أن يستفرغ المرء جهده في الدفاع عن بديهيات ومسلمات، إنما هو من قبيل العبث ومضيعة الوقت وتعطيل الفكر، غير أن بعض الاندفاعات الفكرية الجوفاء تسوقنا إلى الوقوف الاضطراري ليس للرد عليها لأنها لم ترق إلى البناء العلمي المتوافق، ولكن لإبعاد سمومها عن المتلقي الفطري، هذه الأفكار السطحية كثيرا ما يغلب عليها الافتقار إلى الرؤية المنصفة للموضوع المتناول، ومنها ما يروج على أيدي ثلة من أهل الترقيع الفكري المعاصر بالقول إن الإسلام دين الإقصاء وأنه يرفض الآخر وليس فيه هامش للحرية ولا للديمقراطية... مما يحيلنا على طرح السؤال على المتلقي، هل حقا الإسلام يمارس هذه الطروحات؟ فالإقصاء هو نوع من الممارسة السلوكية أو القولية المشحونة بكل مقومات الرفض الممنهج، وأهم مرتكزاته مفهوم المنفعة. وبالمقابل فالإسلام جوهر رسالته هو في قوله تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين « فمتى كانت الرحمة إقصاء، والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عندما هاجر من مكةالمكرمة للمدينة المنورة كان أول شيء فعله أن بنى المسجد وقام بالإخاء بين الأوس والخزرج. ثم قام صلى الله عليه وسلم بإقامة أول وحدة وطنية في التاريخ وتمت تلك الوحدة بميثاق المدينة الذي عاهد فيه اليهود أن لهم ما للمسلمين من حقوق وعليهم ما على المسلمين من التزامات وقد كفل لهم الإسلام كل حقوقهم. وأيضا عندما استقبل وفد نصارى نجران وأقامهم في مسجد قباء وأمرهم أن يؤدوا صلواتهم في مسجد قباء وطلب من سيدنا عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهم أن يقوموا برعايتهم وخدمتهم، وحين استقبلهم الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا له لا نريد الدخول في الإسلام فقال لهم لكم ذلك بشرط دفع الجزية التي هي مقابل حمايتهم. والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وجهه ربه لأن يترك الناس على حريتهم الشخصية في الإيمان والاعتقاد وذلك في قول الله تعالى «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين» والحكمة من ذلك أن يستقر الإيمان عن يقين في القلوب حتى تتحقق الأخلاق الحميدة ويبنى المجتمع الذي تحكمه الأخلاق وتوجهه المثل العليا فيعيش المجتمع قوي البنيان متماسك اللبنات وكل أفراده يتعاونون على الخير. ومن مظاهر رفض الإقصاء كذلك: 1 إقامة الحق والعدل بين الخلق جميعا بغض النظر عن معتقداتهم وما يدينون به هدف أساسي من أهداف الإسلام بل هدف في حد ذاته بغض النظر عن أي ملابسات أخرى من منافع مادية أو دعوية أو ما ينشأ عنه من مفاسد متخيلة أو متصورة، فالله هو الحق المبين وبالعدل قامت السماوات والأرض. قال الله تعالى (وَخَلَقَ اللهُ السموات وَالأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون). سورة الجاثية – الآية : 22 لذلك أمر الله تعالى المسلمين أن ينصفوا الناس من أنفسهم فضلا عن آبائهم وأمهاتهم وذويهم. بغض النظر عن معتقداتهم وما يدينون به وهذا على سبيل الوجوب. قال تعالى (يأيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلوا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا). سورة النساء – الآية : 135. كما أمر الله تعالى المسلمين أن ينصفوا أعداءهم من أنفسهم وأن يقولوا الحق لله تعالى وألا تحملنهم العداوة حتى للكافرين على ظلمهم. قال الله تعالى (يأيها الذين أمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبيربما تعملون) –سورة المائدة – الآية : 8.. . 2- الظلم حرام لذاته: حرم الإسلام الظلم لذاته بغض النظر عن كون المظلوم كافرا أو فاسقا، فإن كان كافرا أو فاسقا فكفره أو فسقه على نفسه فلا يتقرب إلى الله بالظلم. قال الله تعالى (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(4) عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رضى الله عنه - عَنْ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فِيمَا رَوَى عَنْ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا... الحديث». أخرجه مسلم. عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ». أخرجه مسلم. ولقد أوصى النبي- صلى الله عليه وسلم - المسلمين بكل من له عهد مبيناً أن ظلمهم يحجب عن الجنة ومخاصمة النبي يوم القيامة. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَلا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (أخرجه أبو داود) وهذا جزء يسير من الأمثلة التي تعطي مثالا واضحا لا لبس فيه ولا حاجة فيه إلى القراءات الدلالية لاستنباط معاني التعايش وعدم رفض الغير كيفما كانت طبيعته أو خلفيته. إن الإقصاء غالبا ما ينعكس كصفة نقص من ممارسيه وهو متجاوز عند العقلاء فكيف بالرسالة التي اصطفاها الله تعالى برجاحة يستجيب لها العقلاء ويحترمها المفكرون حتى ولو كانوا من غير أهله.