من المعلوم أن الفريق الحكومي الحالي بزعامة العدالة والتنمية، جعل من مقولة اتركونا نشتغل، حجر الرحى في خطابه الدعائي والإعلامي، حينما يسمع أو يقرأ انتقادات حول ممارسته أو حدود هذه الممارسة، قياسا إلى ما قدم من وعود وما طرح من برامج وما خطط له من انتظارات واسعة. اتركونا نشتغل، كلمتان أراد لهما فريق العدالة والتنمية، أن يكون لهما المفعول السحري على العقول والنفوس، وأن يكونا بمثابة البلسم الشافي لجروح الزمن الغائرة . تحركت النقابات منددة بالغلاء وضيق اليد، فسمعناهم يقولون:»اتركونا نشتغل»، تحركت الاصوات عالية في الاوساط الشعبية، منددة بارتفاع أسعار المحروقات وانعكاساتها، فسمعناهم يقولون: « اتركونا نشتغل» . انتقدنا التأخر في تنزيل القوانين التنظيمية، ورأينا في ذلك نسفا عمليا في للروح الديمقراطية الواردة في نص الدستور، فسمعناهم يقولون: «اتركونا نشتغل». اهتم الخبراء منا في الاقتصاد والباحثون من السوسيولوجيين عن مظاهر التطور أوالعجز في مدننا الكبرى، ووقفوا على استمرار مؤشرات الهشاشة وتزايد بعض مظاهرها، فقاموا بالتنبيه، وأثاروا الانتباه الى ضرورة تغيير مجرى السياسات والإجراءات ضمانا لتماسك اجتماعي اضحى كالسراب، فقالوا لنا: «ويحكم اتركونا نشتغل». تفاقم العجز الحقوقي، حتى طال لا فقط المعطلين الباحثين عن شغل ورغيف، ولكن كذلك صغار الموظفين الذين رفعوا في وجه وزير العدل مطالب عادلة، فكان نصيبهم الضرب والتنكيل. فكان الجواب للمرة المئة «اتركونا نشتغل». وأخيرا جاءت كبيرة الكبائر، لقد حذفوا من ميزانية الاستثمار العمومي 15 مليار درهم . نعم 15 مليار درهم ستنقص من ميزانية الاستثمار، وفيها بالطبع طرق بوادي ومستوصفات ومدارس ومعاهد تكوين وتجهيزات للشباب ومراكز اسعاف للشيوخ والعجزة، ناهيك عن مخصصات لدعم الاستثمار المباشر المولد لفرص الشغل. وحينما رفعنا اصواتنا نندد بهذا الاجراء، الذي ينم عن ضيق أفق، ويدل على معضلة كفاءة في تدبير اموال المالية العمومية، سمعنا للمرة الواحدة بعد المئة من يقول: « اتركونا نشتغل». هل تريدون أيها السادة حقا والحالة هذه أن نترككم تشتغلون؟ وفي هذه الحالة هلا وضحتم لنا معنى الاشتغال ودلالاته، من غير تلك التي نراها منعكسة على الجيوب والأبدان والأمزجة؟ الآن وبعد كل هذه المدة الفاصلة بين الوعود والوقائع. الآن وقد ظهر ما هو أكثر من مقدمة وعربون لما ستختمون به ولايتكم الحكومية. الآن وقد أخذتم أربعة اضعاف ما يعرف بفترة السماح، التي تعطى عادة للحكومات لإبراز كفاءتها وجدارتها وصدقية برامجها، ولم نر خلال كل هذه الفترة الطويلة، سوى الدعوة اٍلى شد أحزمة هي مشدودة أصلا على البطون. هل تريدوننا فعلا أن نصدقكم حينما تخاطبون منتقدوكم بالقول: « اتركونا نشتغل» ألا يعني تصديقكم، تصديقا لخطاب الشعبوية؟ لا، لن نصدقكم مسترشدين بالحديث النبوي الشريف: «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» . وفق هذا الطرح، ينبغي تدبر المقالات الإحدى وخمسين طيلة 137 صفحة من أجل وضع الحدود / تلمس الفوارق بين : - من يعيش بالفلسفة أو على الفلسفة ومن يعيش الفلسفة - من يمحص ويفحص محاولا الفهم ومن يركب العجلة مكتفيا في فهمه على الجاهز من الأحكام . - من يدقق في المفاهيم والرموز من منطلق الفهم والتحايل ومن يعتمد معجم الميتافيزيقا لفهم ما يستعصي عليه من أمور. - من تمثل الفلسفة ، بالنسبة إليه ، نمطا للعيش ( وللعيش معا) يتجلى في حياته اليومية بشكل مسترسل ومستدام ومن تمثل له الفلسفة موردا للريع ... - من هنا ، تأتي أهمية المقالين الأول والأخير وهي ليست صدفة بقدر ما هي تأشير لمرامي الافتتاح والختم وما يرمز إليه معنى البداية والنهاية في جدوى رسالة ما ....في المقال «الفلسفة فنا للعيش» ( المقال الأول) ضبط لإيقاع ما يستقبل من مقالات مؤطرة وفق موجه فكري يجعلها تتناغم مع الفكرة القائلة بوجوب تبني فلسفة كفن وأسلوب ونمط وثقافة للعيش يتلمسة الأفراد كما الجماعات كمواقف تقاوم البلاهة التي أضحت ملازمة لحيواتنا ...كما يمكن تلمسه أيضا في ضرورة اليقظة لبنية الحدود مرئية كانت أم غير مرئية بما فيها «حفيف اللغة / بارط» والمفعول المدمر للشائعة وأهمية الوعي بهشاشة أوضاع(نا) ....وبالتدريج ، تتضح معالم رِؤيا فلسفية بعد فتح صنبور مقالات تهم المثقف ومواقفه مما يجري في العالم العربي ، على وجه التحديد، وعلاقته بالسياسة والسياسي . والمثقف في مقالات الأستاذ بنعبد العالي ، قد يكون صحفيا يتهافت على المنابر ويضرب أخماس في أسداس إلى درجة تغدو فيها كلماته»ليست كالكلمات» ص 28 ، وقد يكون السياسي «الوحش» كما في حالة DSK المدير السابق للبنك الدولي والمرشح رقم 1 للانتخابات الرئاسية اللحزب الاشتراكي الفرنسي كما قد يكون ذلك اليساري أو المتياسر المنتمي إلى فئة الذين « هزتهم الانتفاضات وكشفت لهم عن عطالة يساريتهم وعقم نظرياتهم وتقادم تحليلاتهم بل إنها أشعرتهم بالضرورة الملحة إلى إعادة النظر في أساليب التفكير وأسس التنظير والتنظيم بهدف بناء فكر مغاير ونحت مجتمع بديل» ص 72 ... وكما قد يكون أيا كان ولو كان من استبدل صندوق بريده بعنوان إلكتروني بعدما استغنى عن إحداثيات البريد التقليدي المتمثل في الزقاق والحي والرقم و.... قد يصاب المرء بالحيرة أمام المواقف المتناقضة والمتضاربة التي تصدر عن فرق الأغلبية التي تتنافس فيما بينها على قول الشيء وضده وتتسابق، وكأنها في حلبة ألعاب القوى، على محاولة تحقيق بعض الكسب السياسي على حساب بعضها البعض، وذلك، إما من خلال الاستفراد بالقرارات والركوب عليها إعلاميا لتسجيل بعض السبق واستثماره سياسيا، وإما من خلال الانتقاد الشديد لهذا الاستفراد، وكأننا لسنا أمام أغلبية تدعي أنها تدبر أمور البلاد، طبقا لميثاق أسموه «ميثاق الأغلبية» وبناء على برنامج قدم إلى الشعب المغربي على أساس أنه «برنامج حكومي»؛ أو كأن البلاد خالية من المشاكل وترفل في بحبوحة من العيش، يمكن معها السماح للذات بأن تنتفخ بعض الوقت وتركب صهوة الأنا افتخارا وتبجحا بالمنجزات والمكتسبات؛ وقبل هذا وذاك، وكأننا لسنا أمام دستور جديد ينظم السلطات ويحدد الاختصاصات. وهذا الواقع جعل بعض الصحافيين يحارون في توصيف ما يحدث في صفوف الأغلبية الحكومية وأحزابها، لأن ذلك يكاد يكون