الظاهر اليوم، لكل من له متسع من الذاكرة تسعفه بعناصر المقارنة، ان هناك نزولا كبيرا في مستوى اللغة المستعملة في السجال السياسي الدائر حول مختلف القضايا العامة بين الفرقاء السياسيين الاكثر بروزا في الساحة الإعلامية الوطنية. يغذي هذا المسلسل التراجعي في مفردات او منطوقات اللغة السياسية المتداولة ،سباق محموم بين المتصارعين/ المتسابقين من اجل إثبات التوفر على نوع جديد من القدرات -اذا جاز تسميتها قدرات- نوع لم يألفه الحقل السياسي المغربي حتى في أقحل مراحله و أسوا حالاته ، نقصد قدرة إقحام مفردات اللغة الدارجة المغربية في سياقات ليست معدة في الاصل لها ،وافراغها، من ثمة ،من دلالاتها العادية الأصلية, كما انطبعت في المجال التداولي العادي ،ومحاولة اكسابها، بالتعسف على قواعد المجاز، حمولات سياسية لا قبل لها بها . وحيث ان الفعل ،بطبائع الأمور ، يولد ردة الفعل، وحيث ان منطوق الكلام المتحدث به على سبيل إثبات تلك القدرات، يدفع المتلقي المقصود برسائل الكلام، ،الى رد الصاع صاعين والصفعة صفعتين، وذلك بالتفنن في استعمال مفردات من نفس الطينة والمنبت ،فإننا اصبحنا، في المحصلة، إزاء ركام من الكلمات يزداد حجمها بقدر ما ينكشف خواؤها مع مرور الوقت ويضعف تأثيرها على وعي الناس أو فهمهم للأوضاع . لقد انتقلنا في بحر بضعة أشهر ضمن هذه الممارسة الخطابية السجالية، المتجنية بصلف على قواعد المجاز ومبادئ السيميائيات (علم الدلالات) ، من الحديث عن الشياطين و العفاريت والتماسيح، الى الحديث عن بويا عمر . وفي كل مرة يتم فيها النطق بهذا النوع من المفردات ،يلعب ميكانيزم المسرع l effet multiplicateur ( كما يسميه الاقتصاديون) دوره ، وهكذا فالشياطين قد يصبحون جنة ( بكسر الجيم وتشديد النون ،أي جمع جن) وهذه قد تتخذ ألوانا، بيضاء وزرقاء . والشاهد أن المتحدث، وهو في غمرة السباق السجالي بالعامية مع خصومه، يحجم في كل مرة وبحرص شديد، عن الإفصاح عن المكنون بين الضلوع عند النطق بتلك الكلمات ،فلا نعرف فيما إذا كان يقصد مثلا بالصنف الأول من الشياطين ، أصحاب الياقات البيض من المدراء والمسيرين ،و بالصنف الثاني أصحاب الياقات الزرق من ممثلي نقابات العمال والمستخدمين ، ام انه يقصد مكونات سوسيومهنية أخرى لا نعرفها. والعفاريت بدورها قد تنقسم الى عفاريت أنيقة، صامتة، بربطات عنق حريرية ملساء ،تشتغل بالكمبيوتر في مكاتب إدارية مكيفة الهواء ، وعفاريت اخري تملأ أصواتها المجلجلة الآفاق ،تصم الأذان، تملا الأفق هولا ولا ترضى بغير الانتصار الكاسح بديلا. ومرة أخرى لا يكشف المتحدث بهذا النوع من اللغة فيما اذا كان يقصد بالصنف الأول من العفاريت- تلك الصامتة - عناصر البيروقراطية المتحكمة في دواليب الإدارة ومراكزها النافذة، ام يقصد كائنات أو مؤسسات أخرى قد لا ترد على خواطرنا ، كما لا يكشف لنا نفس المتحدث مثلا فيما اذا كان يرمز بالصنف الثاني من العفاريت - ذات الأصوات المرتفعة -تلك القوى السياسية التي أقسم أصحابها على العمل من اجل تغيير حاسم وجذري في الموازين السياسية التي خلفتها الانتخابات الاخيرة، ام يقصد أطيافا وتنظيمات سياسية اخرى قد لا نكون على علم بوجودها،او على دراية كافية بفعاليتها، حتى حينما نكون عارفين