أذكر ذاك اليوم المشهود والعريق في حياتي في أوائل الستينيات. كنت في السوق الأسبوعي لقرية واويزغت بالأطلس المتوسط. هذا السوق الذي يبعد عن بلدتي بنحو سبعة كيلومترات. كان عمري آنذاك أقل من عشر سنوات. كان البراح هو وسيلة الإعلام الوحيدة لإخبار الناس بالمستجد كلما دعت الضرورة إلى ذلك. أخبر بأن حدثا عجيبا ستعرفه الساحة الكبيرة الموجودة خارج السوق، وأن الناس سيكونون على موعد مع حدث لم تعرف المنطقة مثيلا له من قبل. لم أتذكر من كلامه غير كلمة «السُّوليما «، والتوقيت الذي كان في الغسق الأول من الليل .كانت هذه الكلمة غريبة في أذهان معظم الناس الذين توافدوا على السوق من المداشر والأرياف البعيدة للتسوق. غرابة الخبر قوَّت الفضول لاستكشاف هذا الأمر العجيب. تجمهر الكثيرون من كل الأعمار: رجال ونساء وأطفال. ساد اللغط، وعمت الجلبة. في الجانب الآخر من الساحة التي لم تكن لها آنذاك غير وظيفتين هما : اتخاذها حلبة «للتبوريدا» في مناسبات عيد العرش، أو ملعبا يلعب فيه أبناء القرية كرة القدم. هذا الملعب الذي عرف جولات بين فريق واويزغت وفريق بين الويدان. قلت في الطرف الآخر من الساحة كان أناس غرباء عن المنطقة يهيئون شيئا لم نفلح في معرفته. نصبوا أمام الجمع الغفير مساحة بيضاء. عرفت فيما بعد أنها الشاشة الكبرى. بدأت أشياء تتحرك على وجه تلك الشاشة أمام ذهول الجميع وتحولت الجلبة والصخب إلى سكون مذهل بحيث لا يسمع غير حفيف أشجار الصفصاف التي تحف المكان. كانت الصور تتوالى بسرعة في شريط لم نستوعب منه شيئا لأنه بلغة غريبة عنا، لكن الذي يعرفه الجميع هو قنينة الزيت التي تظهر بين الحين والآخر على الشاشة. هذه القنينة التي بدأت تغزو أسواق المغرب العميق. لم أذكر، ولكن بالتأكيد كانت قنينة كريسطال. أدركت فيما بعد أن ذاك الحدث العجيب صنعته شركة الزيوت بالمغرب من أجل ترويج سلعتها، وما السينما إلا وسيلة لجمع عدد كبير من الناس لتلقي هذا الإشهار. تلك بداية علاقتي بالسينما ، وقد انقطعت لمدة طويلة تعد بالأعوام. في نهاية الستينيات التحقت بالرباط من أجل استكمال الدراسة في الابتدائي بعد أن درست في الجبل بضع سنين. كان أطفال الحي ب « قصر البحر» يستفزونني لأنني طارئ عليهم، ولا ينادونني إلا بالشًّلح . فكرت في الأمر ، ولم يكن الحل إلا بالدخول في المواجهة من أجل فرض الاحترام لشخصي. كنت مصارعا عنيدا، وهذا الأمر اكتسبته في الجبل إذ كنا نقضي أوقاتا طويلة في المصارعة المعروفة في اللسان الدارج ب» الَمْعابْزَة «. نمارسها كرياضة وتحدي بعضنا البعض دون خصام. كان الحل هو أن أذهب رأسا لرأس «العصابة». بمجرد الإمساك به وجدته تحت قدمي . وقف منتفضا كما لو أنه لم يصدق أراد أن يعقب حفاظا على ماء الوجه، لكني سبقته بضربة من رأسي الحليق. مرت أيام ظلوا ينظرون إلي بريبة . تقربت منهم فوجدت سلوكهم قد تغير، وشرعوا في مناداتي باسمي. ولجت عالمهم، ولكن من أهم الأشياء أنهم اقترحوا علي أن أصحبهم ذات أحد إلى سينما «سْتارْ» التي كانت تتواجد بحي لعْلو. كانت هذه القاعة تعرض بين العاشرة صباحا والثانية عشرة زوالا أفلاما للأطفال بنصف درهم. توالى الذهاب كل أحد إلى هذه السينما ، وذلك خفية من خالتي وزوجها لأنهما كانا كآباء تلك المرحلة يريان في السينما وإن لم يشاهداها قط خطرا على الأطفال. للحصول على التذكرة كان كل