في الثاني من شهر يونيو الجاري، احتفلت العاهلة البريطانية إليزابيث الثانية بالذكرى الستين لتنصيبها على عرش الإمبراطورية التي لم تكن الشمس تغيب عنها. وحسب العديد من المتتبعين للشأن الإنجليزي، فإن هذه الذكرى تمثل منعطفا في ولاية الملكة التي انطلقت عام 1953، ذلك أنها ستأخذ نوعا من المسافة لتفسح المجال لمرحلة انتقالية يبرز خلالها نجم ولي العهد، الأمير تشارلز. لكنهم يجمعون على أن تنازلها على العرش ليس واردا، طالما ستسمح لها حالتها الصحية بالجلوس عليه. يحلل المقال التالي الذي نشرته جريدة «لوفيغارو» ضمن عددها المؤرخ في 1/ 2 يونيو والذي نقدم للقراء أهم مضامينه، معطيات المرحلة الانتقالية التي شرعت أبوابها الذكرى الستون لتنصيب إليزابيث الثانية ملكة على بريطانيا، وهو من توقيع مراسل اليومية الفرنسية بلندن، فلورنتان كولومب. إعداد: أيوب البوعزيزي طوال الأسبوع الماضي، قامت إليزابيث الثانية، البالغة من العمر 87 سنة، بأنشطة يومية مكثفة، لتخلد للراحة خلال نهاية الأسبوع في قصر ويندسور. إن الأعلام الأرجوانية المزينة لوسط لندن، تؤشر على مرحلة جديدة وهامة في سياق إحدى أطول الولايات التي عرفها العرش البريطاني. فبعد الاحتفاء، في السنة الماضية، بمرور ستين سنة على اعتلائها العرش، تحل يوم الأحد 2 يونيو الذكرى الستون أيضا لتنصيبها عليه رسميا، التنصيب الذي تم في 2 يونيو 1953 عقب فترة حداد طويلة على وفاة والدها، جورج السادس. لكن الاحتفالات لن تتم إلا يوم الثلاثاء 4 يونيو، عن طريق قداس تحتضنه كاتدرائية ويستمنستر ويحضره أفراد العائلة المالكة وألفا شخصية مدعوة. وإذا كانت هذه الاحتفالات أقل فخامة من السابقة، فإنها تتزامن مع دخول العرش البريطاني منعطفا أساسيا. رغم حضور الملكة بقوة في السنة الماضية عبر المشاركة في ما لا يقل عن 425 مناسبة رسمية، فإنها شرعت في التراجع بعض الشيء عن الظهور عبر تفويض بعض وظائفها للأمير تشارلز وأفراد آخرين من الأسرة الملكية. وقبل شهر، بمناسبة الافتتاح الرسمي للدورة البرلمانية، لم تكن مصاحبة فقط بزوجها الأمير فيليب وولي العهد، بل أيضا، وهذه سابقة، بزوجة هذا الأخير، كاميلا دوقة كورنوول. وبدا، حينها، أن الرسالة الموجهة للمملكة جلية، مفادها بداية نوع من التدبير المشترك غير الرسمي على رأس «المؤسسة». ولأول مرة كذلك، منذ أربعين سنة، لن تشارك العاهلة في قمة الكومنولث التي ستنعقد بسريلانكا في نونبر المقبل، وهي القمة التي سيمثلها خلالها نجلها تشارلز. علما أن قصر باكنغهام علل هذا القرار يندرج في إطار التقليصمن تنقلات الملكة إلى الخارج. وخلال فصل الشتاء، ألغت إليزابيث الثانية العديد من التزاماتها، كما تراجعت عن زيارة مبرمجة إلى روما بسبب التهاب في الأمعاء فرض عليها المكوث أربعا وعشرين ساعة في المستشفى. ومن جهته، فالأمير فيليب، البالغ من العمر 92 سنة، ولج المستشفى عدة مرات خلال الشهور الأخيرة. إن الملكة واعية بأن الكف عن ممارسة مهامها وشيك، ولذا فقد شرعت في إعمال انتقال سلس، لكن دون الإعلان عن ذلك. كما أن محيطها جد حريص على تخفيف التزاماتها. «لم تعد تقضي، في الحقيقة، إلا ثلاثة أيام في لندن، وهي تمكث مدة أطول الآن في قصر ويندسور. تحركاتها العمومية تقلصت وسيارتها أصبحت تركن أقرب حتى لا تقطع مسافة طويلة مشيا على الأقدام»، يصرح متتبع للشأن الملكي البريطاني. وحسب سيمون لويس، المكلف السابق بالتواصل في قصر باكنغهام، فالأمر ليس مرتبطا بمشاكل العاهلة الصحية المستجدة، بل هو وليد تخطيط مسبق وطويل من طرف العائلة الملكية. ووفقه دائما، فمنذ بداية عقد 2000 أصبح الأمير تشارلز والأميرة آنا يترأسان العديد من المناسبات الرسمية، علما أن ممارسة من هذا القبيل لم تكن مستساغة سابقا. نحن أمام معطى مفصلي في الولاية الملكية، يشرح المحلل روبير جوبسون، وإرسال ولي العهد لرئاسة قمة الكومنولث مؤشر دال على شعور العاهلة بأن الأمير تشارلز وكاميلا مهيئان لانتقال الحكم. وتجدر الإشارة أن رئاسة الكومنولث ليست وراثية وأن رؤساء الدول الأعضاء، البالغ عددها 54 دولة، هم الذين يعينون رئيسهم. لقد عينوا إليزابيث الثانية في هذا المنصب بعد وفاة والدها، وهي بعثث لهم تشارلز لكي يتبنونه. لقد أصبح الكتاب