عكفتُ عدة أيام على الكتابة حتى أخرجت ثلاث مقالات، وضعت فيها خلاصة أفكاري وقتها، ووقتها كنت مازلتُ قريبا من أرض الإخوان، لم أبتعد عنهم كثيرا، ذلك كانت المقالات عبارة عن »»خواطر واحد من الإخوان الذين ينصحون الجماعة»« وقد دارت أفكار المقالات حول أن الدعوة ينبغي أن تكون هي أولى أولويات الجماعة، ثم رصدت بعض الأخطاء النفسية التي تسللت لأفراد الجماعة لابتعادنا عن «»منهج الدعوة»« وكان من هذه الأخطاء التي اعتبرتها أمراضا، مرض الاستعلاء على الآخرين والتباهي بالكثرة وذم كل من هو خارج الجماعة وكأنهم ليسوا مسلمين، والنظر للمسيحيين كأنهم أنصاف مواطنين، وفوق هذا فإنني شددت النكير على النظام الخاص وفكره الذي استشرى في الجماعة، وبعد أن كتبت وأفرغت خواطري ذهبت بالمقالات لصديقين إخوانيين من أحبابي المقربين من منطقة الزيتون، الأول هو أحد الإخوان الكبار واسمه »»محمد البدراوي»« وهو أخ له تاريخ كبير في الجماعة إلا أنه كا يحمل في نفسه العديد من الانتقادات لتنظيم الإخوان في عهده الجديد بعد أن وقع في قبضة القطبيين، والأخ الثاني هو أحد شيوخ الإخوان من أصحاب التأثير الكبير على عامة الناس واسمه الشيخ »»جابر حمدي»« وكان أيضا كثير النقد للجماعة ولكنه لم يصدع بنقده أمام الناس إذ كان يكتفي بالحديث معنا عن الهوة السحيقة التي وقعت فيها الجماعة، وأزعم أنني تعلمت الكثير من هذين الأخين وما زلت مدينا بالفضل لهما وان كانت الأيام والاحداث قد باعدت بيني وبين الشيخ جابر حمدي، كان الأخان ولايزالان من أصحاب الحظوة في نفسي، ولعلني أفسح لبعض الأسرار الشخصية أن تتحدث عن أحد هذين الأخين وهو الشيخ جابر حيث كتب الله لي الحج عام 2000م وكنت في رحلة الحج هذه مع فوج لا أعرف فيه أي حاج، وفي منى دعوت الله من قلبي صادقا أن يجمعني لحظة الدعاء بشخص أحبه، ثق أنك في الحج مستجاب الدعوة، فقد كنت أظن أنني أطير ولا أمشي على قدمين من فرط الحالة الوجدانية النورانية التي احتوتني، وسبحان الله، لم أكمل الدعاء حتى رأيت أمامي الشيخ جابر، وكانت مفاجأة لي إذ لم أكن أعرف أنه يحج هذا العام!! شغلتكم كثيرا بالكلام عن بعض جواهر أسراري، ولكن حديثي هنا له مغزى، وحكايتي لها دلالة، فحينما عرضت على الصديقين صاحبي الفضل علي المقالات التي كتبتها عن خواطري النقدية للإخوان، رحبا بها كثيرا وناقشاني في بعض معانيها، واضاف لي الشيخ جابر بعض أفكارها، وفي نفس الجلسة عرض الأخ محمد البدراوي أن يفتح لي مجالا في قناة الجزيرة - وقتها كانت الوحيدة - للمشاركة في برنامج عن الإخوان ورأى بعض المنفصلين، والمفصولين فيها وفي منهجها الفكري الأخير. والآن بعد أن مر على هذا اللقاء عشر سنوات كوامل، تسكن قلبي الطمأنينة وأنا أتذكر تأثير كلامهما الطيب على نفسي وعقلي: نحن لا نبتغي النقد للنقد، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت. كان في قلبي قبل هذا اللقاء بعض الشذرات التي تجرح ضميري، كيف أنتقدهم؟! إلىست هذه خيانة للعيش والملح؟! من أجل »»عضم التربة»« الذي جمعنا لا تجعل كلماتك تفرقنا. بلا جدال كنت أشعر بالحرج من أنني سأتعرض للجماعة بالنقد العلني، ولكن الحوار بيننا فتح لي مجالات لم أكن قد تنبهت لها من قبل، قلنا ونحن نحدث بعضنا كأن كل واحد منا يحدث نفسه التي بين جنبيه: جماعة الإخوان تقدم نفسها للجماهير بحسب أنها تحمل فوق أكتافها الحل الإسلامي كما أنها تطرح نفسها للكافة باعتبار أن أفكارها بل كيانها كله هو طريق الخلاص للأمة، و فوق ذلك فإنه تقدم نفسها في النقابات والأندية واتحادات الطلبة والبرلمان باعتبار أنها »»راعية الحل الإسلامي»« لذلك إذا ما قال الإخوان، إننا نحرص ونصمم ونرغب بكافة كلمات وحروف التوكيد والجزم عندما نصل الى