تائه بين مفازات الحياة ودروبها، أتلمس الطريق إلى أرض خضراء نورانية تشع منها الحياة، فالذي كنت فيه لم يكن إلا سرابا كنت أحسبه ماء، حتى إذا اقتربت منه وأردت أن أتحسس معانيه وحروفه وأفكاره فإذا به لا شيء، لا ماء، لا حياة، لا مشاعر إنسانية ترتقي بنا ونرتقي بها، إلى أن عثرت على »الشيخ الحكيم« الذي كان هبة ربانية أعطانيها الله بعد أن سرت زمنا في أرض جدباء تقطعت زروعها، وقد كان عثوري على هذا الشيخ بمثابة العثور على كنز أسطوري، وإذا كان الظن أن الكنوز هي الجواهر والألماس والذهب والفضة، فإن هذا هو العامة أما يقين الخاصة فهو أن جواهر المعرفة ولآلئ الحكمة ونور اليقين هي الكنز الحقيقي الذي لو عرفه الناس لتقاتلوا عليه، وما بين ظن العامة ويقين الخاصة تدور الدنيا بنا. كانت رحلتي مع جماعة الإخوان هي رحلة البحث عن الحقيقة، رحلة البحث عن اليقين، ظللت أبحث عنها وأنا في داخل الجماعة، وظللت أبحث عنها بعد ذلك، حتى أمسكت ببعض خيوطها، ولكن هل تستطيع أن تجزم أنك وصلت إلى الحقيقة؟ نعم، قد تنظر إلى الحقيقة وتراها وتدرك بعض معانيها ولكن رؤية الحقيقة غير الوصول إليها، لن نصل إليها إلا في عالم آخر، عالم الخلود، هذا هو عالم الحقيقة، ولكن انتظر معي هنيهة فأنا لم أنته من كلامي بعد... هناك من الخلق بمن فيهم الأنبياء والملائكة من وصلوا إما إلى علم اليقين وإما عين اليقين، أما الذي وصل إلى حق اليقين فهو الرسول (ص)، فالذي عرف الحقيقة ونظر إليها غير الذي وصل إلى عالمها واغترف منها، الذي كان ذلك هو الرسول (ص) هو الذي كان عند سدرة المنتهى، هو الذي تقدم فاخترق، ولوتقدم غيره، ولو كان من نور لا حترق، لذلك كان (ص) هو خير خلق الله كلهم. ألقي في روعي، بعد أن تركت جماعة الإخوان أن أقرب نقطة من الممكن أن تلتقي فيها بالله هي وقت أن تلمس جبهتك الأرض ساجدا لله سبحانه وتعالى، ولكن لا يمكن أن تلتقي بالله بمجرد أن تلمس جبهتك الأرض فقط، ولكن يجب أن يخضع جسدك كله لجبهتك، القلب إن عصى الجبهة ولم يسجد فإنك لم تفعل شيئا، أرأيت إن سجد وجهك للذي فطره ولم يسجد قلبك للذي دب فيه الحياة، أفكنت على شيء من السجود؟! لحظة السجود هي لحظة إعلان الخضوع لله، وأعلى درجات الحرية هي أن تخضع لرب العالمين لا لسواه من خلق الله، يخضع قلبك وتخضع حواسك وتخضع أنفاسك، فإذا خضعت لله ساجدا، جسدا وروحا فإنك تكون قد أعلنت بذلك تحرر روحك من أسر الخلائق ووصلت نفسك برب الخلائق. بعد أن كان بصري قد خاتلني فظللت في جماعة الإخوان زمنا، إلا أن روحي لم تخدعني فكان أن تركتهم ومن بعدها بأيام أو بساعات منحني الله تجربة فريدة.. تجربة ما فتئ القلب يستعيد ذكراها وما برح الجسد يتجرع ألمها كلما ألم به ريحها... وسبحان الله الذي يغير ولا يتغير.. ما بين طرفة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال.. كنت أخطو خطواتي رافع الرأس واثقا مترفعا داخل إحدى المحاكم حيث كنت أمارس مهنتي، وكان بجواري شاب نابه من شباب المحامين من أصدقائي الأعزاء، وعلى حين فجأة لم أشعر بقدمي! وكأنها زالت من مكانها، ثم إذا بي أسمع صوت فرقعة طفيفة صادرة من ركبتي اليمنى ومن بعد ذلك اعتراني ألم رهيب لم تكن له سابقة في حياتي، فكان أن فقدت الوعي من وطأة الألم، وعندما استعدت وعيي وجدت صديقي وهو يبذل جهده في افاقتي ثم قام بحملي هو ومجموعة من الزملاء إلى المستشفى حيث مكثت ساعة أو بعض ساعة داخل أسطوانة أشعة الرنين المغناطيسي التي أشعرتني وكأنني أدخل إلى قبر مظلم خاصة بعد أن عصبوا عيني