ليس من شك أن تسليط الضوء على اشكالية العلاقة بين الأسرة والمدرسة، يضعنا أمام أحد الموضوعات التي استأثرت باهتمام العلوم الإنسانية اليوم، خاصة علم الاجتماع وعلم النفس. تقدم هذه الورقة رؤى وأفكار حول المسألة؛ وعبرها سنحاول مساءلة طبيعة هذه العلاقة نحو فهم أعمق للأزمة داخل ثنائية الأسرة المدرسة، دون أن نشعِّب عناصرها إلى ما يقع خارجها. يَعْتبر علمُ النفس الاجتماعي الأسرةَ والمدرسةَ من مؤسسات التنشئة الاجتماعية (socialisation). فإذا كانت التنشئة الاجتماعية هي القناة والجسر الناقل لثقافة وعادات وقيم مجتمع معين إلى أفراده لضمان استمراره، فإن الأسرة والمدرسة هما معمار كل اجتماع بشري منظم يَنْتَوِي الاستمرار. ذلك أن الفرد في النوع الانساني لا غنى له عن العناية التي يوليها إياه المجتمع؛ فهو في حاجة دائمة إلى الرعاية والحماية منذ نعومة أظافره؛ وهذا الدور تنهض به الأسرة باعتبارها النواة الأولى للمجتمع؛ لكنه (الفرد) يحتاج في درجة ثانية إلى منافذ أخرى كي يستكمل تكوينه النفسي والذاتي، على رأسها المدرسة. تسمح التنشئة الاجتماعية باستدخال المعايير الثقافية والدينية إلى أفراد المجتمع، وتحقيق الاستقرار في الشخصية عبر محطتين: الأولى، تقع في مرحلة الرضاعة والطفولة، يكتسب فيها الفرد اللغة وأنماط السلوك الأساسي داخل مؤسسة محددة هي الأسرة؛ أما الثانية، فتستمر حتى سن متقدمة يضطلع فيها الفرد بمؤسسات أخرى تتدخل في تكوينه الذاتي، ومن جملتها المدرسة ووسائل الاعلام... إلخ. هنالك إذن، تلازم بين الأسرة والمدرسة في مستوى الغاية، واختلاف في حدود وميكانيزمات التدخل، وفي أدوات «الثواب والعقاب». ناهيك عن أنهما ما يسمح للفرد بتحرير قدراته الذاتية وإمكاناته الخاصة، فإذا اعتور مشكلٌ إحداهما، انعكس على الفرد. وبالتالي انتقل إلى المجتمع ككل لأن الفرد هو وحدة المجتمع ونواته الأساسية. أن نفكر في العلاقة بين الأسرة والمدرسة معناه أن نتبين أمر الرسالة التربوية الأخلاقية والمعرفية الثقافية التي تشكل جوهر وجودهما معا من جهة؛ وأن نضع نصب أعيننا وظيفة كل منهما في بناء مجتمع قوي متماسك البنى. وعندي، أن منطق الجزر المعزولة، أو التباعد، لا يخدم هذه الغاية. فكلما تم مد جسور التواصل والتكامل بين المؤسستين كانت الفائدة أعم، والنتائج أثمر. والحال أن كل خلل ينتاب إحداهما، فهو، لا محالة، عابر إلى الأخرى. والعكس بالعكس. هنا يمكن أن نتحدث عن علاقة «مرآوية» بين الأسرة والمدرسة؛ أي أن منطق التفاعل هو الحاكم لهذه العلاقة سواء كان سلبيا أو إيجابيا؛ فالجهد الذي تقوم به الأسرة يعطي أُكْلَه في المدرسة، والعمل الذي تقوم به المدرسة يفرز أنماط سلوك داخل الأسرة. هكذا يتحول التلميذ من متلقٍّ سلبي إلى فاعل أيضا. وهذا الأمر يلمسه «الفاعلون» من الجانبين؛ أي الآباء والأمهات في البيت، والطاقم التربوي داخل المؤسسة التعليمية. يُعبِّر ذاك التفاعل عن نفسه كتأثر متبادل أو، في بعض الأحيان، كتوتُّر بين المؤسستين الاجتماعيتين في شكل تَرَاشُقٍ للمسؤولية. يزيد الأمرَ صعوبة تدخلُ قنوات أخرى في التنشئة الاجتماعية كالإعلام والشارع؛ لذلك يستدعي كل سعي نحو بناء مجتمع على أسس سليمة، عيونا يقظة وغاية واضحة وجهدا وتعاونا بين كل الفاعلين. لا يمكن نفي وجود عراقيلَ تعترض وتعتور العمل التربوي التعليمي، ولا يمكن تجاهل الأزمة التي تعرفها الأسرة والمدرسة معا في اللحظة التي تعاصرنا؛ لكن «طَبَقَ» النجاح في بناء مجتمع قوي متماسك على جميع الأصعدة، لا يقدم إلى الذين أعلنوا استسلامهم؛ وربما يكون فقدان القدرة على التواصل الهادئ والرصين أحد الأسباب الجوهرية للأزمة التي تعيشها، ليس فقط العلاقة بين الأسرة والمدرسة، وإنما الأسرة والمدرسة من الداخل. ولعل فتحَ حوار بين مختلف الفاعلين الاجتماعيين بصدد هذا الموضوع كفيلٌ بأن يمد الجسور وأن يفتح الأقواس المغلقة نحو مدرسة أكثر انفتاحا على الأسرة، وأسرة أكثر إقبالا على المدرسة. وهذا الأمر لا يستقيم إلا بنسج خيوط التواصل والتعاون بين الآباء والأمهات من جهة، والطاقم التربوي المدرسي. على سبيل الختم، يمكن القول إن أنجع طريق لتربية وتعليم سليمين هو أن تصير الأسرةُ «مدرسةً»، والمدرسةُ «أسرةً»؛ أي أن تحف المدرسة الأبناء بوجدان ودفئ الأسرة، وأن تفكر الأسرة بعقل وأدوات المدرسة. * باحث في الفلسفة والشأن العام