بداية، أستسمح الأخ «عبد الحميد جماهري» في اقتباس هذا العنوان، دون استئذان منه، من عموده الأسبوعي بجريدة «الاتحاد الاشتراكي» (السبت- الأحد 6/7 أبريل 2013)، الذي حفر فيه قبرا وكتب على شاهده: «هنا ترقد وعود بنكيران». وقد استوحيته من قصة ذلك الطفل الذي كان يزرع الفول حفنات حفنات ( بدل حبة تلو حبة كما تقتضيه شروط الزراعة وكما أوصاه أبوه بذلك)، لكي يتفرغ للعب، متجاهلا وصية والده الذي نبهه إلى أن عند سقوط المطر، ستنبت الحقيقة. ويمكن، اليوم، أن نقول للحكومة (بعد خطابها المتفائل زيادة عن اللزوم ، ذلك التفاؤل الذي لم يستند إلى معطيات دقيقة وأرقام حقيقة، اقتصاديا وماليا، بقدر ما اعتمد على تخمينات وتوقعات، هي أقرب للرغبات الذاتية والتطلعات الحالمة منه إلى تقديرات ومرتكزات علمية): ها قد نبتت الحقيقة؛ والبداية مع قرارها الأخير بحذف 15 مليار درهم من ميزانية الاستثمار التي لم يمض على التصويت عليها من طرف البرلمان إلا 3 أشهر؛ ونتيجة لذلك تنخفض هذه الميزانية من 58.9 مليار درهم إلى 43.3 مليار درهم ، أي بنسبة 25 في المائة. وسيكون لهذا القرار، بكل تأكيد، انعكاسات سلبية على النمو الاقتصادي وعلى سوق الشغل؛ ذلك أن الاستثمار العمومي يشكل المحرك الأساسي لهما. وقد وصفه، حسب الجريدة الإليكترونية «لكم»، خبراء اقتصاديون ب»أخطر قرار» اتخذته الحكومة حتى الآن. لقد سمعنا وقرأنا الكثير من الكلام عن وجود اقتصادنا الوطني في منأى عن دائرة الأزمة التي تعصف بالبلدان المجاورة، وبالأساس الأوربية التي يرتبط بها اقتصادنا ارتباطا وثيقا؛ كما أن الحكومة الحالية قد وعدتنا، من خلال ما سمي بالبرنامج الحكومي، بمعدل نمو اقتصادي لا يقل عن 5،5%، مع تخفيض نسبة البطالة بنقطتين لتستقر في حدود 8 % و تأطير 50 ألف عاطل من حاملي الشهادات سنوياً وتقليص عجز الميزان التجاري إلى 3% من الناتج الداخلي الخام، والتقليص من نسبة الأمية إلى 20% في أفق سنة 2016، والرفع من مساهمات الدولة في البحث العلمي ليصل الدعم إلى 1% من الناتج الوطني الخام، و إحداث منتوج سكني للطبقة المتوسطة في حدود 800 ألف درهم، وتقليص عدد وفيات النساء أثناء الولادة، وغير ذلك من التوقعات التي قيل لنا بأن الحكومة ستحققها من خلال برنامجها في محاربة الفساد والتملص الضريبي والعمل غير القانوني (في التعليم الخصوصي، مثلا، لتوفير مناصب الشغل لحملة الشهادات)، الخ؛ لكن الواقع يأبى إلا أن يكذب كل هذه التصريحات وهذه التوقعات. فقد أصبح الحديث، اليوم، عن الأزمة طاغيا، ليس فقط عند من يحسبون على المعارضة، بل وأيضا حتى من داخل الأغلبية الحكومية ومن بين الأقلام أو المنابر الإعلامية التي لم تأل جهدا في تلميع صورة الحكومة بالتطبيل ل»منجزاتها» وفي اتهام كل صوت، ارتفع محذرا من عواقب الأزمة، بأنه يمارس التيئيس والتحامل والتشويش...! لن نتحدث عن عدم دستورية قرار الحكومة بحذف 15 مليار من الاستثمارات، وبالتالي حذف آلاف مناصب الشغل، دون الرجوع إلى البرلمان؛ فذلك شأن أهل الاختصاص وممثلي الأمة. لكن لنقلها صراحة، فهي، منذ البداية، تشتغل بعقلية دستور 1996، وليس بناء على مقتضيات دستور فاتح يوليوز 2011. ولن نتحدث، أيضا، عما يمكن أن يمس بسيادتنا المالية، بسبب امكانية