يتساءل المحلل الفرنسي ألفريد سوفي، الذي كان في مرحلة تصفية الاستعمار الفرنسي بالمغرب متعاونا مع مجلة «ليكسبريس»، عن مستقبل فرنسا في مستعمرتها السابقة خلال مرحلة ما بعد الاستقلال. وبتسليطه الضوء على التغير الديمغرافي الذي شهده المغرب في تلك الفترة، يقدم الباحث الفرنسي تصورا لعمق التغيرات التي عاشها المغرب سيما في ما يتعلق بهجرة المقيمين الفرنسيين إلى وطنهم ومحاولة المغرب الاستعاضة عنهم بالاعتماد على الكفاءات المغربية المتوفرة حينها غير بعيد من الفوضى التي كانت تغرق فيها الجزائر، شاءت سخرية القدر أن تضع شاهدا ونموذجا للتعايش بين الفرنسيين والمسلمين. ليس أكيدا أن الجميع كان يشعر بالرضا في المغرب، سواء بالنسبة لنا أو بالنسبة لهذا البلد، لأن الأمور التي لم تكن تسير على ما يرام كانت تثير القلق، أما التي بخير فقد كانت في غاية الهشاشة. لم يكن الفرنسيون الذين حلوا بالمغرب يشكلون «عينة تمثل» 43 مليون فرنسي. لقد خضعوا لنوعين من الانتقاء، حيث يتعلق الأول بالهجرة: روح المقاولة، الريادة، المغامرة والربح. أما الثاني فهو ناتج عن عودة أولئك المهاجرين.، مع العلم أن بعض حالات العودة تمت قسرا، لكن إجمالا يمكن القول إن المتعصبين رحلوا، في حين بقي الأفضل في المغرب. وكان من بين الموظفين الذين اشتغلوا في التعليم والتطبيب، أشخاص مخلصون، منهم من ينتمي للرابطة الفرنسية، يستحقون الاحترام. وما تم إنجازه في ظرف أربعين عاما يظل أمرا يستحق الاعتبار، وشاهدا يبرز أن الفرنسيين قادرون على الخلق والبناء عندما يتحررون من الأثقال التي تعيق الاقتصاد الفرنسي. وعندما غادر آخر جندي فرنسي التراب المغربي، رمى غيابهم بالتجار إلى الهامش، وفقدوا رضا الزبناء عنهم. كما أن هذا الغياب العسكري والاقتصادي أرخى بظلاله على الجانب التعليمي، حيث أضحى مستوى التلاميذ المسلمين أقل مقارنة مع نظرائهم الفرنسيين. وهذا ما أثار تخوف بعض الآباء الفرنسيين على مستقبل أبنائهم، فقرروا بدورهم العودة إلى وطنهم. وفي نفس الوقت، ارتأت فئة من المقيمين الفرنسيين البحث عن تحقيق نوع من التوازن، من خلال التوجه نحو الحواضر الكبرى، في حين أصبحت التجمعات السكانية الصغيرة تعرف فراغا تاما من الوجود الفرنسي. ولقد أثبتت فكرة إعمار بلد آخر بالموظفين ورجال الشرطة عدم صلابتها، إذ ان التزايد الكبير للساكنة المغربية فرضت توزيع العديد من مناصب الشغل على الشباب المغربي، كيفما كان السبب وكيفما كان النظام. وكان من الممكن أن تنجح فكرة الجنرال ليوطي الرامية للتمييز بين الساكنة المغربية والمقيمين الفرنسيين لو أنها لم تغفل جانب النمو الديمغرافي لساكنة المغرب، أي النقطة الأهم في كل التحولات. ودون الخوض في التفاصيل الأخرى، فإن الإحصاءات الديمغرافية وتزايد السكن الصفيحي سمثل اختبارا حقيقيا لتزايد الساكنة على مستوى المجال القروي. ومع تولي الشباب المغربي لدفة القيادة السياسية في البلد، كانوا يدركون أنهم لم يكونوا على علم بكل شيء، لذلك تم اللجوء إلى خلق نوع من التعاون المثمر بين الجانبين السياسي والتقني. وكان ثمة فئة قليلة كانت تؤمن بأن الحكومة المثالية هي التي تعتمد على التقنيين، أي أنه من الضروري أن يتوفر سلاح البحرية على أميرال، والتعليم على أساتذة... أما الفرنسيون الذين بقوا وسيظلون في المغرب، في مواجهة الزحف الديمغرافي، فقد كانوا هم الأشخاص الذين تفرضهم الضرورة: الأطباء، الأساتذة، المهندسون... إلخ. وفي المقابل، كان الأطباء الذين قدمتهم الحكومة المغربية يشترطون تعويضات كبيرة، تتجاوز تلك التي يطالب بها الفرنسيون بنسبة 50 بالمائة. وهنا سيشرع المغرب في دفع ثمن هجرة الفرنسيين. ومنذ ذلك الحين أصبح المغاربة المثقفون وأصحاب النفوذ في وضع حرج: إذ لم يكن ثمة إدراك كبير لضرورة الاحتفاظ بالفرنسيين والسماح لهم بالإشراف على القطاعات التي تشمل مجال تخصصهم، بل تبنوا مواقف تقف في وجه الفرنسيين، لا ينبغي منحها تأويلا يضعها في مدارج العنف. ويمكن العودة هنا إلى القول المأثور: «الثقافة هي كل ما يتبقى عندما يُنسى كل شيء». ما الذي يثير اهتمام فرنسا في المغرب وحتى في فييتنام؟ «الثقافة هي كل ما يتبقى عندما نفقد كل شيء»، هذا بالفعل ما تبقى عندما انتهى التفكير في الهيمنة السياسية. لكن هل ثمة من لا زال يعتقد أن الإمبريالية وتأثير بلد على بلد آخر يتم قبل كل شيء عبر الثقافة؟ إذا كان بمقدور الاتحاد السوفياتي الاستمرار في التواجد بتركمانستان، هنغاريا أو أي بلد آخر، فإن ذلك بلا شك لم يتم من بواسطة الدبابات، بل بفضل الفكر الماركسي الذي تم زرعه هناك. وفي السنة الماضية، قام الرئيس الألماني بزيارة تركيا، وعندما حان موعد تسليم هدية ذهبية للفقراء كان كان يتم في السابق، قدم خمسين هدية، لكن هذه المرة لم تكن من الذهب، بل كانت عبارة عن خمسين منحة دراسية في المعاهد التقنية الألمانية. خمسون تقنيا سيعملون طيلة أربعين عاما على استخدام التقنية الألمانية في صناعة الآليات. ومن شأن هذه «المنحة الكريمة» أن تعود بأرباح كبيرة على الاقتصاد الألماني. لكن هل هيمنة التأثير الثقافي أمر مستجد ؟ ليس صحيحا، فالعرب ما كانوا ليحافظوا على هيمنتهم لولا الإسلام. هذا الأمر يظل في نظرا البعض بدهيا، في حين يرى فيه البعض الآخر نصف الحقيقة، أما ثلة أخرى فتعتبر الأمر مجرد ترهات. ومع ذلك، فليس أي أحد ممنوعا من الحلم، ولو كان ذلك في قلب كابوس مرعب. اغمضوا أعينكم إذن وتخيلوا لو انه تم اقتطاع مائة مليار سنويا خلال العقد الأخير من ميزانيات الحروب، وتم في المقابل استثمارها في النهوض بقطاع التعليم وتعزيز العلاقات الثقافية. فكم يا ترى سيكون حجم القوة التي ستتوفر عليها فرنسا في هذا العالم المتطلع إلى التعليم والبحث والتطور؟ لقد طلبت الحكومة المغربية من فرنسا تزويدها بألف مدرس فرنسي، لكننا لم نتمكن من توفير إلا 60 مدرسا. ولا يمكن إنكار الأخطاء الكبيرة تم ارتكابها في الحروب الدينية، كما كان عليه الحال خلال الحملة الروسية سنة 1812. ونفس الأمر ينطبق على الحروب التي يشهدها عصرنا الحالي رغم الشعارات المنمقة التي يتم إلصاقها بها. لكن على عكس كل هذا، فإن الحرب الإيطالية اتخذت منحى آخر برزت فيه حكمة هنري الثالث. الهجرة الفرنسية لم تنته، فعملت الحكومة المغربية على بتنصيب المواطنين المغاربة في جميع المناصب، التي تعتبر إلى حد ما مناصب رسمية، وذلك كلما أتيحت لها الفرصة، بمعنى كلما توفر العنصر البشري القادر على تقلد ذلك المنصب. وبغض النظر عن كون نسبة النمو الديمغرافي ومعدلات البطالة، هل نقبل أن يكون ضمن موظفينا مواطنون سويديون، إنجليز، ألمان أو حتى بلجيكيون؟ هذا السلوك الطبيعي لا يدل على أن تأثيرنا سيشهد تراجعا مهولا. كل ما في الأمر أن هذه مسألة تتعلق بالجودة. وقد تكون المحافظة على الوجود الفرنسي الضروري أسهل لو أن المغاربة اختاروا توجها آخر بعيدا عن الإدارة، كاختيار المجال الإلكتروني مثلا. وبعيدا عن قطاع التطبيب، لم يكن ثمة مجال آخر يمكن من خلال للشباب المغربي الاستقرار والعيش بعيدا عن الوظيفة العمومية. صحيح أننا أسدينا خدمات جليلة لهذا الشعب، لكننا لا ننكر أننا نقلنا إليه أيضا أمراضنا، يظل أقلها أننا جعلناه بلدا تقنيين ولا علماء، وبالتالي سيظل بلدا غير متقدم، أي بلدا بدون استقلال حقيقي، لأنه سيظل دوما في حاجة إلى الغير. صحيح أنه من السهل تعلم كيفية استخدام مبرد، وطريقة سياقة سيارة، حتى أن الأحياء الصفيحية كانت تغص بأجهزة المذياع،، لكن من الصعب جدا تعلم كيفية صناعتها. وكان يقول ماركس إن الطبقة الميسورة تحتاج دوما للطبقات الفقيرة، وتزيد من تعميق فقرها أكثر فأكثر، تماما كما كان عليه الأمر في القرن التاسع عشر، وهو ما انتقل إلى القرن العشرين أيضا. عن «الاكسبريس»