الحكم أن نقيم العدالة في مجتمعاتنا.. أليس من حقنا حينئذ أن ننظر إلىهم وإلى حالهم لنرى هل هم يؤمون بالعدالة فعلا وهل يقيمونها بين ظهرانيهم؟! ففاقد الشيء لا يعطيه.. ومن لا يملك لا ينفق كما يقولون.. فإذا ما وجدنا منهم اعوجاجا في إقامة العدل وهم طلابه أليس من حقنا أن ننبههم علنا وعلى رؤوس الأشهاد إلى هذا الاعوجاج ونطالبهم بتطبيق ما يجاهدون من أجله؟! وإذا قالوا: عندما سنحكم، سنحترم الرأي الآخر وسيتسع صدرنا للمخالفين.. أليس من حقنا أن نشير إلىهم بالعوار الذي أصاب نسيجهم الحركي بصدد عدم احترام الرأي الآخر وضيق صدرهم بالمخالفين، ونرفع أصواتنا حتى تصم الآذان لكي ننبههم إلى خطورة أن يكون »»صدر التنظيم»« ضيقا حرجا تجاه الرأي المخالف؟! من حقنا أن نعرف.. ومن حقنا أن نراقب الإخوان سواء كنا منهم أو لم نكن فإذا ما وجدنا نقيصة أو اعوجاجا أو ازدواجية قام حقنا في التنبيه. مضى زمن التعتيم وما دام للإخوان فرصة في يوم من الأيام في الحكم، فإن علينا واجب المراقبة والنقد من الآن، بل إذا ما وجدنا حال الإخوان في باطنهم يختلف عن ظاهرهم، ووجدنا خطابهم المعلن يختلف عن ممارستهم الحقيقية ،فلنا الحق آنذاك في رفضهم، وفي تنبيه الناس لخطورة مسلكهم، ولتعلم يا صديقي - هكذا قال لي محمد البدراوي - أن رفض الإخوان ليس معناه بأي حال من الأحوال رفض الإسلام، فإننا نقبل الإسلام طبعا وقطعا و يقينا ولكن قبول الإخوان مسألة فيها نظرٌ إذا كان ظاهرهم غير باطنهم. أكمل الشيخ جابر حمدي: لذلك من هو ياصديقي الذي يستطيع مراقبة سلوك الإخوان الحركي ومعرفة مدى تمازجهم مع ما يدعوننا إلىه؟ إنه أنا وأنت وغيرنا ممن انضم إلى الجماعة أو من كان فيها أو مازال منها أو من لم يدخلها في تاريخه.. ولا تظن أن هذا الواجب مشترط فقهيا لمصلحة الجماعة أي جماعة الإخوان ولكنه ياصديقي مشترط فقهيا لمصلحة الأمة.. فأنا أراقب سلوك الإخوان وأنتقدهم حتى ألزمهم من ناحية بالعودة إلى جادة الصواب... وحتى أخبر الأمة لتكون بعموم أفرادها أكبر رقيب على الجماعة أو على غيرها من الجماعات. ومن هذا الباب، قام حقنا في انتقاد الحزب الحاكم وفي مواجهته بأخطائه. ومن هذا الباب أيضا، قام حقنا في انتقاد حزب الوفد وكذلك الحزب الناصري وحزب التجمع وغيرها من الأحزاب والكيانات السياسية الأخرى التي تقدم نفسها بهدف الوصول الى الحكم، لا أفضلية لنا على غيرنا من الأحزاب والجماعات في هذا الشأن. يممت بوجهي ناحية الأخ محمد حسنين البدراوي وأنا أستزيده، كنت أريد أن أسمع تأصيله لحق النقد: كلام أخي الشيخ جابر جيد، جيد جدا، وأنا أحييه على هذا الفكر الرائع ولكن البعض يقول إن النصيحة في العلن فضيحة فما رأيك؟ ألا أكون فضحت الجماعة عندما أنتقدهم علنا؟ قال الأخ البدراوي وهو ينطلق في الكلمات وكأنني فتحت فوهة مدفع سريع الطلقات: معظم أجيالنا نحن أبناء الحركة الاسلامية في عصرها الحديث - وأقول معظمنا حتى لا أقع في تعميم يسلب الموضوعية من قولي - نعيب على الأنظمة الحاكمة استبدادها ورفضها للرأي الآخر، ثم نقع في نفس ما نعيب به أنظمتنا المستبدة.. وكون الحركة الإسلامية بعمومها تنشد الاسلام دينا ودولة، عقيدة وشريعة.. وتبغي رفع رايته، فإن هذا لا يعطيها قداسة ولا يعصمها من الخطأ.. فإذا سكتنا عن اخطائها خوفا من نقد يصد «»المقبلين على الحل الإسلامي»« فإننا نكون قد شاركنا في استمرار الخطأ، من أجل ذلك ولتنبيه الغافلين وتوسيع مدارك الجاهلين قال سيدنا عمر رضي الله عند»رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي»«. لم يصل سيدنا عمر إلى لالئ الحكمة تلك إلا بعد أن وعى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم» »الدين النصيحة««. قلنا لمن يا رسول الله.. قال: »لله ولرسوله ولأمة المسلمين وعامتهم«. ولا يخدعنك أحد يا أخ ثروت فيقول لك إن النصيحة ينبغي أن تكون في السر لأن من تصدى لأمر المسلمين وانشغل بحالهم وهمهم ينبغي وفقا للقواعد الاصولية الصحيحة أن ننصحه في العلن. استرسل الأخ البدراوي بحماسة لم تنقطع: يتملكني العجب يا أخ ثروت ويا أخ جابر ممن يجهلون هذا الامر أو يرفضونه، ففي غياب النقد العلني غياب للشفافية وقد يدفع هذا التعتيم الى استمراء البعض خطأهم، النقد في السر يكون في الخصوصيات كأن أنتقد أخي أو أنصحه في أمور حياته الشخصية، أما إذا نصحنا جماعة أو حكومة أو حزبا أو حركة تتصدى لمصالح الأمة فإننا ينبغي أن ننصحهم علنا وعلى رؤوس الأشهاد، وما تقدم الغرب إلا بذلك، وما تأخرنا إلا عندما جهلنا هذا الحق، لذلك أصلح الحكام لدينا مقدسين مبرئين من الخطإ وأصبحت كلمة الحاكم أو الرئيس أو الزعيم، أو أمير الجماعة حكمة، وإشارته عبقرية، وبما أن الحركة الإسلامية بعمومها تقف على رأس هذه الأمة ناصحة لها تدعوها دعوة الحق فإنها ينبغي أن تضرب لنا المثل بحث أفرادها على النقد والترحيب بنقد الآخرين حتى ولو كان شديد القسوة دون أن تعتبر هذا النقد سبا أو شتما. أدخلت كلمات الأخين جابر والبدراوي على فؤادي سكينة فهدهدتُ شكوكي، تأصيلهما الفقهي للنقد العلني للجماعة سكن في ضميري وأراح فؤادي، قلت لهما قبل أن أنصرف: أنا لا أملك إلا كلمتي سأقولها، والأجر والثواب على الله. **** كان صديقي الصحفي الكبير أسامة سلامة ر ئيس تحرير مجلة روز إليوسف حاليا قد قدمني للأستاذ عادل حمودة أثناء قضية النقابيين، والحق أن الأستاذ عادل حمودة رغم خصومته الفكرية للإخوان فإنه فتح صحيفة »»صوت الأمة»« للدفاع عن الدكتور محمد بديع ومختار نوح وإخوانهما المحبوسين، كنت أنا بطبيعة الحال مصدر كل الأخبار التي تم نشرها في الصحيفة دفاعا عن الإخوان، بل إنه في أحد الأعداد نشر الأستاذ حمودة رسالة من الإخوان المحبوسين موجهة للأستاذ رجائي عطية وجعلها العنوان الرئيسي للصفحة الأولى للجريدة، وكانت الرسالة مقصودة في ذاتها لكي يصل صوت المحبوسين للرأي العام، قال لي الأستاذ عادل: أنا أختلف مع الإخوان، جدا ولكنني مع حقهم في الحرية. عندما أخبرت الأستاذ حمودة بأن لدي سلسلة مقالات عن الإخوان وهي بمثابة دراسة نقدية لهم، رحب بنشرها جميعا. كانت افتتاحية المقالة الأولى مشكلة، إذ انتقدت فيها المستشار مأمون الهضيبي وقلت إنه قال في مناظرته بمعرض الكتاب في أوائل التسعينيات في مواجهة فرج فودة» »إن الإخوان يتعبدون لله بأعمال النظام الخاص قبل الثورة«« وإن كلماته هذه كانت جارحة لمدنيتي وسلميتي، أنتعبد لله بالاغتيالات والتفجيرات؟!! أي إسلام هذا؟! وما الذي دعا المستشار الذي يحترم القانون الى أن يقول قولا لا يحترم القانون؟! نشرت المقالة في جريدة »»صوت الأمة»« وكانت بمثابة مفاجأة لكثيرين، أذكر أن المقالة الأولى أثارت حالة من الجدل، و لو عدنا إلى هذه المقالات لوجدتني أستشرف فيها مستقبل الجماعة وأكتب أدواءها. رن هاتفي المحمول مساء إليوم التالي لنشر المقال وكان الذي يهاتفني هو الصديق الصحفي عبد الحفيظ سعد الذي كان يعمل وقتها في »»صوت الأمة«« قال لي عبد الحفيظ: المقالُ عاملَ ردود فعل كبير يا أبو يحيى، وهناك من أرسل لنا ردا على مقالك. استفسرت قائلا: من الذي أرسل؟ عبد الحفيظ: الأستاذ محمد البدراوي والشيخ جابر حمدي قلت: تقصد أنهم أرسلا يؤيدان نقدي أو يختلفان مع بعضه؟ عبد الحفيظ: لا، يردان عليك، يقولان كلاما سيئا في حقك، سأحضر لك ردهما، لأن الأستاذ عادل يريد أن ترد أنت عليهما، ستصاب »ب»الاستبحس»« والذهول يا صديقي عندما تقرأ ردهما. لم يتلق عبدالحفيظ ردا مني، فقد كان الصمت حينئذ أبلغ من الكلام.