لم يمض عام على الحكم الإخواني في مصر حتى فضح هذا الحكم نفسه، سياسياً ثم ثقافياً. بدا تنظيم الإخوان عاجزاً كل العجز عن فهم الديموقراطية التي حملته إلى سدة الرئاسة، في خطوة مفاجئة لم تشهد مصر ما يماثلها في تاريخها الحديث. بدا هذا التنظيم غريباً كل الغربة عن مفهوم الديموقراطية السياسية التي تعني في ما تعني، احتواء الآخر وتعزيز المواطنة وترسيخ الانتماء... لم يفهم الإخوان الديموقراطية إلا بصفتها العددية والانتخابية، فهم ما إن احتلوا الكرسي حتى راحوا يمعنون في أفعالهم الشنيعة مثل الإقصاء والإلغاء والمنع والمصادرة و«القتل« الرمزي والانتقام الأعمى، ساعين إلى »تصفية« حسابات شخصية، قديمة وجديدة. لكنهم كانوا صادقين في سلوكهم »الإلغائي« هذا، هم المنغلقون على أنفسهم، المتخلفون عن عصرهم، والراقدون رقاد أهل الكهف. ولم يكن أمامهم، عندما وجدوا أنفسهم في سدّة الرئاسة، إلاّ أن يمارسوا سلطتهم العشوائية هم المتمرسون فقط في حكم أنفسهم، متكئين على تأويل »رجعي« للثقافة الدينية، متمسكين ب «»القشور»« ومبتعدين عن الجوهر مثلهم مثل سائر الفرق الظلامية. كان الثلاثون من حزيران (يونيو) يوماً تاريخيا حقّاً في ذاكرة مصر كما في ذاكرة العالم العربي. كانت تكفي تلك الساعات التي عاشها الشعب المصري، ببسالة وجرأة، ليسقط الطاغوت الإخواني ويسقط معه اليأس من التغيير والإحباط العام والخوف من المجهول... كانت تكفي تلك الساعات لتشعل جذوة الأمل وشرارة الحلم وتحطم جدران الأوهام وتكسر حصار العتمة التي حلت على مصر بين ليلة وأخرى. أثبتت هذه »الثورة« المضادّة، أن الإخوان لم يكونوا سوى كابوس عابر كان لا بدّ له من مثل هذه النهاية المفجعة. أثبتت هذه »الثورة« الحية والنقية، أن الإخوان غير جديرين ليس بالحكم فقط، بل بمواكبة العصر الحديث وعيش الحياة المعاصرة التي تخطتهم وتركتهم وراءها ضحايا تخلف وجهل وعناد وقسوة... كم تمنيت لو أنني كنت هناك، في هذا النهار العظيم، في ميدان التحرير وساحات الحرية. الساعات التي قضيتها أمام الشاشة الفضائية أتاحت لي ولو من بعيد، أن أحيا هذه اللحظة التاريخية التي صنعها الشعب المصري، وفي مقدّمه المثقفون المصريون. شعرت أن هذه الثورة هي في بعض ملامحها ثورة ثقافية، ثورة مثقفين كانوا من بين الطليعة التي أدركت باكراً خطر الحكم الإخواني، فواجهته فكراً وفعلاً، كتابة ونضالاً. وفعلاً كانت الثقافة من أهداف الإخوان الأولى، فهم كما يُعرف عنهم، يخافون الثقافة أكثر مما يخافون »شياطين« العالم. استهدفوا المثقفين أولاً وفي ظنهم أن ضرب هؤلاء »المارقين« و«الكافرين« و«الضالين« أو القضاء عليهم، هو الخطوة الأولى نحو »أخونة« المجتمع وفرض الثقافة الإخوانية على المواطنين. لكنّ المثقفين الطليعيين والأحرار والعلمانيين والوطنيين، كانوا لهم بالمرصاد. نزلوا إلى الشارع ومارسوا حريتهم في الاحتجاج والرفض، ثم اتجهوا إلى وزارة الثقافة نفسها، في مرحلتها الإخوانية التي لم تدم طويلاً، واحتلوا مدخلها وأدراجها، رافعين شعاراتهم في وجه الوزير الإخواني الآتي من مهنة المونتاج أو تقطيع الأفلام. بدا الحكم الإخواني متخلفاً تمام التخلف في رؤيته إلى الثقافة، متخلفاً وأمياً وظلامياً... والجميع يذكر سلسلة الحماقات التي ارتكبها فور قبضه على السلطة: إقالات وإقصاءات ومنع وإغلاق ومصادرة ... وتمثلت ذروة الاعتداء على الثقافة في منع رقص الباليه وإغلاق المعارض التي تقدم لوحات عن الجسد ومراقبة المنشورات رقابة اخلاقية ساذجة... وكان أن رد المثقفين العاملين في قطاع الثقافة تقديم استقالات جماعية وإقامة حملات فضح واعتراض، حتى تمكنوا من عزل وزيرالثقافة ووزارته الإخوانية. لم يسمح هؤلاء المثقفون للحكم الإخواني بتشويه الثقافة المصرية العريقة والحرة، ولم يتركوا له الفرصة ليعيث خراباً في قطاع هو من أهم ما تتميز به مصر. ولو كان للحكم الإخواني أن يهدم التماثيل والجداريات الأثرية، الفرعونية والقبطية، لفعل من غير تردد او تقاعس. فالإخوان كانوا من أشد الجماعات حماسة لما قامت به حركة طالبان عندما عمدت إلى هدم تماثيل بودا الاثرية تخلصاً من النجاسة والكفر. كان لا بد من أن يسقط الإخوان في مصر بعد مضي عام على سيطرتهم على السلطة »ديمقراطياً«، فهم خلال هذا العام استطاعوا أن يرجعوا ببلاد الحضارات ومهدها، أعواماً إلى الوراء، سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً. وخلال هذا العام بدوا كم أنهم غير جديرين في أن يكونوا أبناء »ارض الكنانة« وليس حاكميها فقط. إنهم فعلاً غرباء عن روح مصر، عن شمسها التي أشرقت على حضارات جمّة، عن النيل الذي صنع خصوصيتها الزمنية والوجودية. ليس هؤلاء أبناء مصر وليسوا من سلالتها. إنهم غرباؤها الذين لا بد من أن يستيقظوا أخيراً من غفوتهم، غفوة أهل الكهف، ويعودوا إلى رشدهم، فتستعيدهم هذه البلاد التي لا يمكن أحداً أن يخونها.