قال تعالى «إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون «النحل 90 وعرف فيروز أبادي العدل بأنه ضد الجور وما قام في النفوس أنه مستقيم .. وقال ابن القيم الجوزية رحمه الله « إن الله سبحانه وتعالى أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به الارض والسماوات فإذا ظهرت أمارات العدل واسفر وجهه بأي طريقة كان فثم شرع الله ودينه». لهذا فالبشرية بالفطرة والعقل والتطور الحتمي تضع آلياتها التي تحقق بها «عدالتها» وفق نظامها الاجتماعي وفلسفتها السياسية التنظيمية، ثم تطور نظرتها بتطور معارفها وحاجياتها، وتنوع أنشطتها لدرجة تملك الانسان لكل ما يراه حقا ولو خالف الذوق العام . ولدرجة يحس فيها الانسان ويدرك أنه يعيش وسط مجتمع ودولة عادلين . كما أن البشرية مأمورة بالشرائع السماوية، وعلى رأسها الإسلام، بأن تحقق العدل في الارض وأن تجعله يشمل كل مجالات الفعل الانساني وحتى علاقاته بالبيئة ومحيطه. ومن المؤكد أن العدل الوضعي والسماوي - ولو أنه لا قياس مع وجود الفارق - هو الذي يخاطب ويعمل العقل والذوق السليم والفكر المتفاعل، ويرجح المصلحة العامة والخاصة معا دون الإضرار بأي منهما بالشكل الذي يخل بقواعد العدل والعدالة. يقول تعالى «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا « النساء 58 ففي هذه الآية الكريمة نسجل أن الله سبحانه وتعالى تحدث عن الأمانات بكل معانيها ومجالاتها ...ونسجل أنه أمر بأن تؤدى الى أهلها.. وعمم كذلك الموضوع ولم يقصره على المسلمين دون غيرهم ..ونسجل أنه ربط الحكم بين الناس مسلم وغيره بالعدل، لا فرق بينهم عند التنازع أو بدونه. فلو رجح الشرع المسلم على غيره، لسقطت عنه صفة العدل . فإذا كان هذا أمرا ربانيا، فكيف بنا عندما يكون الذي يحكم في مجتمعاتنا المعاصرة يخالف التشريع السماوي، وينحاز الى حزبه وأفكاره الخاصة وسياسته ويسفه غيره ويضيق على حرياتهم، ولا يعدل معهم في كل مجالات تنزيل العدل الوضعي في الواقع ، بل قد يحرمهم حقوقا ومكتسبات وحريات كانوا يتمتعون بها ؟ . فأن تدعي أنك تناضل من أجل العدل ومحاربة الاستبداد، وتجعله في برنامجك وتملأ به صفحات المقررات والبيانات والخطب، فذلك لا يسمح بأن يكون الطريق والممارسات، استبدادية فالعدل لا يقوم ولا يبنى بنقيضه وضده. فهل يمكن أن نتحدث عن تحقق العدل ولا أقصد هنا مؤسسة دون غيرها، ومظاهر وتجليات الاستبداد مازالت تتراءى وتقوم بين مشهد وآخر ؟. الجميع سيجزم بأن ذلك من باب الاستحالة والامتناع لكنه يحصل. فإذا كان الاستبداد هو ظلم قائم يضايق العدل ويفقده دلالاته، كما يضايق الحريات والديموقراطية، ويجعل الانسان يعيش في حالة رهاب وخوف على ما اكتسبه، وعلى لحظته ومستقبله، ناهيك عن آفاق وطنه وأبنائه وأمته فإن له وجوها ومظاهر متعددة منها استبداد الفرد برأيه وإلزام أسرته أو محيطه الاجتماعي بما يريد هو أو تريد هي ...ومنها استبداد الهيئات أو الزعامات برأيهم بإقصائهم وتسفيههم لغيرهم ومضايقتهم بمنعهم من ممارسة حقوقهم العادلة ، ومنه استبداد الحكومات والمؤسسات التابعة لها وتفردهم برأيهم وفكرهم في استغلال لما بين أيديهم من قوة بما في ذلك الاعلامية، وممارسات تضييقية إقصائية تحت مسميات وتبريرات مختلفة ، ومنه استبداد المجموعات الفكرية أو» الدينية» أو الطائفية بانحياز تام يلغي الغير ويجعله في حكم من لا يجب بقاء استمراره أو حتى وجوده المعنوي. إن الحديث عن العدل في علاقة بالاستخلاف على أمور الناس ليس معناه أن من استخلف يلغي الجميع ويذوبهم في ذاته ويدخلهم جبته لدرجة التماهي، وأن لا صوت ولا صدى إلا لهم ولما يرددون هم وحدهم . وهذا أمر لم يقم به لا الانبياء ولا الخلفاء الراشدون، ولا الصالحون من أمة سيدنا آدم . فإذا كانت الخلافة لا تكون، كما يقال في الأثر، إلا عن مشورة وتشاور أي حسب فهمنا المعاصر والشرعي عن انتخابات حرة ونزيهة وشفافة وديموقراطية أي عادلة تضمن تكافؤ الفرص في الترشيح والتنافس والتحرك والحديث، بعيدا عن أي استغلال من أية جهة كانت لترجيح هذا على ذاك باستغلال للدين أو السلطة أو المال أو .... إن الاستبداد تاريخيا وسياسيا وشرعيا يسقط الدول والحكام ويسقط كذلك ويحط من قيمة الهيئات أو الاحزاب أو المؤسسات في نظر العامة كما في ميزان العدل الإلهي ، ليصدق على أصحابه بعض ما جاء في الحديث النبوي الشريف : قال النبي صلى الله عليه وسلم «من كان له عند أخيه مظلمة، فليتحلل .فإنه ليس ثمة درهم ولا دينار إنما الحسنات والسيئات» البخاري. وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» رواه مسلم.