استثناء مغربيا، إذ من الصعب أن تتصور حدوث مثل هذه اللخبطة في البلدان الديمقراطية، بل و حتى في تلك التي تسعى إلى تحقيق الانتقال الديمقراطي، كما هو الشأن بالنسبة لبلادنا. نتذكر جميعا «دفتر تحملات» «الخلفي» في مجال السمعي البصري وما تبعه من ردود أفعال داخل الأغلبية الحكومية؛ ونتذكر أيضا نشر تلك»اللوائح» المعلومة من قبل وزير التجهيز وما تلا ذلك من انتقادات، إما بسبب الاستفراد بقرار النشر وتغييب باقي مكونات الأغلبية في اتخاذ القرار، وإما بسبب عدم كفاية النشر دون وضعه ضمن مخطط يرمي لمحاربة اقتصاد الريع، خصوصا وأن اللوائح كانت موجودة من قبل مجيء هذه الحكومة، وبالتالي فهي لا يرجع لها الفضل إلا في النشر الذي لا يسمن ولا يغني في مجال محاربة الفساد واقتصاد الريع. وسيزداد الطين بلة حين أقدمت الحكومة على الزيادة في أسعار المحروقات وعلى التقليص من ميزانية الاستثمار العمومي، وما لهذين القرارين من تأثيرات سلبية على الوضع الاقتصادي والاجتماعي، مما جعل كل فريق يبحث له عن طوق نجاة يقيه من تبعات مثل هذه القرارات، فلم يجدوا أحسن من «معارضة الذات» وتبادل التهم الثقيلة أحيانا. وإذا ما حاولنا أن نفهم أسباب هذا التشرذم الحكومي، أو على الأقل بعضا من هذه الأسباب، فسنجد، من بينها، أن مكونات الأغلبية، وعلى رأسهم الحزب الأغلبي وفريقه الحكومي، هم في حملة انتخابية دائمة منذ أن شرعت هذه الحكومة في ممارسة مهامها. فبدل أن تنكب، بكل مكوناتها، وبقيادة رئيسها الذي منحه دستور فاتح يوليوز 2011 صلاحيات واسعة، على الملفات الكبرى وتشتغل على الأوراش التي يمكن أن تعطي نتائج، ليس بالضرورة آنية، لكنها، بكل تأكيد، سيجني البلد ثمارها على المدى المتوسط والبعيد، راحت تشغل الناس ب»الهتوف» والكلام الفارغ، من قبيل شجاعة القرارات المتخذة و»المنجزات» المنتظرة، معتمدة، في ذلك، على تسويق إعلامي يستغفل الناس البسطاء بترويج وعود كاذبة، من جهة، ويستدر العطف السياسي باختلاق أعداء، تُلقَى عليهم مسؤولية عجز الحكومة عن الوفاء بوعودها، من جهة أخرى. ولسنا، هنا، بحاجة إلى أن نذكر بقاموس السيد «بنكيران» الذي يمتح من عالم»سيف بن ذي يزن» ومن عالم «بن المقفع»، ليجعل من العفاريت والتماسيح والساحرات، وغيرها من الكائنات الخرافية ومن الوحوش، معارضين لبرنامجه «الإصلاحي» والعاملين على إفشاله؛ وهدفه البعيد من هذه «السياسة»، هو تكريس صورة الضحية عن نفسه وعن حزبه، في ذهن الهيئة الناخبة، حتى يلقي على الغير، مستقبلا، بأسباب الفشل المحتمل ، بدل أن يتحلى بالشجاعة ويقر بضعفه وضعف فريقه الحكومي. ولن نعيب عن المكونات الأخرى للأغلبية انخراطها في الحملة الانتخابية الدائمة، رغم ما في ذلك من حسابات سياسية ضيقة، ما دام حليفهم الذي يقود الحكومة، قد جعل من كل صغيرة وكبيرة مناسبة للاستغلال السياسي والانغماس فيما يشبه حملة انتخابية دائمة. كما لن نعيب عليها ممارسة المعارضة من داخل الحكومة ومن داخل قبة البرلمان، أسوة برئيس الحكومة وبفريقه البرلماني. ف»بنكيران» نفسه يريد أن يكون الحكومة والمعارضة في نفس الوقت؛ بل كم من مرة غلَّب دور المعارضة على دور الحكومة: ألم يهدد بالنزول إلى الشارع؟ ألم يهدد الدولة بحركة 20 فبراير؟ تلك الحركة التي كان ضدها، بينما هو من قطف ثمار تحركها. ألم يفعل فريقه البرلماني، أسوة به، نفس الشيء؟ يساند ويعارض، حتى إن الأمر قد يختلط على المواطن العادي إلى حد عدم التمييز بين من يمارس السلطة وبين من يمارس المعارضة. ثم ألم يهدد بمغادرة الحكومة، وهو الذي أمَّنته صناديق الاقتراع على تدبير الشأن العام، بعد أن صدَّق المغاربة وعوده وصوتوا لصالح حزبه...؟ أليس كل ما سبق داخلا في إطار حملة انتخابية دائمة؟ وهدفها الوحيد هو، بالطبع، دغدغة العواطف باستعمال كل الأساليب الديماغوجية الممكنة، دون إقامة أي اعتبار للآثار المدمرة لهذا النوع من السياسة التي تدعي شيئا وتقوم بضده. والخاسر الأكبر في هذه العملية هو الوطن والمواطن؛ ذلك أن الخيار الضيق الذي يعطي الأسبقية للحزب على الوطن، ويعتمد على «البروباكندا» بدل الاعتماد على التخطيط والبرمجة المدققة، هو عمل غير مثمر ولا يؤدي إلا إلى تأزيم الوضع اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. ومع ذلك، فهناك من شغله الشاغل، هو شعبية «بنكيران»، وكأن هذه الشعبية هي القضية الأساس بالنسبة للبلاد. ويزداد المرء حيرة، حين يجد نفسه أمام مدير نشر جريدة وطنية تعتبر نفسها مستقلة، يُجهد نفسه لإبراز هذه الشعبية من خلال مقال رئيسي في جريدته وعلى صدر صفحتها الأولى، وبأسلوب يعبر، بالبنط العريض، عن الرضا والإعجاب لكون هذه «الشعبية» بخير، وكأنها هي مفتاح حل المشاكل التي يعاني منها المواطن، والتي، في الواقع، لم تزدد مع «بنكيران» وحكومته إلا سوءا وتأزما، ما عدا، فيما يبدو، أمثال الصحافي المعجب بشعبية رئيس الحكومة. فبعد أن صموا آذاننا بكلام ينفي وجود الأزمة، تأتي قرارات الحكومة (الزيادة في سعر المحروقات، ثم تخفيض ميزانية الاستثمار) لتنذرنا ليس فقط بوجود الأزمة، بل باستفحالها. وهي، بالطبع، قرارات تعتمد الحل السهل الذي يتضرر منه السواد الأعظم من المواطنين (الفئات الفقيرة والطبقة المتوسطة)، بدل البحث عن حلول فيها إبداع يعكس النبوغ المغربي الكفيل بتجنيب بلادنا الانبطاحَ أمام إملاءات المؤسسات المالية الدولية وشروطها المجحفة. إننا نتحدث، هنا، عن الحكومة (وحزبها الأغلبي) التي تنبأ لها الشيخ «المغراوي» بالاستمرار إلى قيام الساعة. ويبدو أن قيام الساعة قد أزف. ألم يقل الرسول الأكرم: «إذا أسندت الأمور إلى غير أهلها فانتظر الساعة»؟ والساعة، هنا، كما سبق أن بينا ذلك في إحدى مقالاتنا السابقة، «نراها في الكارثة الاقتصادية والاجتماعية التي، لا قدر الله، قد تغرق فيها البلاد بسبب التدبير الذي، بدل أن يحتكم إلى المنطق وإلى العقل، يركب صهوة العاطفة التي لن تبني اقتصادا ولن تطعم جائعا ولن تعلم جاهلا، ولن، ولن، ولن...»(«الاتحاد الاشتراكي»، 5 أبريل 2013). فالحملة الانتخابية الدائمة التي انخرطت فيها الحكومة الحالية لن تجني من ورائها البلاد إلا مزيدا من المشاكل ومزيدا من التدهور على جميع الأصعدة. فهلا اتعضت الحكومة وأحزابها وتركت الحملة الانتخابية لأوانها؟