{ عبد المجيد الشرفي: ما أرجوه هو أنْ تُراجع هذه الحركات الإسلاموية حساباتها، وتتبين أنها في الحقيقة أخطأت الطريق { صلاح الدين الجورشي: تجديد الفكر الديني إذنْ شرط أساسيّ وضروريّ من شروط تحقيق انتقال سياسيّ وديمقراطيّ صلب وقابل للاستمرار { عز الدين العلام: لا يمكنني أبدا أن أتحدّث عن الحرية في الإسلام دون أن يتمتّع الفرد، أي فرد بإمكانية البوْح بإيمانه من عدمه { خزعل الماجدي: الكتب التي تتحدث عن الدين الإسلامي من داخله، من نفس الدين هي السائدة، أيْ الكتب ذات الطابع الإيماني { هاشم صالح: وظيفة الدين هي أنْ يبعد الفرد عن هذه الحالة التي تنطوي على العنف والهمجية والفوضى على هامش ندوة «الدين والثقافة: الواقع والآمال»، المنعقدة بمدينة المحمدية، نهاية شهر ماي المنصرم، آثرتُ أنْ أجمع في جلسة واحدة بين بعض الأسماء المشاركة في هذه الندوة من أجْل متابعة بعض من الأفكار والمواقف التي عبّرتْ عنها. ولعلّ أبرز ما يمكن اعتباره محورا مشتركا، أو مسألة مستعجلة تستحقّ مزيدا من النقاش والحوار هي ما يتعلّق بإشكال التجديد الديني. ومن المعلوم أنّ هذا الإشكال سبق وطُرح في لقاءات سابقة، لكن قبْل ما بات يُعرف بالربيع العربيّ. غيْر أنّ الواقع العربي الجديد، الذي يميّزه بالخصوص صعود الإسلاميين إلى الحكم، وتزايد الفكر التقليدي والمحافظ، والهجوم على دُعاة التحديث والعقلنة الذين يرفضون تسييس الدين والاتكاء عليه من أجل تكفير المثقفين وإدانتهم، بات يفرض أسئلة جديدة ومقاربات جديدة لرصْد هذه الظاهرة وما يترتّب عليها من سليبات تمسّ صورة العربيّ اليوم. ولمناقشة هذا الإشكال وما يتصل به من قضايا فرعية لبّى دعوة «الاتحاد الاشتراكي» الأساتذة: عبد المجيد الشرفي وصلاح الدين الجورشي من تونس، الدكتور فهمي جدعان من الأردن، هاشم صالح من سوريا، عزّ الدين العلام من المغرب، وخزعل الماجدي من العراق. الأستاذ عزّ الدين العلام، تابعتَ أشغال الندوة، كما أنّك أحد المتدخّلين في قضايا تجديد الفكْر الديني بما يتلاءم مع قضايا الحرية والحداثة والديمقراطية الخ. ما هو تقييمك للواقع المعيش اليوم؟ عزّ الدين العلام: أعتقد أنّ هذا أكبر سؤال يطرح نفسه اليوم. وأتصوّر أنّه من اللازم علينا أنْ نتجاوز لغة الخشب في هذا المجال. تلك اللغة التي تدّعي أنّ الإسلام، سواء كفكر أو كتجربة تاريخية، لا يتناقض مع مفهوم الحرية، والواقع يؤكّد عكس ذلك. وأنّه ينصّ بلْ ويدافع عن حقوق الأقليات والعدالة الاجتماعية وحرية المرأة في الوقت الذي تثبت فيه كلّ الدلائل التاريخية استبداده السياسي وظلمه الاجتماعي...والقضية بالنسبة لي واضحة: لا يمكنني أبدا أن أتحدّث عن الحرية في الإسلام دون أن يتمتّع الفرد، أي فرد بإمكانية البوْح بإيمانه من عدمه، دون أن يكون له الحق في إبداء رأيه، أو ممارسة حقوقه دون خوف ولا قيد أو شرط. لا يمكنني أن أتحدّث عن الحرية وسيف الرّدة مسلّط على رقاب الناس. وفي رأيي أنّ هذا اللقاءَ كان فرصة للحديث عن بعض هذه المواضيع الحساسة. وقد أثار انتباهي مساهمة الدكتور خزعل الماجدي في موضوع علم الأديان وخاصة الجانب المتعلّق بالمقارنات التي ما أحوجنا إليها اليوم. كما استمعت بإمعان للدكتور عبد المجيد الشرفي الذي كان متألّقا وعميقا في طرحه لمحدودية