هذا هو الاسم الذي يطلقونه على مدينة تطوان. ففي أحد المدارات الواسعة، نُصب تمثال لحمامة سوداء، وأنا أتجوّل صحبة الصديق الرّسّام حسن الشاعر. هل كان القصد أنّ ثمّة شيئا أسْود يلطّخ وجه المدينة ، أمْ أنّ الأمر يتعلق بصورة مضادّة للبياض الكاسح الذي يُرى من بعيد وأنت تقترب من فضائها المطلّ عليك؟ هذا وذاك سيّان. فعندما ندخلُ إلى مدينة ما، لأوّل مرّة، سرعان ما ننبهر للونها المكتسب، حسب المناخ الجغرافيّ، ولون ساكنتها وخريطة أزقّتها وشوارعها ونظام العيْش والسَّيْر والكلام المتداول. إنّك قادمٌ من فضاء آخر، من ثقافة أخرى، وعقلية ونفسيّة أخرى، فكيف ستتقبّل هذه المدينة وتتقبّل ثقافة أهلها وعقليتهم ونفسيتهم؟ الأمر جدّ بسيط: أنت قادم من فضاء مختلف. هذه هي المدينة. منذ أكثر من عقد من الزّمن لم أزرْها، إلى أنْ أتاح لي «مهرجان مرتيل للسينما» أنْ أسْرح مثل قطّ أبيض، بياض تطوان، وأتفرّسَ في الوُجوه وفي الأماكن، وأسْتحضر ذكريات قديمة عشتُ أثناءها لحظات هاربة ومُمْتعة صُحْبة مثقّفي تطوان الشّرفاء الذين يلتهمون الكتب التهاما، كما لوْ كانت هذه الكتب الأدبية والفكرية والسياسية ستهرب منهم. كان ذلك في سنة 1968، ونحن قادمون من الشّاون. هنا محمد أنقّار، والشقيقان عبد اللطيف وعبد الحيّ مشبال، محمد بوخزار وحيّ باريو الشعبي، وإبراهيم الخطيب ورضوان حدادو، الشاعر الرّاحل عبد الواحد أخريف والفقيه في نفْس الوقت. هنا يطفو النقاش الأدبيّ والسياسي حيْث يحضر المشرق العربيّ مجسّدا في مصر وكتّابها وفنّانيها، بكلّ تلاوينه، وعبد الحليم حافظ بكلّ أغانيه. كذلك الشّاعر الزّجّال صلاح جاهين وعبد الرّحمان الأبنودي ومجلّة «الطليعة» للُطفي الخولي، والتجربة النّاصريّة ومفهوم القومية العربيّة، الممثّل في «حزب البعث». لقد كانَ هؤلاء الفتية المتنوّرون والمتحمّسون للتغيير، الغيورون على البلاد، علامة فارقة في تطوان محمد الحلوي والفقيه داوود والتهامي الوزّاني. كان بوخزّار شعلة من الذكاء ومن السخرية المرّة التي تغرقنا في متاهات من الضّحك الأسود، قبل أن تنطفئ جذوته ويغرق في الوقت الصّعب والمتطلّبات اليومية. أما محمد أنقار، فكان في بداية انطلاق مشروعه الأدبيّ ممثّلا في القصّة القصيرة. وها هو اليوم يكتب روايات متميّزة ذات حمولة سرديّة مكثّفة نابعة من فضاء تطوان الملوّث بالعلاقات الإنسانية الآسنة، والتحوّلات المجتمعية. كان هذا هو المشهد بالأمس، واليوم؟ - آجي نْتا، الدّينْ ديمّاكْ! قال الشابّ الضخم الجثّة لزميله الجالس قُبالته :» اسكتْ آلْعايل، والله ما نخلّص عليكْ حتى وحدة، دبّر لمحايْفْكْ، أنا عندي نصّْ دْلمغرب، عندي فيلا في مارينا ولوُخرا فْ تطوان وفْمُوضع خرينْ، والله ما نخلّص عليك»، والتفتَ إلى صديقته الشقراء ولفّ ذراعه اليسرى وقبّلها. حدث هذا مساء هذا اليوم الذي أجلس فيه الآن عنْد السيّدة ميرسديسْ. لقد اتّسع العمران في تطوان حتى لمْ تعدْ هناك مسافة بين الأحياء ولا بيْن «المُدُن» الصّغيرة القريبة من بعضها، بلْ صارتْ الطرق الفسيحة تجرّها إلى بعضها، وهذا يجرّنا إلى الدّوْر الخفيّ الذي تلعبه «الغبْرة» اللعينة في اقتصاد تطوان وطنجة وغيرهما من مدن الشّمال الذي كان مهمّشا منذ بداية الاستقلال، فلا شيءَ الآن غير اقتصاد الرّيع والغبْرة! أجلس في إحدى مقاهي شارع محمد الخامس لأتَقهْوى...هل إن تطوان مغربية أم إسبانية؟ كل عمارات مركز المدينة يوحي بإسبانيتها من حيث المعمار المستورد: المدارات الواسعة والشرفات الجميلة والنوافذ العالية ورخام العمارات والأبواب. هذا هو الطراز الكولونياليّ الذي يؤثّث الفضاء العامّ للمدينة، لكن المدينة القديمة، انطلاقا من الفدّان، تعكسُ الطابع الأندلسيّ الذي أتى به الموريسكيّون من الفردوس المفقود، أيّام ملوك الطوائف. هنا ولاّدة وابن زيدون، لسان الدين ابن الخطيب. هكذا تنامُ تطوان بين جيْليْن هما «درسة» و»غورغيزْ»، فلماذا سكت الفقيه محمد المرابط عن المُباح وقد كانَ يجْهر بالحقيقة الدّينيّة ضدّ قوى الظّلام والتّكْفير؟