الخاصون للملكة ولولي العهد ينسقون أجندات الاثنين خلال اجتماعات مشتركة. وإذا كان التنسيق يتم بمهارة وذكاء، فالمسؤولون في قصر باكنغهام يفضلون التطورات التدريجية على الثورات. أجل، لقد مثل الأمير تشارلز وزوجته كاميلا الملكة إليزابيث الثانية في حفل تنصيب العاهل الهولندي الجديد خلال الشهر الماضي، لكنه من المستبعد اقتباس مثال بلاط الأراضي المنخفضة. يستطيع البابا أن يتنازل عن كرسيه والملكة بياتريكس أن تتخلى عن عرشها إذا راقها ذلك، لكن إليزابيث تظل متشبثة بالعرش. إن الوعد الذي قدمته لرعاياها وهي تخلف والدها حين كان عمرها 21 سنة، يشبه عقيدة منقوشة في الرخام: «سأخصص حياتي لخدمتكم، سواء كانت قصيرة أو طويلة». وقد حدث هذا بعد مرور عشرة سنوات على الأزمة التي خلفها تخلي إدوارد الثامن على الحكم بعد أن قضى فيه 326 يوما ليستطيع الزواج من المطلقة واليس سيمبسون، وهو القرار الذي شكل صدمة بالنسبة للنظام البريطاني. ومع ذلك، فعقليات البريطانيين تتطور حول طابو تنازل العاهلة على العرش. فحسب استطلاع رأي حديث، يرغب 53 % من بينهم أن تواصل إليزابيث الثانية الحكم إلى حين وفاتها، بينما كانت نسبتهم تصل إلى 64 % قبل شهرين فقط. ويعتقد 48 % من رعايا الملكة أنه بإمكانها التنازل عن العرش في حالة الإصابة بمرض يمنعها من مماسة مسؤوليتها. وفي رحم هذا الصوت الأغلبي المدافع عن شرعية الملك إلى حين الموت، أشار العازف خارج السرب ديفيد آرونوفيتش، محرر افتتاحيات التايمز، إلى «نكران الشعب لفناء ورثة العرش»، متسائلا: «هل علينا حقا الاعتقاد بأنه بإمكان الملكة أداء السلام والقيام بالزيارات وإلقاء الخطب إلى يوم موتها؟» يقول أستاذ التاريخ فجامعة أوكسفورد، فرانك بروشاكا، إن كلمة التنازل على العرش هي الكلمة الأكثر مقتا في أوساط الجهاز الملكي البريطاني بعد كلمة جمهورية. ويضيف أن هذا ما يدفع إلى تفضيل انتقال الحكم تدريجيا إلى حين وفاة إليزابيث الثانية، ما لم تصب بعائق صحي جسيم يجعلها عاجزة عن الاستمرار على العرش ويفرض إقامة وصاية عليها. يجب أن يرى الرعايا عاهلهم ليحبوه، وشرعية هذه المؤسسة الرمزية في بريطانيا تقوم على شعبيتها. وبناء على هذا المعطى، فإن النهاية الطويلة لحكم الملكة فيكتوريا، التي انعزلت في قصرها بسبب حزنها الشديد على وفاة زوجها ألبير، أدت في حينها إلى تعميق المشاعر المناهضة للملكية. ولا تقلل حاشية البلاط البريطاني من المخاطر التي قد تتولد عن انتقال العرش، ذلك أن بعض أعضاء الكومنولث، مثل أستراليا، ترغب في توظيف مناسبته لمراجعة روابطها مع القصر، كما أن جامايكا أعادت النظر في دور الملكة كريسة دولة. لقد حافظت إليزابيث الثانية على صورتها الإيجابية بفضل زياراتها الكثيرة إلى مكونات الإمبراطورية، لكن هذه الصورة قد تخضع للخدش في حالة توقف هذه الرحلات. مما يستلزم التهيء الجيد لتسليم المشعل للأمير تشارلز، ومعه ما راكمه العرش الذي تجسده الملكة من رأسمال من التعاطف، هو الذي لم يتمرس بعد على مثل هذه التمارين بالقدر الكافي. وستمثل قمة كولومبو لدول الكومنولث المزمع انعقادها في نونبر القادم امتحانا حقيقيا له على هذا المستوى. يعتبر الأمير تشارلز ولي العهد الذي انتظر أكثر من غيره التتويج ملكا. وهو يصعد اليوم تدريجيا الأدراج المؤدية إلى شخصية العاهل بعد طي صفحة تسعينيات القرن الماضي التي كان خلالها يتعرض للنقد الشديد بسبب تصرفات الأميرة ديانا. حاليا، وعقب مرور ثمانية أعوام على زواجهما، استطاع تشارلز وكاميلا الظفر بمودة الشعب. كما أن الزيارة الفردية التي قامت بها هذه الأخيرة لباريس في الأسبوع الماضي تندرج ضمن أجندة حشد الإعجاب والتعاطف معهما، وهي أجندة يحكمها المدى البعيد. ولمساعدة حاكمي بريطانيا العظمى المقبلين في مسار كسب الإعجاب والتعاطف هذا، يجد الأمير تشارلز وكاميلا نفسيهما محاطين بما لا يقل عن 130 مستشارا وملحقا إعلاميا وكاتبا. يقول روبير جوبسون في هذا السياق: «يسمو تشارلز أكثر فأكثر إلى مستوى مهمته. البريطانيون يتقبلونه مثلما هو أكثر فأكثر، كما أن الانتقادات التي كانت موجهة ضد نمط حياته الشخصية قد خفت حدتها. وفي جميع الأحوال، فإن حكمه لن يدوم طويلا وسيمثل مرحلة انتقالية». عن «الفيغارو»