الفكر الديني ونقده العميق لمناهج التعليم العربية... الأستاذ عبد المجيد الشرفي، قدّمتَ في مداخلتك تشخيصا للوضع البئيس الذي توجد عليه الثقافة الدينية السائدة في مختلف وسائل الإعلام والقنوات والمدارس الخ، واعتبرتَ أنّ هذه الثقافة الدينية السائدة هي عائق أمام تبنّي القيم الكونية الحديثة كالحرية والمساواة، وقدّمتَ مثالا أثار نقاشا داخلَ من طرف المتدخلين، وهو مثال ارتداء المرأة العربية للخمار. عبد المجيد الشرفي: المثال الذي قدمته عن ارتداء المرأة للخمار يدلّ على أن الحجاب الذي تلبسه النساء بدعوى الحرية يدل على عدم الاعتراف وعدم الإيمان بالمساواة. الحقيقة هي أن المرأة المسلمة التي اعتمدت على مظهر اللباس لا تريد أنْ تقول: هذا ما أفهمه عن الإسلام وليس حرية. ففي الوقت الذي سنطلب منه من الرجل أنْ يحجب شعره، تتحقّق المساواة والحرية للجنسين معا. لكنْ أن ندّعي الحرّية في اللباس ولا نؤمن بالمساواة التامّة في الحقوق والواجبات، فهذا وضع غير عاديّ. الأستاذ صلاح الدّين، هل ما زلتَ تعتقد بأنّ تجديد الفكر الديني يمكن أنْ يتحقّق من داخل هذا الفكْر، أو من داخل البنيات الدينية التي لها صلة به؟ صلاح الدين الجورشي: في نظري، فيما يتعلّق بمسألة تجديد الخطاب الديني الإسلامي، أعتبر أنه لا مصير ولا مستقبل للحركات الإسلامية إلا بتجديد خطابها. وستُعتبر مسألة التجديد من عدمه هي المحكّ الذي سيضع الإسلاميين أمام مصيرهم، وأقصد هنا القيام بالتجديد بكلّ جدية وحسب الشروط العلمية والسياسية أيضا، وإلا فلنْ تطولَ تجربتهم. والشعب الذي جاء بهم إلى السلطة يمكنه أنْ يزيلهم غدا. تجديد الفكر الديني إذنْ شرط أساسيّ وضروريّ من شروط تحقيق انتقال سياسيّ وديمقراطيّ صلب وقابل للاستمرار. عزّ الدين العلاّم: هذه العبارة أصبحت اليوم كثيرة الاستعمال، و لكنها في اعتقادي غير مفهومة بالكامل. ما هو موضوع هذا التجديد بالتّحديد؟ أيكونُ هو الدين في عباداته وطقوسه؟ ماذا سنجدّد في أركان الصلاة والعديد من الأحكام؟ وإن كان المقصود هو الفكر الديني، فأين نجده؟ في تراث فقهي انقضى بانقضاء أسباب نزوله، أم في أدبيات بعض الدعاة و الحركات التي تتحدّث اليوم باسم الدين. أتصوّر أنّ العبارة الأكثر ملائمة اليوم هي نقد الفكر الديني وإبراز محدوديته أمام ما يعتمل اليوم من تغيّرات. ثمّ ما معنى التجديد من الداخل؟ كيف سنجدّد مع بقائنا أسرى للمفاهيم الدينية نفسها؟ و ما المانع من استعمال المفاهيم الحديثة التي فرضت نفسها اليوم لخلخلة تفكير تقليدي أبان عن عجز فظيع. عبد المجيد الشرفي: ككلّ الظواهر الثقافية والاجتماعية، لا يمكنُ أن يتمّ هذا التجديد الدينيّ بدون تأثير من العوامل الخارجية، لأنّ العوامل الخارجية تساعد على هذا التجديد بصورة فعّالة وأسرع. وإذن، فإنّ الحركات الإسْلاموية إذا لمْ تجد معارضة من الخارج، فإنها تكتفي بما هو موجود. لكنْ، مع وجود عوامل خارجية، فإنها تحملها حمْلا على تجديد نفسها. وهنا تكمن مسؤولية الدّولة بالخصوص على مستوى التعليم، وهناك مؤسسات المجتمع المدنيّ كذلك التي ينبغي أن تتحمل مسؤوليتها. فهي بإمكانها أن تساعد على تجديد الفكر الديني. إنّ التعويل على إرادة المسؤولية من الداخل غير كاف. إذن، إلى أيّ حدّ لا يمكن للإنسان أنْ يثقَ في الخطابات المطمئنة التي يصدرها الإسْلاميّين؟ الشرفي: بصفة عامة، أعتبر أنّ هذه الحركات، سواء الإسلام السياسي أو حركات الأصولية الدينية عموما، كانتْ سببا في تأخّر العالم العربيّ في الثلاثين سنة الأخيرة، ومنعتْ هذه المجتمعات من أنْ تهتمّ بمشاكل التنمية، وبمشاكل التقدم العلمي والتقني، وتعميم الرخّاء والقضاء على الأميّة، وجميع المشاكل التي تعاني منها بلداننا اليوم. هذه الحركات شغلت المجتمعات العربية بموضوعات وقضايا لم تكنْ مطروحة ولا أهمية لها. قضايا كان بالإمكان أن تحلَّها المجتمعات العربية تلقائيا وعفويا بدون تشنّج وبدون حاجة إلى التكفير والاتهام بالمروق عن الدين وإرادة أسْلمة المجتمع وما إلى ذلك. ولهذا فإنّ ما أرجوه هو أنْ تُراجع هذه الحركات الإسلاموية حساباتها، وتتبين أنها في الحقيقة أخطأت الطريق. ثمّ إنّ الضغط من خارج هذه الحركات ضروريّ، ولا يمكن هنا التعويل على القوى الأجنبية، لا. المقصود هنا هو الضغط الداخلي المتمثّل في المجتمع المدني وفي الحركات النسائية، وبرامج الدولة، في التربية والتعليم والبرامج ذات الطابع الديني الخ. المشكل هو أنّ هذه القوى المضادة مشتتة، ومن الضروري اليوم أنْ تسعى إلى توحيد أشكال النضال، وأنْ تكوّن جبهة مشتركة. إنّ نرجسية المسؤولين عن هذه الحركات تحول، في الكثير من الأحيان، دون تكوين هذه الجبهة. هاشم صالح: الدّين عبْر التاريخ كان دائما عنْصرا من عناصر الثقافة باعتباره كلّ ما يؤثّر به الإنسان في المجتمع، ويبتعد به عن الحالة الطبيعية. من ثم، فإنّ الدين وظيفته هي أنْ يبعد الفرد عن هذه الحالة التي تنطوي على العنف والهمجية والفوضى، وبالتالي فإنّ الحالة المضادة يلعب فيها الفن والإنتاج العلمي والتطور التكنولوجي دوْرا هائلا في هذا الانتقال. صلاح الدين الجورشي: يمكن القول بأنّ تونس اليوم تعيش مخاضا على الصعيد السياسي، من خلال هذه الجهود التي تبذل في سبيل إيجاد نظام ديمقراطي قادر على الحياة وعلى البقاء، من جهة أخرى هناك مخاض يجري وإنْ بصورة بطيئة وبأقلّ حراك وهو على الصعيد الفكري، أيْ إخضاع تجربة الانتقال السياسيّ في ظلّ حكومة تقودها حركة النهضة، وكذلك في ظلّ صراع مفتوح بين الإسلاميين وبين باقي القوى السياسية. هذه التجربة تخضع للنقد والمواجهة ولمحاولة استشراف مآلاتها. ورغم أنه من الصعب استباق إصْدار أحكام على هذه التجربة، إلا أنّ هناك مؤشرات تدلّ على صعوبة المخاض، وعلى أنّ المسار الديمقراطي في تونس لم يخرج من عنق الزجاجة. لكن الشيء المؤكّد هو أنّ المجتمع التونسي تغيّر كثيرا منذ بدء الانتفاضة. الأستاذ خزعل، قدّمتَ في عرضك تصوّرا جديدا أطلقتَ عليه اسم «المقاربة العلمية للدين»، والقائمة أساسا على علم الأديان الذي يبعدنا عن النظرة الدوغمائية والمتعصّبة عن ديننا الإسلاميّ. خزعل الماجدي: يعود الفضل فيما أعرضه عنّ الدين الإسلامي إلى تخصّصي في «علم الأديان»، وهو العلم الذي تأخّر ظهوره عندنا، مع العلم أنه ظهر في أواخر القرْن التاسع عشر بألمانيا، وساهمَ في تطويره فيما بعد باحثون من مناطق أخرى كميرْسيا إليادْ على سبيل المثال، الذي قدّم أشياء عظيمة. هذا العلْم هو علْم لفهم الظاهرة الدينية، وذلك بمعزل عن الإيمان. فنحن نحتاج إلى أن نعرف: ماذا نؤمن به؟ علم الأديان هو الذي يعلّم ويحلّل ويفكّك النصوص. ويعتبر الأديان موضوعا بغض النظر عنْ أنْ يكون مصدره إلهيّا أو غيْر إلهيّ. الهدف هو الوصول إلى المشترك فيما بين الأديان، وكيف تطوّرتْ فكرة الدّين والروح والإله. لكنْ، للأسف الشديد إنّ موضوعة الدين لمْ تخضع لحدّ الآن للتحليل العلمي، وقد أبرزتُ في مداخلتي بأنّ المقاربة العلمية للدّين لا تسيئ إليه، بلْ إن العكس هو الصحيح. تلاحظ أنّ الكتب التي تتحدث عن الدين الإسلامي من داخله، من نفس الدين هي السائدة، أيْ الكتب ذات الطابع الإيماني. وكأنّ الباحثين يخشَوْن علم الدين المقارَن. صحيح، هناك تحليلات وانتقادات موضوعية، لكنْ ما يغيب هو التحليل العلمي الدقيق لظاهرة الإسْلام. علم الأديان يفتح الأمور على مصراعيْها، ويحلل الدّين من مختلف الجوانب الاجتماعية والثقافية والسيكولوجية الخ، ويعطي الخلاصات لمنْ يريد الاستفادة منها وبالتالي فهْم الظاهرة الدينية. إلى أيّ عامل يمكن أنْ نردّ هذا الغياب شبه التّام لعلم الأديان المقارن في المجتمعات العربية الإسلامية؟ للأسف، أغلبُ الجامعات التي تتوفر على شعب للدراسات الإسلامية لا تدرج تخصّصات عن علم الأديان المقارن، وحتى في حالة وجودها، فإنها تكونُ دراسات من داخل الدراسات الإسلامية، هذا هو المشكل. لا تدرس الدّين الإسلامي بطريقة علمية وشمولية. فدائما يُدرس الدين الإسلامي وكانه دين فريد موجود لوحده، هو خلاصة الديانات ومتممها الخ. هذه النظرة ينبغي أن تُصحّح، فالديّن الإسلامي مثله مثل باقي الأديان. ويجب النظر إليه مرتبطا بالأديان الأخرى. يجب النظر للظاهرة ككل بدون تجزيء، بما فيها الديانات القديمة غير التوحيدية كالمسيحيّة واليهوديّة. عبد المجيد الشرْفي: التركيبة الأصولية الدينية في تاريخنا وفي تربيتنا لا تشبهها تركيبة مماثلة في بقية الأديان. فقد أغلق الفقهاء والأخباريون القدامى الإسلام وتاريخه حين أعلنوا بأنه آخر وأفضل الأديان. وقد ألجم على مدى ألف وخمسمائة عام كل من يحاول مناقشته. وهكذا أقفلت الأفواه من خوفها. أعتقد إن أصعب شئ في هذا الزمان هو أن تناقش العقائد والأصول الإسلامية الراسخة. والأصعب في الأمر أن الناس لا تريد ذلك، لأن بقاء السلطة الذكورية وبقاء السلطات السياسية المختلفة رهين بتشدد الإسلام وانغلاقه. الإسلام في وجداننا كدين محبة وسلام أشبه بالحلم، وحين نقول إنه يتعايش مع الأديان الأخرى، فإن هناك ما يتحرك في دواخلنا ويمنعنا من الاقتناع بهذا. إن الأمر في غاية التعقيد وفي غاية الأهمية أيضاً. كيف يمكننا أن نواجه هذا العصر الشديد التركيب في حضارته وعلومه واقتصاده بأفكار ساذجة عن الحضارة يحملها السلفيون الجدد والذين يدعون العلم في الدين؟ لقد استطاع الإسلام الوسيط أن يستوعب العصرآنذاك ويستجيب بقوة لمعطياته ويقدم للحضارة البشرية إضافات نوعية. الأستاذ الماجدي، إذا ربطنا هذا المشكل بالإسلام السياسي، كيْف تقيّم ذلك؟ خزعل الماجدي: الإسلام السياسي المعاصر، في نظري، فقير جدا ولا يفقه شيئا عن طبيعة هذا العصر وتحولاته الكبرى.