وضعت سخرية التاريخ، إلى جانب الفوضى الجزائرية نفسها، نموذجا للتعايش بين الفرنسيين والمسلمين. لكن هذا لا يعني أن الأمور برمتها مرضية في المغرب بالنسبة لنا كما بالنسبة له، ذلك أن ما هو سلبي يشكل مصدر قلق، وما هو إيجابي يتميز بالهشاشة. ومع ذلك، فالوضع هناك غني بالدروس بفعل تعدد جوانب الندم العميقة على ما كان يمكن أن تؤول إليه الأوضاع (للأسف!) من جهة، وبفعل الآمال في ما يمكن أن يتحقق في المستقبل من جهة أخرى. لا يمثل الفرنسيون الذي يعيشون في المغرب «عينة تمثيلية» لمجموع الفرنسيين البالغ عددهم 43 مليون نسمة كما يقال اليوم. لقد تعرضوا في الحقيقة إلى عمليتي انتقاء اثنتين. أولى عمليتي الانتقاء ترتبط بما تعرفه كل الهجرات: روح المقاولة والريادة والمغامرة والربح... و»مثل طيران جوارح السنقر»، فقد تمخضت الثانية عن العودة إلى فرنسا. أجل، بعض قرارات العودة كانت إكراهية، لكن المتطرفين رحلوا بينما مكث في البلد أفضل المعمرين عموما. ونجد، على سبيل المثال، في أوساط العاملين في مجالي التعليم والصحة، وفي صفوف الرابطة الفرنسية، نماذج من التضحية تستلزم التقدير. إن المنجز المادي الذي تحقق في أربعين سنة مهم، وهو مؤشر جد دال على قدرة الفرنسيين على الخلق والبناء والانطلاق حين يكونون متخلصين من العبء المالتوسي (نسبة إلى نظرية توماس مالتوس حول تكاثر السكان- م) الذي يكبل الاقتصاد الفرنسي. - الهجرة لم تنته بعد بما أن وجودهم في بلدان أخرى مفيد أكثر من استمرارهم في المغرب، فالعسكريون يحزمون حقائبهم. ورحيلهم هذا يجعل التجار في وضع هامشي نظرا لعدم كفاية الزبائن. ويخلق ذهاب العسكريين والتجار فراغا في الثانويات، فراغا يسده بسرعة تلاميذ مسلمون أقل تكوينا من الفرنسيين. وهكذا، يتولد الخوف لدى العديد من الآباء حول مستوى أبنائهم التعليمي فيقررون الرحيل أيضا، الخ. كما أن اعتبارات اجتماعية تبدو بدون أهمية تلعب هي الأخرى دورا في قرار الرحيل، منها استحالة العثور على فتاة لربط علاقة غرامية معها أو على زملاء للعب البريدي. خلاصة الأمر أن الجالية الفرنسية في المغرب تبحث عن توازن جديد، توازن ستحتضنه المدن الكبرى، أما المناطق الصغرى فستعرف هجرة تامة ربما. ورغم طابعها المحزن، فهذه الهجرة ليست موجهة ضد استقلال المغرب، بل هي بعيدة عن هذا المنحى. فأية حكومة أخرى، غير الحكومة الفرنسية الحالية، كانت تستطيع تخفيض أجور بعض الموظفين بنسبة 20 % أو بعث رجال شرطة لتهديم أحياء الصفيح؟ ولولا التهريج حول بن عرفة (السلطان الذي فرضته فرنسا خلال نفي محمد الخامس)، لكانت الهجرة الفرنسية أقل سرعة، ولتم تعويضها بوافدين جدد. لكن الأمر كان قدرا محتوما، إلى درجة ما، في جميع الأحوال. إن فكرة استيطان دولة أخرى بواسطة الموظفين ورجال الشرطة ليست فكرة ناجعة دائما. لقد كان التزايد السريع للساكنة المغربية يفرض، في جميع الحالات وبغض النظر عن النظام القائم، منح وظائف كثيرة للشباب المغاربة. وكان بإمكان مقاربة ليوطي المبنية على الفصل بين الساكنتين (المغاربة والفرنسيون) أن تكون ملائمة لو أنها لم تتجاهل بعناد الديمغرافية، أي الجوهري. دون اللجوء إلى تحليل تفاصيل الإحصائيات الديمغرافية بدقة، فإن إلقاء نظرة على مدن الصفيح يكفي لملاحظة الفائض السكاني القروي بجلاء. وفي المغرب، على غرار دول أخرى، فإن انفتاح دورة الحياة والموت الألفية أدى إلى تجاوز المؤسسات القديمة القائمة على انغلاق تلك الدورة، المؤسسات التي أصبحت اليوم مهددة بالزوال أو معرضة، على الأقل، للتطور السريع. - السياسة والتقنية وهم يحصلون على السلطة السياسية، تميز الشبان المغاربة بجدارة الانتباه إلى أنهم لا يعرفون كل شيء. ومن ثمة، قام تعاون خصب ودقيق في الآن ذاته بين السياسي والتقنية. وحدهم الرجعيون المنتمون للعصور الغابرة لا يزالون يعتقدون أن الحكومة المثالية هي حكومة التقنيين: أميرال على رأس وزارة البحرية، أستاذ على رأس هرم قطاع التعليم، الخ. إن الفرنسيين الذين بقوا في المغرب، وخاصة الذين سيستمرون في المكوث فيه، هم الآن وفي المستقبل الأفراد الذين يحتاجهم البلد: أطباء، أساتذة، مهندسون، الخ. وقد طالب الأطباء الألمان الذين جست الحكومة المغربية نبضهم بأجور تفوق أجور الفرنسيين بنسبة 50 %... أجل، الاغتراب يتطلب تعويضا ماليا! هكذا يجد المغاربة المتعلمون والموثرون أنفسهم في وضع جد دقيق: فبقدر ما يتفهمون جدا ضرورة الاحتفاظ بالفرنسيين وتركهم يسيرون العديد من القطاعات، بقد ما هم ملزمون بتقديم ضمانات للحشود التي تؤجج عدم تسامحها بفعل أحداث الساقية (في يوم السبت 8 فبراير 1958، قصف الطيران الفرنسي قرية ساقية سيدي يوسف التونسية الواقعة على الحدود الجزائرية والمعتبرة ملجأ لثوار جبهة التحرير الجزائرية، مخلفا 70 قتيلا و130 جريحا) وبفعل أسباب أخرى كثيرة. وقد نجح هؤلاء الشبان إلى هذا الحد أو ذاك في تدبير الوضع، عبر تعويض قرارات صعبة بمواقف مناهضة لفرنسا لا تخلو من إثارة، لكنها مواقف لا يجب تأويلها بضراوة تتجاوز الحد. يمكن نقل مقولة «الثقافة هو ما يتبقى حين ننسى كل شيء» إلى مجال الهيمنة العمومية. ما الذي تحافظ عليه فرنسا في المغرب والفيتنام؟ الثقافة، فذلك ما يتبقى حين نفقد كل شيء! هل ثمة شخص ما لا يزال يعتقد في إمكانية الهيمنة السياسية الخالصة؟ من يستمر في الشك في كون الإمبريالية، أي تأثير بلد على آخر، ستصبح ثقافية قبل أي حقل آخر؟ إذا تمكن الاتحاد السوفييتي من البقاء في تركستان والمجر وغيرهما من البلدان، فالسبب لا يكمن فقط في قوة مدرعاته، بل في كونه يتوفر، في كل تلك الدول، على دعم الثقافة الماركسية التي زرعها. في السنة الماضية، زار رئيس ألمانيا الفيدرالية تركيا. وحين انتهاء زيارته، وبدل أن يهدي فقراء العاصمة منحة من القطع الذهبية على غرار عاهلي الأزمنة السالفة، فإنه قدم خمسين منحة بطريقة لا مبالية، لا تشتمل على قطع ذهبية: 50 منحة دراسية لتقنيين أتراك لمتابعة تكوينهم في المدارس الألمانية. ها نحن إذن في حضرة خمسين تقنيا سيستعملون، طوال أربعين سنة، التقنيات الألمانية ويتوصلون بدلائل ألمانية حول الآلات الألمانية، الخ. وبكل تأكيد، ستكون لهذه «الهبة السخية» مردودية هائلة اقتصاديا. لكن، هل التأثير الثقافي معطى جديد فعلا؟ هل كان العرب قادرين على تأبيد سيطرتهم لو لم ينشروا الإسلام في البلدان الخاضعة لسيطرتهم؟ والثقافة اللاتينية، ألم تعمر بعد سقوط الكتائب الرومانية، كالثقافة اليونانية في الشرق عقب احتلال الإسكندرية؟ ليست هذه المعطيات، في رأي البعض، إلا مجرد تحصيل حاصل، وهي في نظر البعض الآخر شبه بديهيات، بينما تبدو لآخرين انحرافات لا تخلو من استفزاز. ومع ذلك، فالحلم ليس محرما، حتى في رحم كابوس. أغلقوا عيونكم وتخيلوا لو أنه تم، طوال العشرة سنوات الماضية، تقليص ميزانية الحرب سنويا بمائة مليار لرصدها للتربية الوطنية والتبادل الثقافي. لو حدث هذا، لكانت سلطة فرنسا لا تضاهى وسط عالم اليوم السائر في طريق التمدرس والبحث عن النمو! لقد طلبت الحكومة المغربية أن نوفر لها ألف معلم فرنسي، لكننا لم نستطع أن نوفر لها غير 60. وهذا العجز جلي في كل الدول، بما في ذلك فرنسا نفسها. نتلقن على مقاعد الدراسة الأخطاء الجسيمة التي مثلتها، تاريخيا، الحروب الصليبية والحملة الروسية لسنة 1812، الخ. ما يدفعنا إلى لعنة حكام تلك الحقب. لكن هذه الأخطاء مجرد زلات بسيطة بالمقارنة مع انعدام المنطق الكبير المقترف منذ الحرب العالمية الثانية، والمستمر إلى اليوم وسط فرقعة الشعارات الأكثر تشدقا. وأما انعدام المنطق هذا ضد الزمن والعالم برمته والروح الفرنسية، فإن حروب الفالوا الإيطالية تبدو مفعمة بالحكمة، وحقبة حكم هنري الثالث مرحلة مباركة. - الإدارة والإلكترونيات يتضمن المسار الديمقراطي توزيعا للأدوار، فاليسار، المشاغب والمثالي بطبعه، يفتح سبلا جديدة، بينما يعمل اليمين، المتشبع بالمنطق، على إصلاح التجاوزات لاحقا، يعيد تنظيم المكتسبات ويدمجها. لكن هذا السبيل الكلاسيكي المشتمل على حقبتين الذي كثيرا ما كان في خدمة فرنسا، قد توقف منذ أن تراجع اليمين عن عقلانيته، وتخلى عن دوره ساعيا إلى أن يصبح مثاليا. منذ ذاك، انحرفت الأمور عن مسارها لأن مثال اليمين ماضوي. هجرة الفرنسيين من المغرب لم تنته بعد. وحكومته ستدفع المغاربة إلى تولي جميع المناصب، الرسمية أو غير الرسمية، متى استطاعت ذلك، أي متى توفر لها أصحاب المؤهلات الضرورية. ذلك أن الضغط الديمغرافي يعبر عن نفسه في الهوامش. وبالفعل، ودون أن نكون نعاني من بطالة واسعة مثلما هو الحال في المغرب، فهل سنتقبل أن يكون سلك موظفينا مكونا من السويديين أو البريطانيين أو الألمان، بل وحتى من البلجيكيين؟ ومع الحواجز التي نصبت في وجه الهجرة إلى الخارج، فإن الحصول على بطاقة عمل أصبح أصعب من الحصول على سكن اجتماعي في فرنسا أو منصب دبلوماسي في الولاياتالمتحدة. لا يعني هذا الموقف الطبيعي أن تأثيرنا سيتعرض للتراجع بسرعة، لأن الأمر مرتبط بقيمة العرض الذي سنقدمه. وإذا كان من البلاهة الاعتقاد بأننا سنحتفظ في بلدان وجودنا، إلى ما لا نهاية، بمراقبي التذاكر، فإن الاختصاصيين الجدد الذين تولد التقنية الطلب عليهم سيظلون ضروريين لها. وسواء تعلق الأمر بالمغرب أو إفريقيا السوداء أو مدغشقر، أو بتأهيل منطقة موجودة وسط فرنسا نفسها، أو تعلق بقضايا التقاعد والإدمان على الكحول وارتفاع عدد الشباب، فإن الجواب واحد دائما وأبدا: الثقافة والتقنية. هناك عامل مساعد على مكوث الفرنسيين الضروريين في المغرب (في حالة اعتماد حل ناجع في الجزائر بالطبع)، ويتمثل هذا العامل في كون المغاربة، وهم شغوفون بالتكوين كما نعلم، يفضلون العمل في الإدارة على المهن الإلكترونية. فباستثناء الطب (للعمل في المدن الكبرى ذات المرضى الأثرياء) وإدارة مطعم شهير، فإن الشاب المغربي يفضل الإدارة العمومية. لقد قدمنا بالفعل خدمات جليلة لهذا الشعب، لكننا أصبناه كذلك بأمراضنا، ومنها تفضيل الإدارة العمومية. وكل بلد لا يتوفر على تقنيين وعلى أطر علمية هو بلد متخلف، وكذلك سيظل، بلدا متخلفا لأنه لا يمتلك استقلاله الفعلي نظرا لحاجته إلى الآخرين. اجل، إن تعلم استعمال ثلاجة أو قيادة سيارة أسهل بكثير من تعلم صنعهما، علما أن مدن الصفيح تعج بأجهزة الراديو. - الذئب والكلب يقول ماركس إن الطبقة الميسورة تخلق دائما احتياجات جديدة للطبقات المتواضعة، مما يعمق تفقير هذه الأخيرة. ومثلها مثل الكثير من الملاحظات المستقاة من العلاقات بين الطبقات في القرن التاسع عشر، فهذه الملاحظة صالحة للتطبيق على العلاقات بين الأمم في القرن العشرين. إن هجرة العسكريين من بعض المدن كارثة حقيقية بالنسبة للتجارة المحلية، بما في ذلك تجارة المسلمين. وهو ما يجعل العديد من الفرنسيين منذهلين من تشبث المغاربة بهذه الهجرة. لكن هذا الذهول ناتج فقط عن نسياننا لحكاية الذئب والكلب التي رددناها جميعا وحفظناها عن ظهر قلب وأعجبنا بها في المدرسة. وبما أن تطورنا يجعلنا، في العمق، نقترب أكثر فأكثر من وضع كلب الحكاية، حيث إننا سنمد قائمتنا (أريد أن أقول يدنا) مجددا في نهاية السنة طلبا لعظم (أريد أن أقول دولارات)، فإنه من العسير علينا أن نفهم من لم يصلوا بعد إلى نفس الوضع. «إنهم، هم أيضا، لا يعرفون مصلحتهم»، هؤلاء الجزائريون الثائرون الذين جعلنا منهم رجال قانون، لنسلحهم بفكرة أن وجودنا بينهم ليس من حقنا! فهل فهمنا نحن، من جانبنا، حقنا؟ وهل ندافع عنه اليوم بشكل أفضل؟ هي مهزلة إذن! بل مأساة!