« الدستورانية الجديدة في العالم العربي ، مسلسل صياغة الدساتير في سياق متغير « هو موضوع الورشة المابين ثقافية التي نظمتها بمراكش يومي الثلاثاء و الأربعاء 14 و 15 ماي 2013 لجنة البندقية و الجمعية المغربية للقانون الدستوري بدعم من الاتحاد الاروبي و وزارة الشؤون الخارجية النورفيجية و مؤسسة هانس سايدل الالمانية . الورشة تميزت بمشاركة عدد من الخبراء في الشأن الدستوري و شخصيات ساهمت في صياغة دساتير بلدانها و فقهاء في القانون الدستوري و رؤساء المحاكم الدستورية في عدد من البلدان العربية و بعض أعضائها ، و أعضاء بالجمعيات التأسيسية أو لجن الصياغة في البلدان التي عرفت تغيرات سياسية استتبعت إصلاحات دستورية في سياق ما يعرف بالربيع العربي ، و في مقدمتها مصر و ليبيا و اليمن المغرب و الجزائر و كذا اليمن و موريتانيا و الأردن و بعض البلدان الأروبية التي اجتازت نفس التجربة كإسلندا و رومانيا و ليثوانيا و غيرها . أشغال الورشة عرفت نقاشا معمقا حول تجربة صياغة الدساتير بالبلدان العربية في سياق الحراك السياسي الذي عرفته هذه البلدان، و المطبوع بتفاوتات حددت تجربة كل بلد حسب خصوصيته و أسلوبه في تحقيق التغيير الذي ينشده الشعب . حيث تفاوتت تجارب هذه البلدان من إعداد الدستور على قاعدة إسقاط للنظام السياسي القائم بمنظومته الدستورية و المؤسسساتية عقب ثورة شعبية كما هو شأن مصر و تونس ، إلى صياغته على قاعدة تغيير النظام إثر نزاع مسلح كما الأمر بالنسبة لليبيا ، أو القيام بالإصلاح الدستوري في ظل استمرارية ذات النظام ، مثلما حدث في المغرب مع دستور 2011 . و انطلقت الورشة من فرضية أن هناك معطيين غير مسبوقين في الدستورانية الجديدة موضوع النقاش . الأول معطى سياسي يتمثل في الأشكال الجديدة التي يتقمصها الطلب السياسي ، خاصة من خلال وسائل التواصل الحديثة و الشبكات الاجتماعية ، مما أدى إلى تحديث الطلب الدستوري و تحويله إلى طلب اجتماعي له من الملحاحية مما أدى إلى الاصلاحات الدستورية . و الثاني معطى دستوري يتجلى في زمن دستوري آخر من خلال حركية الربيع العربي ، زمن دستوري لا يضاهيه في حجمه سوى الزمن الدستوري لفترات الاستقلال . و في هذا الإطار يشير التقرير التمهيدي العام للورشة الذي ألقاه الخبير الدستوري الاستاذ عبد العزيز لمغاري رئيس الجمعية المغربية للقانون الدستوري في الجلسة الافتتاحية ، إلى أن زمن الربيع العربي يوافق إشكالية بناء و تكريس النظام الديمقراطي ، أما زمن الاستقلال فيوافق إشكالية تدشين و بناء الدولة الوطنية الحديثة . و إذا كان لكل من فترة بداية الاستقلال و الفترة الحالية دستورانيتها الخاصة ، فإن الأولى جاءت و استمرت دستورانية مراقَبة ، أما الثانية فهي لا يمكن أن تكون إلا دستورانية محررة في اتجاه الاختيار الديمقراطي . الورشة بينت أيضا أن تفعيل الدستورانية الجديدة يواجه مجموعة من التحديات . الأول هو تحدي صياغة الدستور و إعداده ، و يحيل إلى مسألة أداة الإعداد و الصياغة ، و كذا الفاعلين القائمين بهذه المهمة من جهة ثانية . و بخصوص الأداة فيتعلق الأمر بآليتي اللجان و الجمعيات