منا يتدبر أمره. منا من يجمع من الخردة النحاس ويبيعه، أو الطوابع البريدية، كما أنه كان من اليسير اختلاس هذا المبلغ من حافظة نقود تركت سهوا في مكان من البيت. كانت الغاية تبرر الوسيلة. كانت سينما «ستار» في حي لعلو، و»الشعب» في حيّ ديورْ الجامع المدرسة الأولى للسينما بالنسبة لي. شاهدت أفلاما كثيرة من نوع رعاة البقر، أو المسايفة أو» دق السيف» كما كانت تسمى. أفلاما تعرفت فيها على نجوم كبار من قبيل جون يين، وكيرك دوكلاس، وشارل برونسون، وكارلتون هوستون، وجوليانو جوما، وألان دولون، وإليزابيت تايلور، وجان كابان، وبرجيت باردو، وصوفيا لورينْ، والقائمة طويلة فيما يخص أفلام رعاة البقر. أما أفلام القوة الجسمانية، والمسايفة فقد استهوتنا شخصيات خارقة من قبيل هركول، وماسيست، وشمشون التي أفلح في أدائها كل ستيف ريف، ومارك فوريست، وكوردون سكوت ، وبراد هريس. كنا دائما ننتصر « للولْدْ «، أوالبطل الذي لا يهزم، ولا يقهر، وكم كان سرورنا عظيما عندما يظهر على الشاشة ؛ إذ كان يصاحب ظهوره هتاف وصياح كما لو أننا نرحب به، ونعلن تضامنا المطلق معه، وهو يصارع الأشرار. قريبا من الحيّ الذي أقطنه آنذاك في نهاية الستينيات كانت قاعتان بحي العكاري هما سينما الصحراء والحمراء. استمتعت فيهما بكثير من الأفلام. كان الذهاب إلى السينما بمثابة عرس. الناس يهتمون بهندامهم، ويحرصون على الوقت، بل منهم من يأتي قبل الموعد تحسبا للزحام أمام شباك التذاكر. كانت السوق السوداء لبيع التذاكر نشيطة ، كما أنها كانت مورد رزق لفتوّات الحيّ. في الجامعة أواسط السبعينيات أدمنت الذهاب إلى السينما. ثلاث مرات، أو أكثر، كما أنني حرصت على مشاهدة بعض الأفلام مرتين. ظل الاهتمام بشخص البطل ، لكن مع تنامي الوعي بدأ الاهتمام بالسينما كثقافة وليست للفرجة فقط. بدأ التعرف على المخرجين والمدارس السينمائية. هذا الوعي ساهم فيه النادي السينمائي؛ إذ بفضل تدخل الأساتذة بدأت أعي أن السينما رؤية للعالم وذات رسالة هادفة خصوصا وأن الأفلام المنتقاة كانت ذات فائدة عظيمة لأنها، وإن كانت سينما مناضلة ، فهي لا تخلو من جمالية سحر الشاشة. أنا مدين للأندية السينمائية منذ أن كنت تلميذا بالتعليم الثانوي بمدينة الفقيه بن صالح وللأساتذة المناضلين من أجل نشر ثقافة الصورة التي كانت شيئا جديدا آنذاك. علمونا أن نشاهد بأكثر من عين، وألا نكتفي بالقصة والأحداث فقط. كانت تدخلات فقهاء المجال تركز على جوانب نجهلها، فيها ما هو تقني فني صرف، وما هو فكري فلسفي، لأن تلك الأفلام المختارة بعناية يندج معظمها في ما يصطلح عليه سينما المؤلف. هذا الاهتمام صاحبته بعض القراءات لمجلات وجرائد كانت تفرد حيزا للسينما، وقد تعرفت على أقلام أصبح لها فيما بعد شأن في المعرفة السينمائية . صادف التحاقي بالوظيفة بالدار البيضاء في سنة 1980 ظهورالكاسيط فيديو.اقتنيت الجهاز، وأدمنت مشاهدة الأفلام. كان أغلبها تجاريا، لكن عندما سمعت بنادي العمل للسينما سارعت إلى الانخراط فيه. كان في سينما الأمل بحي الفرح ثم في سينما داوليزْ بشارع الجيش الملكي. في هذه المرحلة تعرفت على الصديقين حمادي كيروم، ومصطفى العلواني، والعديد من الوجوه السينمائية ممثلين ومخرجين ونقاد. هامش: هذه مساهمتي في الكتاب الذي سيصدر للصديق حسن نرايسْ تحت عنوان : «السينما بعيون أدباء مغاربة» .