استطاع عبد الرزاق السنوسي، باعتباره قيما على التراث الإعلامي ل«الاتحاد الاشتراكي»، أن يجمع زبد الأغنية المغربية ويجعل منها و لها ذاكرة بين دفتي كتابه «ذاكرة الأغنية المغربية» في طبعته الأولى 2013 ، وهو المؤلف الذي يؤرخ لمشاهير الكلمة واللحن والغناء بمختلف أطيافه وألوانه بعيدا عن الانتماء الجغرافي أو الانتقائية العرقية، فجاء الكتاب كوكتيلا متنوعا يسافر بالقارئ العادي إلى السنوات التي خلت ليقدم صورا إبداعية تتميز بالجمالية السردية ودقة المعلومة الخبرية دون أن يسقط في الدعاية المجانية من باب ذكر الشيء بالشيء. استطاع السنوسي أن يبرز من خلال هذا العمل الخدمات التي قدمها الجيل الأول من رواد الأغنية الشعبية والعصرية بمختلف لغاتها ولهجاتها (دارجة، عروبية، أمازيغية، صحراوية) والتي اعتبرها، كما يعتبرها الجميع، جسرا متين القواعد لحاضر الأغنية المغربية ومستقبلها لما تعتمده من مقومات تحترم جميع الإيقاعات والضوابط المعرفية والفنية، وهو في ذلك يحيي تراثا يزخر بأعلامه الذين قضوا نحبهم تاركين مشعلا لا يخبو سناه في سماء الإبداع وطريق الرواد الجدد والمتجددين،رغم صعوبة تقفي آثار سابقيهم كما يستدرك المؤلف. لقد كان سفر الكاتب/المؤلف عبر الأقاليم مؤشرا على شغفه الكبير بالإحاطة النوعية والكمية بما تغنى به رواد القبائل، وهو في ذلك يؤسس لنوع من الغسيل للذاكرة الفنية المغربية، كما جاء على لسان الكاتب العام الأسبق للنقابة الوطنية للموسيقيين ومبدعي الأغنية المغربية الأستاذ صبري أحمد في معرض حديثه عن الفن وعلاقته بالهوية الوطنية. إن صرخة السنوسي معنى- الفنية طبعا- لاشك أنها ستكون مدوية لتعلن استفاقة ضرورية في زمن تعرف فيه الأغنية المغربية تقهقرا كبيرا وانتكاسة واضحة المعالم وغيابا بدون مبرر للكلام «لمرصع» واللحن الأخاذ والغناء الممتع الساحر.زمن يطبع بتهافت على التغريد أمام الميكروفون بعيدا عن استحضار جمالية اللحظة ليعبث برسالة الفن ويخدش حياء المستمع. وعلى غرار الطب النفسي لم يفت المؤلف أن يلمع إلى أن الموسيقى شفاء للمرضى وهو ما عهد به إلى الفنانين مند العصر المريني(يوسف بن يعقوب 1286) حيث كان يكلف أصحاب السماع والمديح والملحون بمعالجة الحمقى من الوافدين على المشفى. وهو ما انتقلت عدواه إلى مدينة فاس بمستشفى سيدي فرج ((1944، حيث كان رواد طرب الآلة يعزفون أمام المرضى حتى يناموا وتلك علامة شفائهم.والمعروف أيضا أن الموسيقى كلاما ولحنا وغناء وسيلة انشراح للصدر وجلاء للهم واستدعاء للحركة والنشاط وهو الدور الرئيس الذي بات مغيبا في الوقت الراهن، بل وعلى العكس من ذلك أصبحت الأغنية المغربية اليوم لا تعبر عن هموم الناس ولا تترجم واقعهم المعيش، وبالتالي استشعرها الكثير بأنها بعيدة عنهم ولا تناسبهم لا في الزمان ولا في المكان وكأنها تنبث في تربة غير تربتهم،وبدل أن تتمر سنفونيات خالدة كالتي سبقت لعبد القادر الراشدي مثلا، ضلت خارج السرب تبحث عن تألق مادي صرف وهو ما أضعفها وأذهب بريقها وجمالها. في هذا الكتاب الجميل تجد فسيفساء لأصناف وأنماط الأغنية المغربية مؤرخة ومذيلة بمرجعيات تحيلك على منابع هذا التراث الكبير الموغل في التاريخ: (غرناطي، أندلسي، فولكلور، حساني، هيت، حمادشة، جيلالة، حضرة، دقة مراكشية، غنوج...)وكلها متفرقة على مدى جغرافيا المغرب الكبير. وإذا هذه الألوان الموسيقية والغنائية ظهرت بشكل مبكر، فإن الأجواق لم تعرف طريقها إلى الساحة الفنية المغربية إلا مع بداية الثلاثينيات من القرن20 حيث تأسس الجوق الملكي الذي ستوكل رئاسته للفنان أحمد البيضاوي سنة1947، ليتبعه جوق 55 وجوق التقدم برئاسة الأستاذ عبد القادر الراشدي، لتتسع الدائرة بعد ذلك وتشمل العديد من الأسماء الوازنة في عالم الفن والطرب.لقد تمكن السنوسي أن يجمع معلوماته حول 190 فنانا معتمدا على أرشيف من المراجع وشهادات شفوية لبعض عائلات هؤلاء الرواد مما جعل المادة المعرفية التي اعتمد عليها المؤلف تأتي وفية للموضوع المستهدف، وهو التعريف بمكونات الموسوعة الفنية المغربية ،من حيث التنوع البيئي والقبلي. لقد قدم السنوسي، كرجل إعلام، هذه المادة الدسمة كقاموس للمبدعين المغاربة الذين طالهم النسيان عندما غادرونا إلى دار البقاء لتكون حافزا على الرجوع بالأغنية المغربية خطوة إلى الوراء بغية تحقيق خطوات إلى الأمام. إنه صاحب (مسارات مائة شخصية فاعلة في تاريخ المغرب من القرن 19 إلى القرن21) فكيف لا يزكيها بهذه الأيقونة الجديدة في عالم الفن اعتبارا أن الفن يخدم السياسة وان السياسة لا تضاد الفن في شيء، بل تقويه وتعززه. في كتاب ذاكرة الأغنية المغربية يحضر أحمد الطيب لعلج، إبراهيم العلمي،إسماعيل احمد، أكومي، بوشعيب البيضاوي، الهارمشي التهامي، حمو اليزيد،رجاء بلمليح،زهرة الفاسية،صالح الشرقي،الطاهر سباطة،عبد النبي الجيراري،عبد الصادق شقارة،علي الحداني،عبد السلام عامر،عبد الرحمان باكو،فاطنة بنت الحسين،العربي باطما،لمراني الشريف،التولالي،فويتح،الدمسيري،م بغداد،م رويشة،السوسدي،امبارك اولعربي،قيبو... وقد كان هذا ترتيبا أبجديا ليس إلا، ولن ينتقص من قيمة أي مبدع من هؤلاء.