وهو لايملك سوى الشعارات الدينية السطحية ولا يرتجفُ خجلاً من انه يستخدم أحدث أدوات العصر في الاتصال والعيْش الكريم دون أن يشعر بأنه لم يساهم فيها ولم يدفع باتجاه المساهمة في إنتاجها. كلّ الشعوب تساهم اليوم في المدنية الإنسانية بكل قطاعاتها وخصوصا في العلم، ما عدا العرب. هم يعتبرون ذلك طبيعياً، وأنا أراهُ مُخجلاً. يوغلون فيعلوم الدين، ولاينتبهون إلى أنهم على أرض الواقع ويحتاجون علوم الأرض في كل خطوة يخطونها. مافائدة التوغل في الأوهام وتركِ الحاضرِ أجردَ وأصمَّ ولا فعلَ فيهِ؟ أنا حزين جدا على مايجري، وأخشى أن تكون هذه المرحلة تصفية حقيقية لحاضرنا ومستقبلنا بمعاول الماضي. هلْ هناك سبب محدّد ورئيسيّ يمكن أنْ نردّ إليه هذا التدهور؟ في الحقيقة لا يمكن أنْ نردّ ذلك إلى سبب واحد ووحيد. هناك أسباب متداخلة أدّت إلى هذه النتيجة. هناك ما أسماه الجميع بالربيع العربي، وهناك الفشل الكلي أو النسبي للعديد من التجارب الليبرالية والقومية...وهناك أيضا، و هذا موضوع آخر، المفهوم الكمّي للديموقراطية والانتخابات...ولكن، وكما يُقال: وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم. ها هي ذي بعض الحركات التي تسمّي نفسها إسلامية تتحكّم اليوم في دواليب السلطة، فلنرى ما ذا ستفعل، وكيف لها أن تطبّق عمليا وفي الميدان ما تسمّيه مرجعية إسلامية. الأستاذ فهمي جدعان، في مداخلتك، انطلقتَ من مفهوم «الإشارات» الذي يحيل على البعد الإشْراقي في الدّين، وذلك لكيْ تتحدث عن الدين بمنطق «العقل الوجداني». فهمي جدعان: أنا من المدافعين عن فكرة عدم استبداد العقل التجريبي المجرد بوجود الفرد وبمصيره. صحيح أن العقل نحتكم إليه من أجل حلّ مشاكلنا الشخصية اليومية وفي العلم، لكن الدين بالنسبة لي معى فينومينولوجي يقوم أساسا على التصديق الروحي والوجداني والمعرفي في آن. من هنا لا يمكن للباحث أن يتجاهل الكينونة الوجدانية لدى الإنسان. ما نريده هو الإنسان التكاملي، التواصلي الذي يطلب المساواة والعدالة والتعاطف الخ. هذا هو الإيمان الحقيقيّ وليس الإيمان الأداتي المسكون بإرادات السلطة والانفراد بالحكم والاستبداد. ألهذا السبب يرْفض عدد من الإسلاميين هذا النزوع الروحاني للدّين؟ نعم، لهذا تجد أنّ أهل الدين يعتبرون الحداثة والعلمنة نقيضا للدين، وهذا خطأ. الحداثة وقيمَها الإنسانية تجدَ جذورها في الدّين. فنحنُ لنا حداثات كما لنا إسلامات متعددة المظاهر والمستويات. الأستاذ هاشم صالح، في مداخلتك، ركّزتَ كثيرا على الراهنية الكبيرة التي يشكّلها فكْر محمّد أركون اليوم. هل يمكنك توضيح ذلك أكثر؟ هاشم صالح: في هذا المنعطف الذي يعيشه العالم العربي، تتجلى راهنية فكر محمد أركون وفائدته بالنسبة للمسلمين جميعا. فقد قدم أركون تشخيصات دقيقة لكلّ مشاكل العالم الإسلامي. أركون مفكّر على مسْتوى العالم العربي ككل، ويطرح قضايا وحلولا كثيرة مثل علاقة الدين بالسياسة، التشريع ومقتضيات الفكر الحديث، الأحوال الشخصية، ، ومسألة العلاقة مع الآخرين، والمُصالحة بين الدين والحداثة، وهو موضوع مطروح بإلحاح في ظلّ صعود الإسلاميين والحكم، وتخبّطهم، وهذا التخبّط ناتج عن عدم بلورة رؤية واضحة لتحديث الفكر الإسلاميّ والعقيدة والعقل الإسلاميّ. من هنا راهنية العودة إلى فكْر محمد أركون، ومواصلة ما كان قد بدأه. وأنا أقول أنّ الإسلاميين لا يمكنهم الخروج من المأزق الذي يوجدون فيه إلاّ بالعودة إلى كتابات محمد أركون وما قدمه من مشاريع فكرية.