عودة سياسة التقويم الهيكلي التي ستجعل المؤسسات المالية الدولية تتحكم فينا من جديد، وذلك احتراما لأهل الاختصاص من محللين اقتصاديين وسياسيين وصحافيين مختصين. لكن، ذلك لن يمنعنا من التعبير عن مخاوفنا من السير بالبلاد نحو النفق المسدود والعودة بنا إلى مرحلة السكتة القلبية الشهيرة. صحيح أن ارتفاع الدين الداخلي والخارجي قد بدأ في عهد الحكومة السابقة؛ ويمكن القول بأنه بالخطوات التي أقدمت عليها الحكومة الحالية، تكون كل المجهودات التي بذلت في عهد حكومة «عبد الرحمان اليوسفي» وفي عهد حكومة «إدريس جطو»، وكذا كل المكتسبات الاقتصادية والمالية التي تحققت في عهدهما، قد تم الإجهاز عليها والعودة بنا إلى ما قبل 1998؛ ذلك أنه بقدر ما كان فتح الله والعلو، وزير الاقتصاد والمالية في الحكومتين السالفتي الذكر، قد أفلح في تقليص المديونية الداخلية والخارجية إلى أدنى مستوياتها، بفضل الحكامة الجيدة وبفضل ترشيد النفقات وكذا الاستثمار في الأوراش الكبرى، بقدر ما عمل «صلاح الدين مزوار»، وزير الاقتصاد والمالية السابق، وبعده «نزار بركة»، على العودة إلى أحضان المؤسسات الدولية بواسطة القروض الائتمانية. حاليا، ليس اللجوء إلى القرض فقط هو الذي يشكل مصدر القلق والخوف، بل وأيضا التقليص من ميزانية الاستثمار العمومي الذي يعني، من جهة، ارتهان مستقبل نمو اقتصادنا الوطني، ومن جهة أخرى، المزيد من البطالة والمزيد من المشاكل الاجتماعية. ومع ذلك، هناك من يصف منتقدي الوضع الحالي، سواء كانوا من الأغلبية أو المعارضة، ب»التيئيسيين الجدد» («عبد الله الدامون»، جريدة المساء»، السبت - الأحد، 6-7 أبريل 2013). أنا، شخصيا، لا تهمني الخانة التي سأصنف فيها، لكني أومن بأنه لن يفرح لما ينتظر بلادنا من وضع كارثي، اقتصاديا واجتماعيا، إلا من كان في قلبه مرض؛ وهذا المرض هو غياب الروح الوطنية؛ ولن ينبري للتغطية، سواء بالتبرير أو بالإنكار أو بالتقليل من أهمية الأزمة، على ما ينتظرنا من وضع قاتم، إلا من في قلبه مرض أيضا؛ وهذا المرض ليس سوى غياب روح المسؤولية. ويصب موقف كلا الطرفين في نفس الاتجاه: فغياب روح المسؤولية من غياب روح المواطنة، والعكس صحيح. وكلا الموقفين لا يخدم في شيء لا مصلحة البلد ولا مصلحة الناس الذين ندعي أننا ندافع عنهم، من أي موقع كنا: معارضين للحكومة أو مساندين لها. وأرى أن ما يصدر عن الأغلبية نفسها من أحكام ومن مواقف، يعفيني، كمناضل ينتمي إلى صف المعارضة، من كثير من الكلام سواء عن الحكومة أو الأحزاب المشكلة لها. لن أعيد ما قاله «شباط» وما قاله «العنصر» عن الحكومة الحالية وقراراتها، والتي هما جزء منها (انظر مقالنا: «حكومة إنما الإصلاح بالنيات»، «الاتحاد الاشتراكي»، 5 أبريل 2013، وكذا ما قالته الصحافة يومه الاثنين 8 أبريل الجاري)؛ لكني أجد مفيدا أن أشير إلى ما قاله برلماني من حزب الاستقلال عن برلماني آخر من حزب العدالة والتنمية. لقد دعا «عادل تشيكيطو»، النائب البرلماني عن حزب الاستقلال، «عبد العزيز أفتاتي» إلى «توظيف مجهوداته في الدفاع عن المظلومين وعن الطبقة الفقيرة، ومحاربة كل ما يؤدي إلى تحقير المواطنين، ومواجهة رفع الأسعار والريع السياسي والاقتصادي ومحاربة الفساد، بدل أن يتحول إلى