وصموا أذني، ذلك القبر الذي سيكون حتما نهاية ذلك الإنسان الذي تشغله الدنيا بزينتها عن حقيقة هي أبعد ما تكون عن خاطره، رغم أنها أقرب إليه من حبل الوريد. وبعد أن أجريت الأشعة، أبدى الطبيب عجبه مما حدث، وقال لي: (لديك قطع عجيب في عضلة اسمها العضلة الرباعية وموضع هذه العضلة فوق الركبة مباشرة وهي من أقوى - أو أقوى على حد ذاكرتي - عضلة في جسم الإنسان ومن المستحيل أن تتعرض لقطع دون سبب ! أنا لم أر مثل هذا من قبل، فهذه لا يمكن قطعها إلا في حادث مريع!) وفي غرفة العمليات استشعر فؤادي الموت واختلطت معانيه بحشاشات قلبي فبعد ثانية أو أقل يدخل الواحد في نوم التخدير الذي قد لا يقوم منه أبدا، وقد يذهب منه إلى عالم البرزخ، عندها تذكرت قولك يا الله لا حي لا قيوم( »كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون«) وانتهت الساعات الثلاث في غرفة العمليات وعدت من جديد إلى دنيا الناس وقد أحاط الجبس بذلك الموضع الذي يقع من أخمص القدم إلى أعلى الركبة، وظللت حبيس هذا الجبس عدة أشهر حيث رافقتني عصاي أتوكأ عليها، وظلت عصاي معي لا أجد لي مندوحة عن غيرها حتى أذن الله لي بشفاء من عنده.كانت هذه التجربة من أعظم التجارب التي مرت على حياتي وقد أطلقت عليها (تجربة الافتقاد) ولم يكن الافتقاد هنا افتقاد وفاء لأصدقاء وإخوة عرفتهم في الله وامتزجت معهم عندما كنا معا في الإخوان ثم لم أرهم في محنة المرض، وقد كنت لهم أو لبعضهم وجاء عندما أدار لهم الزمان ظهر المجن، فما أكثر من طرحني من ذاكرة قلبه ولم يعدني وقتئذ، ولكن الذين حملوني في قلوبهم واحتملوني في مرضي أكثر، ولم يكن الافتقاد هنا افتقاد دنيا ستفنى بزخرفها إن آجلا أو عاجلا، فلم يهب الله لي من زينة الدنيا ورزقها كما وهب لي في هذه الأيام، وكأن الله سبحانه وتعالى يضع آية نصب عيني مفادها أن الرزق يأتي إلى العبد لا محالة سواء كان في صحة أو مرض، في قوة أو في ضعف، ولكن الافتقاد الذي أعنيه هو افتقاد السجود لله حينما عجزت عن وضع جبهتي على الأرض أثناء الصلاة، إذ مكثت أشهرا لا أصلي إلا قاعدا، افتقدت حينها تعفير وجهي في الأرض لله رب العالمين في موضع لا يكون إلا لله حيث تكون العزة للعبد حين يذل لله العلي القدير، ما أروع تلك السجدة التي افتقدتها في تلك الأيام الكالحة! وحينما حانت تلك اللحظة النورانية التي من الله علي فيها بالسجود ووضعت جبهتي على الأرض ارتجف جسدي رجفة لم تحدث لي من قبل وارتعشت أناملي وهي تحاذي رأسي على الأرض وانهمرت دموعي تترى بلا حول مني ولا إرادة وقد احتوتني لذة روحية لم تصادفها روحي قبلها قط ونطق قلبي قبل أن ينطق لساني قول الله سبحانه وتعالى:»ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض«. بعد أن سجدت لله الواحد الأحد وارتعش قلبي رعشة المحب الواله الذي احترق شوقا للسجود لله أدركت روحي قيمة العبودية لله.. لله وحده.. وقيمة الذل والتذلل لله.. لله وحده.. واستبصر فؤادي قيمة الحرية حين سجدت لله.. نطق لساني وقتها رغما عني وكأن قلبي أنطقه: الآن آن لي أسجد لرب العالمين لأنال حريتي الكاملة وأتذلل لرب العزة حتى أنال عزتي... ومع السجود جاءت الفطنة.. فطنة الإيمان، وحين سكت اللسان نطقت خلجاتي: حين كنت في الإخوان كنت فيها لتقربني إلى الله زلفى والآن وأنا أضع جبهتي في التراب.. أسجد لله وحده.. سجد وجهي للذي فطرني، وقبله سجد قلبي لرب العالمين بلا وسيط ولا وساطة. هأنذا أخر حقا وصدقا من تبعية العباد إلى تبعية رب العباد.. آه ما أروع السجود لله!