قبل أن أمد له يداً مرتجفة لتصافحه وهو في ريعان السرطان القاتل، كنت أدرك أنني أمام قامة أدبية ترتدي النار مثل بروميثيوس لتضيء العالم. لم يكن محمد زفزاف، الذي عرفته دائما من بعيد والتقيته مرات نادرة، كاتبا يشبه ينابيع الفردوس، بل كان يشبه مليون قلب متعب. كاتب من الفخار الجبلي الرفيع، وليس من الشمع المذاب على ناطحات الضجيج الأدبي. في نظرته الثاقبة كلام مملوء بالسكاكين العادلة، وفي كلامه وسائد وأشجار ونساء وسلاحف وأرض مغطاة بالوحل.. كان في شتاءاتنا الطويلة يشبه المدافئ، وفي لحظات اليأس كان يتحول إلى رجل يلعب بالأحجار.. وأخيرا، تحول زفزافنا إلى «محطة ترامواي» بالدار البيضاء.. وليكن، فهذا إحساس هائل بأن الأدب المقدد من لحم الحواس يتحرك برشاقة في ساحة الرقص، تماما كذراعي «زوربا» المفرودتين وراء الأعمدة. لذا يستطيع هذا الكاتب، الآن، أن ينام قريرا في قبره، وأن يشرب نخب عمره بين سنابل القمح، وأن يكتب قصة جديدة على أجنحة الملائكة. لقد كان زفزاف دائما، وفي كل كتاباته القصصية والروائية، ممددا وراء خندقه الرملي موجها سلاح أرض- جو إلى الطائرات التي تعبر مناطقه القلبية. لم يكن يكتب عن «البساتين التي تخرج من لوحات فان جوخ»، ولا عن «البجع الذي يتدفق أسرابا من بحيرات تشايكوفسكي»، ولا عن العشاق الذين ينفخون في المزامير لإغواء حبيباتهم. كان متعقلا أكثر من اللازم، وفادحا كغرفة ضيقة صالحة للحياة. ولذلك، دأب، كأي ناسك مقلوب، على استلهام موضوعاته وعناوينه ومادة نصوصه من حركية الواقع الاجتماعي الزاخر بالأضداد والمتناقضات وآليات شفط الأوكسجين من الهواء. ينقل حكايات الرغيف المثيرة للإشفاق، ويغتنم بيدين صديقتين، وفي مساحة ضيقة، حياة المقهورين والمنبوذين والمقموعين والمضطهدين والمطاردين في الشوارع. لا يقف على رصيف البرجوازية بحياد بارد، بل يمددها كجثة على سرير من القش اليابس، ويشرع في فضح اضطهادها للفقراء وسلبها اللافت لكرامتهم وحريتاتهم والنبض الحي في شرايين أحلامهم. لغة زفزاف ليست قابلة للاستعارة والمنشطات: لغة تعبيرية تنثر في بيادر القلب حميمية شاهقة، لأنها تعوي كعاصفة في الخارج، وتغرد كمزمار طائر يحول كل من سمعه إلى ريشة في جناح إوزة. لغة من الصميم، تشبه الأفعى والوردة والبحر والسلحفاة والبيوت الواطئة والأقوى.. لغة كالأرض لا تملك شهادة وفاة، وكالسماء لا تلمسها يد إلا إذا كانت من غيم وكواكب وظلال. لغة صخرية شحاذة متعرقة. لغة متورمة من الصراخ والفلسفة والشعر والزمن النائم في وديان من الرماد. لغة غير مخبأة في بيت المؤونة، بل تتنزه في الحارات والأزقة وصحارى العجاج والثلج، وقد تجرب أن تشم «السيلسيون»، وأن تأكل «خبز الشاكمات». لغة تصارع لتعيش، وتعيش لتدحر جيوشا من الحيتان المنقرضة، والديدان المعوية الأنيقة.. محمد زفزاف كاتب إنساني ملتزم وملتصق بقضايا الناس الطيبين؛ وهو نموذج صارخ ومتفرد للكاتب الجاد الذي لم يغادر صباحاتنا إلى الأبد.. «هو شي منه» القصة المغربية الذي نقل بمهارة فائقة ذاك التطلع الناعم للناس إلى بلاد خضراء، لا تأكل أبناءها، ولا تربي التماسيح في زوارقها لافتراس كرامتهم.. رحم الله محمد زفزاف.. وكل يوم وسائق الترامواي يمد ذراعه ليلقي عليك التحية..