التأسيسية بخصوصياتهما الموضوعية و الذاتية . أما الفاعلون فيطرح بصددهم سؤال من الذي ينبغي أن يُمثل داخل هيئة الإعداد و الصياغة و هل هناك علاقة بين نوعية التمثيل و مضمون النصوص المصاغة . و تواجه مهمة تفعيل الدستورانية الجديدة تحديا آخر يهم الاختيارات المتعلقة بطبيعة النظام الدستوري المنشود ، مع توجه واضح نحو اساسيات النظام الديمقراطي . فالرهان معقود في الدستورانية الجديدة على تثبيت دعائم دولة القانون باحترام و إقرار ما جاء به الدستور ، بما في ذلك تكريس الفصل بين السلط ، و مبدأ أسبقية القاعدة الدولية على القاعدة المحلية ، ناهيك عما يتحمله الفاعلون السياسيون من مسؤولية في هذا الباب ، سواء الذين يمارسون السلطة ، أو الذين يعارضونها . لأن الدستور ينبغي أن يكون دستورا للجميع بمنطق تطبيقه و احترامه ، سواء بالنسبة للذين يعارضونه أو بالنسبة لمن رفضوا الانخراط في إعداده منذ البداية . أشغال الورشة تضمنت تقديم تقارير حول بعض البلدان التي عاشت الربيع العربي ، و تجربتها في إعداد الدستور و العوامل الحاسمة في تطوير المكتسب الدستوري لهذه الشعوب ، أو في عرقلته ، حيث كشفت أن هناك تحولات كبيرة تضغط بقوة على صنع الدساتير في سياق التغيير الذي تشهده هذه البلدان . و السؤال الأهم الذي يواجهه الإصلاحيون في هذا الإطار هو أي نظام للحكم ينبغي اعتماده ؟ و أي توزيع للسلط ؟ و أي بناء للمؤسسات ؟ وفق أية حدود ؟ و أية حقوق ينبغي ضمانها للفرد و المجتمع ؟ و أية حريات ؟ إن عمق التطلع الدستوري كما كشفت ذلك تحليلات الورشة ينبني على بداهة لا ينبغي تجاهلها ، هي أن الديمقراطية نظام في حاجة دائمة إلى التنقيح و التطوير . فليس هناك حالة مثالية للدولة ، و كل تطور من هذا النوع يغني التراث الدستوري العالمي . فلا ينبغي تحويل الدستور إلى مومياء جامدة ، مثلما لا ينبغي تحويله إلى قميص نحتاج إلى تغييره كل يوم . و الأهم من ذلك هو التحلي بنوع من الدينامية لتقوية المناعة الديمقراطية للمجتمعات . إن صياغة الدستور هي لحظة تأسيسية في إطار تقاطع السياقات و الرهانات و تجابه المواقف ، و ترفع تحديات كبيرة تتمثل في الاستقلالية الدستورية كاختصاص و ككفاءة وطنية تعبر عن الاختيار الحر للمنظومة السياسية ، أي حرية صياغة القانون الأساسي ، بمعنى الديمقراطية بكل أبعادها و مكوناتها . لكن صياغة الدستور تبقى عملا ناقصا ما لم تقم الورشة التشريعية بدورها كاملا في تنزيل الدستور لكي يكون له مفعول في الواقع . فتعقد و تشعب مهام وضع الدساتير ، يفصح عن الحقيقة الأهم هي أن الورشة الأكثر جوهرية في هذا المسلسل هي مراقبة مطابقة القوانين للدساتير . و ذكّرت المداخلات التي قدمت في الورشة المابين ثقافية حول الدستورانية الجديدة في العالم العربي ، بمبدأ حاسم يحدد قيمة و دلالة ما يعيشه العالم العربي اليوم ، يتمثل في كون الهدف الأساسي من صياغة الدساتير هو الوصول إلى منظومة ديمقراطية . إذ إن المحرك الأكبر للثوار و المحتجين فرسان الربيع العربي ، هو الحلم بالحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية . و هذا الحلم ينبغي