موظف لدى الفريق الحكومي لحزب العدالة والتنمية»، مشيرا إلى أن شحذ السكاكين والسيوف للرد على منتقدي الحكومة «عمل غير ديمقراطي»، معتبرا أن الأحزاب السياسية المنتقدة للحكومة، سواء من داخل الأغلبية أو في المعارضة، إنما تقوم بدورها («هسبريس»، السبت 6 أبري 2013). وعلى ذكر شحذ السكاكين والسيوف، فليس «أفتاتي» وحده من يقوم بهذه المهمة؛ فهناك «مليشيات» افتراضية تقبع وراء الحواسيب وتتابع كل ما يكتب في المواقع الإليكترونية، وظيفتها الهجوم والتهجم على كل من تجرأ على انتقاد الحكومة أو الحزب الأغلبي. ويسجل على هذه «الميلشيات» أنها لا تحسن إلا لغة القذف والسب والشتم وتستعمل أسلوبا أقل ما يقال عنه أنه متخلف ودنيء ومنحط إلى أدنى درجة، مما يعكس ليس فقط تدني المستوى الفكري لهؤلاء، بل وأيضا المستوى الأخلاقي. وتذكرنا هذه «المليشيات»، كل مرة، كما يفعل ذلك كل مسؤولي حزب العدالة والتنمية، باستعلاء قل نظيره، باختيار الشعب لهم، وكأن الشعب، كل الشعب قد هب، عن بكرة أبيه، لردم صناديق الاقتراع بأوراق التصويت الكثيف لجعل نور المصباح يصل إلى كل بيت وإلى كل ركن من أركان المعمور؛ أو كأنما ذلك «الشعب» المسكين الذي منحهم أصواته، إنما فعل ذلك ليتباهوا به أمام «العالم» وليس ليعملوا على حل مشاكله وعلى تحسين وضعيته. أليس هذا الشعب الذي يتحدثون عنه (ولا أعتقد أنهم يقصدون غير الفقراء) هو أول من اكتوى بنيران قراراتهم المنبطحة أمام توجيهات البنك الدولي, أليس في هذا تنكر واضح للبرنامج (والالتزام) المتعاقد عليه مع الناخبين؟؟... لقد «سقط المطر ونبتت الحقيقة»؛ وهذه الحقيقة لن تخفيها لا الشعارات ولا المزايدات: فالحقيقة المرة هي أننا أمام حكومة عاجزة عن الوفاء بوعودها، وعاجزة عن مواجهة المشاكل بحلول ناجعة، وعاجزة عن حماية القرار السيادي للبلاد، وعاجزة عن مواجهة التماسيح والعفاريت التي تخيف رئيس الحكومة، فيرفع الراية البيضاء ويستسلم لها، بدل أن يتشبث بالاختصاصات والصلاحيات الواسعة التي منحها إياه الدستور الجديد، فيتخذ القرارات الشجاعة فعلا، بدل تلك التي لا يتضرر منها إلا الفقراء وذوي الدخل المحدود...الذين يعتبرهم «على قد يديه»! فرغم أننا مقتنعون، ومن خلال ما نراه في بلدان الحراك العربي، بأن كل الحكومات التي أتى بها هذا الحراك، والتي لم يكن لأحزابها لا شرف إطلاق شراراته ولا شرف المساهمة فيه، بل اكتفت بقطف ثماره، هي حكومات عاجزة عن التصدي للمشاكل الحقيقية. وحكومتنا الموقرة لا تخرج عن هذا الإطار، وإن كنا لم نفقد الأمل نهائيا في إمكانية الصحوة وتلمس الطريق الأسلم. وعلى كل، فرغبتنا في أن تنجح أول حكومة خرجت من صناديق الاقتراع (التناوب الثاني)، عبرنا عليها غير ما مرة؛ وخوفنا من فشل التجربة، وفي أي واجهة من الواجهات كنا، لا يجب أن نجعل منه ذريعة لتبرير قرارات لا تخدم لا الديمقراطية ولا العمل السياسي ولا مصلحة البلاد ولا مصلحة العباد ولا مستقبل الأجيال القادمة... كما لا يجب أن نجعل، من التقاء مواقفنا وأفكارنا مع جهات معينة لا نتقاسم معها نفس القناعات ولا نفس التوجهات، مبررا للدفاع عن الفريق الحكومي الذي يعطي الدليل تلو الآخر عن عدم استيعابه للإصلاحات السياسية التي دشنها المغرب بدستور 2011.