عليه، ولا يفلح في شيء. وأفهم أنه يشرح لي أسباب تصرف شخصية من شخصيات قصة له بعنوان (زفزاف) فأقول له: »لكن الطامس يفتح«. وكنت أقصده هو بكلمة (الطامس). فرمى ببصره المدى البحريَّ خلفي، وأخذ يتكلم في غموض وفي خفوت. ولكني فهمت أنه يعتبر شخصية قصته مغلقة كالقُمقم المرصود، ولا يمكن أن يفتحها حتى علاء الدين. وفهمت أنه يعني نفسه حين ذكر علاء الدين. قلت له بعد تردد: »إنني أفكر في أن أكون أنا علاء الدين فضحك ضحكته المتميزة حتى استلقى إلى الوراء في كرسيه البحري المستطيل وهو يشير إليَّ بيده اليمنى ويمشط باليسرى لحيته الخفيفة«. لتكون علاء الدين عليك، أولا، أن تكون زفزاف، ثم عليك أن تثبت أنك قادر على صنع مدينة بأربعة حواجز وسقف واطئ وأرض مغطَّاة بالإسمنت. لا تتوهم أن زفزاف مجرد حقل قمح يحترق على مهل، وأنه يكفي خرطوم مياه واحد لإطفائه. فلا يكفي أن تقرأ ما يكتبه مرة واحدة، رغم أن لغته، في ما يزعمون، »بسيطة« وتطاوع من أدركهم مس الاهتمام والتفاعل مع آلام الذات. ذلك أنني أزعم أن لغته تهزأ من كل الانفجارات، ومن كل الدسائس والمشانق والمزنجرات التي قد تعترض طريقها. إنها تريد أن تلتهم الكل دفعة واحدة. لغة تنتصر لذوي السوابق الذين استطاعوا الاقتراب من »جزيرة الكنز«، وعرفوا أسرارها. لغة تؤمن بأن بإمكان الحلم أن يصبح وطنا. لغة لا تفتش عن فاكهة لم تلمسها يد، بل تبحث عن المعنى في رائحة العرق والأرض، وفي ذلك الألم الذي يتنزه في الشارع العام بقدمين حافيتين. لغة تقدم الدليل على أن وراء الرجل حكاية يتم: مات الأب في حادثة مرورية، ففتح عينيه الشاسعتين على أكواخ من صفيح ثم ساح في الأرض ليبيع الصحف، حيث سمحت له هذه المهنة »بتوسيع معارفه والتحليق في عالم القراءة الشاسع و»ما زالت صورة ذلك الفتى - غير البدين - عالقة بالذهن، وهو يحمل كتبه المدرسية ينهب معنا الطريق سيرا على الاقدام، بين زرافات التلاميذ، أربع مرات في اليوم ذهابا وإيابا بين البيت والمدرسة، تارة تحت وهج الشمس اللافح، وأخرى تحت شآبيب المطر وعصف الرياح العاتية، حتى اذا كان يوم الاربعاء.. ضمتنا قاعة المحاضرات الكبرى، في اطار الانشطة الموازية، منتظرين ان يرفع محمد زفزاف اصبعه (...) لننبهر بسعة اطلاعه، وتنوع قراءاته« (إدريس الصغير: الأخ الكبير. العلم الثقافي - 21 يوليوز 2001). وقد سمحت له قراءاته بالانتساب إلى شعبة الفلسفة بكلية الآداب بالرباط، إلا ان خلافا حادا مع العميد محمد عزيز الحبابي، بسبب تباين في الموقف الفكري جعله يغادر الكلية، ليلتحق بإحدى ثانويات الدارالبيضاء لتدريس اللغة العربية، حيث اكترى هناك بيتا بحي المعاريف المجاور للمركز، وهو الفضاء الذي سمح له بلقاء ومصادقة كوكبة من »حرافيش الأدب«، من أمثال إدريس الخوري، أحمد الجوماري، أحمد صبري، احمد المديني، أحمد زيادي.. وآخرين. حيث كان الجميع يتحلق حول موائد تسمح لهم بالحلم واقتناص لحظة منفلتة عن جحيم الاختطافات والاغتيالات والمعاناة اليومية التي كانت، آنذاك، كالحراب على الرقاب. لقد كان الأدب المغربي، فعلا، بحاجة إلى مسيح يموت بدلا عن جميع الكتاب والأدباء المغاربة، ويتحمل بموته عذاباتهم وغربتهم وقلة حيلتهم أمام التتار الجدد الذين يتكاثرون كالأرانب. وهذا ما أتاحه له موت زفزاف الذي ترك الباب مفتوحا ليخضر القمح في القلوب التي أيبسها العقوق. لقد رحل زفزاف دون أن يحصي هزائمنا أو انتصاراتنا، لكنه جعلنا نهزم القيد والقبضتين الفولاذيتين.. وقد صدق من قال: «إننا لا نكتشف الكتاب الحقيقيين إلا وهم موتى، ولا نمعن فيهم التفاتا إلا وهم رحلوا». مقال نشرته «السفير» اللبنانية حول ملف عن محمد زفزاف