بوجودها. وبالمثل وبنفس اثر ميكانيزم المسرع ، فإن التماسيح قد تتعدد فتصبح أشكالا وأنواعا والوانا، فيها البارز تراه العيون بوضوح، راقدا جامدا على جنبات الوادي ، وفيها الغاطس المختبئ تحت الماء، لا يتراءى للناظر منه غير الطبقات الجلدية الفوقية، والتي قد تختلط او تمتزج في الرؤية مع منظر أغصان الأشجار المتساقطة المنسابة في مجرى المياه. ومرة اخرى ،وكما في حالة الشياطين والعفاريت، فان المتحدث بهذه اللغة ،وبهذا النوع من المفردات ،يحرص على ان لا تكشف كلماته أشخاصا بعينهم ، بلحمهم ودمهم ، ولا ان تكشف مؤسسات بعينها ، بهياكلها وتقاليدها وممارساتها.ولذلك فلن تعرف فيما اذا كان المقصود بالنوع البارز من التماسيح ، الراقد مستلقيا على جنبات الوادي، أقطاب اقتصاد الريع المتحينين للفريسة، وهي هنا الربح السريع، والإثراء بلا سبب ،ام هو نوع آخر لا نعرفه، من منتهزي الفرص، كما لن يكون بمقدورك ان تعرف مثلا فيما اذا كان المقصود بالتماسيح المختبئة والمتنفسة تحت الماء، مراكز قوى تفضل الفتك بضحاياها بعد استدراجهم بالخديعة الى مجال هي اقدر على التحكم فيه، ام ان المتحدث يقصد كائنات اقتصادية اخرى لها خاصيات ومسلكيات اخرى لم ترد على خاطر كل علماء الاقتصاد السياسي منذ دافيد ريكاردو واضع أسسه الاولى في العصر الحديث . وبالمثل والشبه المتطابق، وعلى الضفة الأخرى للمشهد، في حلبة الخطابة المستعرة اللهيب، لا نعرف ما الذي يمكن ان يرمز له اسم الولي المعروف بويا عمر من دلالات في دينامية الحياة السياسية الراهنة بالنسبة لمن اقحموا الاسم في السجال، ذلك ان زيارة مقام قبر هذا الولي ترتبط ،في المخيال الشعبي البسيط في مناطق متعددة في بلادنا بخاصيات او مفعولات شفائية لأمراض عصابية اوذهانية (بالمعنى الفرويدي)، ولم نسمع في اي وسط شعبي ان الزيارة تنفع أيضاً لمعالجة أعراض أمراض سياسية . والحال انها هي المقصودة أساسا فيما يظهر، في خطاب المتناظرين الذين أوصوا خصومهم بالزيارة، مقحمين هكذا اسم الولي في حروب كلمات تفقر اللغة السياسية المتعامل بها يوما بعد يوم. لماذا نزل مستوى اللغة السياسية إلى هذا الحد من الرداءة والإسفاف؟ لماذا يصر البعض على التأسيس ليسميائيات مشوهة في المجال السياسي تميع هذا المجال ذاته وتفقر قواعد ذلك العلم الذي توخى رواده ويتوخى المشتغلون عليه اليوم تطوير علاقات التفاعل بين الكلمات ودلالتها؟ لماذا انتقلنا في ظرف جيل سياسي واحد فقط،، عند توصيف الأوضاع السياسية والصراعات التي تكتنفها والتناقضات التي تطبعها من الحديث بلغة تتوسطها مفاهيم من قبيل الطبقات الاجتماعية، الهيمنة، الاستلاب الأيديولوجي، النقد الذاتي، مخاضات التحديث والانتقال، مراكز القوى، جيوب مقاومة التغيير، (على سبيل المثال) الى وضع لغوي اصبح فيه الليكسيك السياسي يتسع لمفردات من قبيل الشياطين ،العفاريت والتماسيح ،واصبح فيه التنابز بين المتخاصمين يستدعي إقحام الولي بويا عمر في السجال ؟ سؤال إشكالي سيكون من باب الادعاء المبالغ فيه الإجابة عنه ضمن مقال قصير يقصد التنبيه الى واقع حال اللغة السياسية المستعملة في السجال الدائر بين المتصارعين المتسابقين ومع ذلك لا باس من محاولة تفسير مؤقت لهذه المعضلة الكبيرة . والتفسير المؤقت الذي يتبادر الى ذهني هو كما يلي: القاعدة العامة في الممارسة الديمقراطية الناضجة تقتضي ان تقوم عناصرالطبقات السياسية ،في عملها العادي التأطيري ،البيداغوجي، التعبوي بتوصيف الظواهر السياسية الماثلة أمامها وشرحها وتبليغها للرأي العام اعتمادا على لغة ومنطق ومفاهيم تسهل الاستيعاب بالنسبة للمتلقي لما هو معقد ومتشابك وغير بديهي في تلك الظواهر.. قد يحصل ان يكتشف السياسي في غمرة ممارسته الخطابية نوعا من الصعوبة والتعقيد في المفاهيم المستعملة يكون من تبعاتها السلبية مثلا تعويص مهمة الانتقال ،بالنسبة للجمهور المتلقي من المجردات الى المحسوسات، اي من المفاهيم المنطوقة الى الوضعيات والقضايا والممارسات المقصودة من الكلام ،وفي هذه الحالة ،وهي من طبيعة الاشياء في الممارسة الخطابية ، فان السياسي ، يبذل الجهود من اجل التصويب والتعديل والانتقاء بين الكلمات والمفاهيم بما يحافظ على الفكرة او الراي او التقييم في دلالاتها الأصلية كما هي منطبعة في عقله ، لن يقوم مثلا بتفقير الفكرة او مسخها بدعوى او مبرر تسهيل تبليغها ، لن يقوم بأية مقايضة في هذا الشأن . ولم يقدم السيد جون كلبرايت في الخمسينيات الماضية مثلا اي تنازل مفاهيمي مخل بالمعنى حينما كان يطوف الارجاء والأوساط السياسية الامريكية توضيحا وتفسيرا لمفهوم " المركب الصناعي العسكري " . ولم ينزل مثلا ،طمعا في تبسيط او توضيح الى نعته لا السبع ولا بالغول ولا بالدب القاري. ولم يستسلم السياسيون في الاتحاد الاوروبي للسهولة او التبسيط المخل عند مختلف مراحل الصراع والسجال بين دعاة تعميق الوحدة وبين المناهضين لسلطة مراكز القرار في بروكسل على المؤسسات الوطنية ، ولم نسمع غير الحجة تقارع الحجة بلغة راقية تليق بالألباب السياسية ولا تقدم فيه البيداغوجيا اي تنازل للديماغوجيا، ولم نسمع مثلا ان أنصار الموقف الأول في اسبانيا أوصوا خصومهم -في السجال الدائر حول الموضوع- بزيارة سان جاك دو كومبوستيل !! والخلاصة على سبيل تفسير السر في هذا النزول المريع لمستوى اللغة السياسية في بلادنا اليوم, أن جزءا كبيرا من الطبقة السياسية الأكثر بروزا في الساحة الإعلامية لم تعد ترى البيداغوجيا السياسية الا على النمط الشعبوي ، فتصبح المفاهيم والمصطلحات والكلمات السياسية عرضة للهدم والتدمير اليومي بالمجاز الكاتب والمتافور المهزوز المستعير لكل أنواع الدواب والزواحف، والمصيبة أن السياسي عندنا يعتقد انه يؤدي مهامه كاملة في التوضيح والتبسيط في حين انه لا يعمل الا على مزيد من التمييع والتعتيم وهكذا تنضاف الى شعبوية الطروحات والمواقف، شعبوية التعبيرات والترميزات، تغذي إحداهما الأخرى باستمرار. هل نستغرب بعد هذا ان نرى المجال السياسي، او على الأصح مجال الاهتمام بالسياسي، يتقلص يوما بعد اخر خلافا لما تعتقد عناصر طبقتنا السياسية التي تتوهم ان الرأي العام، الذي يوجد اليوم في وضعية المتفرج بنصف عين على ما يجري من صخب ولغط وتنابز بأسماء الدواب والعفاريت، أو حتى بأسماء الاولياء في الساحة السياسية ، هو رأي عام متابع ومهتم ، خالطة بذلك بين وضعية التفرج ووضعية الاهتمام والمتابعة والثقة فيما يقال. لماذا يتقلص المجال السياسي ومجال الاهتمام بالسياسي ؟ ذلك موضوع حديث مقبل.