أن تستوعبه محاولات إعداد الدساتير الجديدة ليكون بداية جديدة فعلية و ليس مكمن خيبة مدمرة . عندما قدم المشاركون تقاريرهم حول تجارب بلدانهم في صياغة و إعداد دساتيرها ، تبين أن الدستورانية الجديدة بهذه البلدان تغطي شبكة من الإشكاليات المتشعبة . إذ أن هناك إكراهات تتعلق بأداة صنع الدستور هل جمعية تأسيسية تُنتخب ، أم لجنة صياغة تنتقى من ذوي الاختصاص و الكفاءة . ثم وسيلة اعتماد الوثيقة الدستورية هل بعرضه على الاستشارة الشعبية من خلال التصويت عليه في استفتاء عام ، أم بعرضه على مجلس منتخب . في هذا المستوى نكون أمام جوانب فنية في الإعداد . لكنها موضع صراع كبير لأن دورها حاسم و مؤثر في مضمون نصوص الوثيقة الدستورية نفسها . و بالطبع فإشكاليات الدستورانية الجديدة لا تتوقف عند هذا الحد ، كما بينت التقارير التي قدمت حول تجربة بعض البلدان . فالتجربة الليبية طرحت على سبيبل المثال إضافة إلى إشكال الآلية و تداخل الصلاحيات مابين المؤتمر الوطني العام و لجنة الستين ، إشكالية أعمق تتعلق بالثقافة الدستورية في مجتمع حرم لأزيد من أربعين سنة من الاقتراب من الحياة السياسية ، و هو ما يجعل اعتماد آلية الاستفتاء الشعبي إلى سلاح خطير يوضع في يد من لا يعرف استخدامه بشكل جيد . و التجربة الإسلندية ، كشفت بعدا آخر في المسلسل الدستوري ، لأن الداعي لهذا التغيير الدستوري كان هو تداعيات الأزمة المصرفية بالبلد التي كشفت أن مكمن الخلل في إدارة الشأن العام هو سيطرة اللوبي المالي على المجتمع السياسي ، وشرائه للقرار السياسي . و هو ما جعل الرهان الأكبر في التعديل الدستوري هو إيجاد وسيلة دستورية لحماية الشأن العام من تدخل الشركات العملاقة و خوصصة القرار السياسي . و في مصر كان الصراع حول الآلية صراعا في العمق حول المرجعية التي ينبغي أن توجه صياغة الدستور الجديد ، هل هي مرجعية أصولية ، أم مرجعية تحديثية ديمقراطية .بمعنى أن صياغة الدستور لا تطرح فقط سؤال طبيعة الحكم و لكن أيضا أسئلة أخرى تتعلق بالهوية . و يُستنتج من مجمل التقارير التي قدمت حول هذه التجارب ، أن الدستور منظومة مختارة من قبل مجتمع يتساءل حول نفسه و حول حدود حريات أفراده و حقوقهم ، و حول أنظمة الحكم و ممارسة السلطة ، و من ثمة فهو مشروط بخصوصية سياقه التاريخي . فالمجتمع يرتب أوراقه عبر الإصلاح الدستوري ، و يسعى إلى تحقيق سلمه الداخلي ، من خلال شرعية مقبولة من قبل كل الأطراف . لذلك فإنه إذا كان الصراع السياسي و الاجتماعي هو مولّد الدساتير ، فإن التوافق حول مضامينها هو شرط نجاحها . و إلا أضحى الدستور عامل احتقان داخل المجتمع يهدد بانفجار وخيم العواقب. إن إشكاليات الدستور في البلدان العربية التي شهدت الربيع العربي ، كما خلصت إلى ذلك اشغال الورشة ، تعكس الإشكاليات الكبرى التي تحكم تاريخ هذه المجتمعات ، و في مقدمتها تلك التي تصاغ في شكل ثنائيات : التقليد أم التحديث ؟ مدنية الدولة أم طابعها الديني ؟ التيوقراطية أم الديمقراطية ؟ الخصوصية الوطنية أم الكونية ؟ و هي ثنائيات ما زال الصراع حولها دائرا ، و المعركة بصددها لم تحسم بعد ..