لعل ما يُعرف في الفلسفة السياسية ب»الإرادة العامة»، ليس إلا ذلك الصوت المتفق عليه عبر التعاقد، بين أفراد يريدون لأنفسهم مجتمعا سياسيا منظما تتحقق فيه شروط الأمن والحرية والتطور والرقي في كل الاتجاهات. وقد عزا عدد غير قليل من المفكرين أحد أسباب النجاح في خلق مثل هذا الاجتماع الانساني إلى مسألة التربية باعتبارها المَدْمَك الأساس الذي يضمن أدنى الشروط لاستمرار المجتمع في أفراده على نحوٍ سليم؛ من هنا يبدو كل تفكير في الأسرة والطفولة مشروعا، لأن تربية ممكنة تصبح غير ممكنة دونهما. أن يُفتح باب الحوار وتجاذب أطراف الرأي من داخل مكونات الدولة المغربية حول مجلس استشاري للأسرة والطفولة، يضفي شرعية على فكرة «الارادة العامة «، ويؤسس لتعاقد حول إحدى أكثر المسائل مصيريةً بالنسبة إلى المجتمع المغربي؛ تماما كما يحمل أكثر من دلالة ويستحق أكثر من وقفة ويفتح الباب أمام تساؤلات عدة، منها: ما هي أسباب ودواعي إنشاء مثل هذا المجلس اليوم في المغرب؟ ما طبيعة المهام التي يمكن أن تُوكل إليه؟ وأيّ تصور لنظام اشتغاله؟ أية آفاق يعد بها مستقبله وما هي الحدود التي تحيط بحاضره؟ *الأسباب والدواعي لا نجانب الصواب إن قلنا أن غيرما مبرر وضرورة تدعو إلى التفكير في انشاء مجلس يهتم بشؤون الأسرة والطفولة في المغرب. وهو أمر لا يعني على كل حال أن الاهتمام بهذين المكونين المجتمعيين غائب أو مغيّب في بلادنا؛ لكن قراءة تأملية للتحول الذي يعرفه مجتمعنا يفرض وضع مثل هذه الملفات للنقاش وإبداء الرأي. ولعل من جملة الأسباب التي تدعو إلى تأسيس مجلس استشاري وتجعله حاجة ملحة على المجتمع المدني والدولة المغربية، خمسة على الأقل: أولها، غياب مشروع مجتمعي واضح المعالم بشأن الأسرة والطفولة، باعتبارهما حجر الزاوية في قيام مجتمع انساني على أسس صلبة ومتينة، بعيدا عن الأجندات السياسية التي لا تخلو من قصور وعيوب، من بينها: أن قضية الأسرة والطفولة ليست مجالا للتلاعبات الانتخابية، وإنما من القضايا المصيرية لأي مجتمع رام الاستمرار ضمن هذا السيل الجارف الذي يعم كل المجتمعات في عصر العولمة والأنترنيت؛ ومنها أن العبور والزوال واللااستمرار الذي يطبع هذه المؤسسات السياسية على مستوى ممارستها للسلطة، وعامل انقطاع خيط الاستمرار بين السابق واللاحق يُعرِّض كل المخططات الاستراتيجية للاندثار بفعل تغيّر النخب التي قد تتناوب على تمثيلية المجتمع المغربي؛ ومنه فمثل هذا المجلس يضمن الجواب عن أسئلة المغاربة بصدد مسألة الأسرة والطفولة، وبالتالي المساهمة في بلورة جزء من المشروع المجتمعي الذي يتغيا ويتعين على الجميع الاتفاق حوله. وثاني هذه الأسباب الذي يرتبط بالأول، هو حضور المؤسسة الملكية الرمزي كيد ضاغطة من أجل تفعيل وتحقيق أي مشروع مجتمعي على أرض الواقع؛ ومن ثم فمساهمتها غير المباشرة عبر الدستور الجديد التوافقي بينها وبين أغلب ممثلي المجتمع المدني، في إطلاق حوار وطني حول الأسرة والطفولة عبر الوزارة الوصية نحو تطبيق مقتضيات الفصلين 32 و169 من الدستور يحمل أكثر من دلالة، ويستمد قوته من دستوريته. وهو أمر يضمن عدم التلاعب مع مثل هذه الملفات ذات الأهمية الجوهرية بالنسبة إلى المغاربة. وثالثها، أن الحاجة إلى محو التناقض الموجود بين الدولة والمجتمع المغربيين تفرض نفسها، لأن بناء مجتمع متكامل يبدأ من التعاقد والاتفاق حول الطريق والطريقة والأسس التي ينبغي أن يقوم عليها هذا المجتمع؛ وبالتالي ففتح نقاش عمومي حول مثل هذا المسائل سيمنح مكونات الدولة أفرادا ومجتمعا مدنيا ومؤسسات رسمية الثقة في أن تضامنها هو صانع مصير هذه الأمة عبر التعاقد حول مستقبلها. ورابع هذه الدواعي الذي لا ينفصل عن السابق أن صفة المجلس الاستشارية تسمح له بأن يكون الجسر الذي يعبّد الطريق، وعبره تنمحي المسافة بين مختلِف مشارب الفاعلين في مجال الاسرة والطفولة. وخامسها، الحاجة الفعلية إلى قوة اقتراحية ترسم معالم خارطة الطريق التي يجب أن تنهجها البلاد في مضمار التربية والأسرة والطفولة. تفيد هذه الدواعي والأسباب ضرورة انشاء مثل هذا الضرب من المجالس الاستشارية ولكنها تفرض في مثل هذا الحوار المفتوح سؤالا مشروعا: ماذا نريد نحن كمغاربة من مجلس استشاري للأسرة والطفولة؟ * المهام وفلسفة الاشتغال لعل بوادر المهام الملقاة على عاتق مثل هذا المجلس تجد مقدماتها في الأسباب التي تبرر وتشرعن في الوقت نفسه لوجوده، على نحو تستدعي معه التفكير في طرق اشتغاله نحو تصور لإستراتيجيات ومهام المجلس وما تقرره من ممكنات ليس أقلها: * السهر على متابعة القضايا المتعلقة بالأسرة والطفولة وضمان تحقق التوصيات وتفعيل المشاريع واستمراريتها. * اعداد تقارير حول وضع الأسرة والطفولة في المغرب انطلاقا من دراسات علمية قصد تعيين مكامن الخلل والضعف، وتمتين مكامن القوة. * مد جسور التواصل بين مختلف الفاعلين في هذا المجال سواء كانوا مؤسسات خاصة أو رسمية. * اشاعة ثقافة سياسية وتضامنية لرأب الصدع الموجود في وعي المغاربة بين الدولة والمجتمع. * النهوض بمسألة التربية التي تشكل أساس كل مجتمع يراد له أن يكون متماسكا انطلاقا من التنسيق بين الفعاليات المسؤولة على هذا القطاع والوزارات المهتمة بموضوعات التربية والأسرة والثقافة... الخ؛ * الحدود والآفاق. إن ما يرسم حدود المجلس ويفتح آفاقه في الوقت نفسه هو صفته الاستشارية. ذلك أن هذا الطابع هو ما يمنحه مرونة الاشتغال ونسج خيوط التواصل بين مختلف المهتمين بالأسرة والطفولة؛ ولكنه في الوقت نفسه ما يحمل أفق تحويله إلى مؤسسة رسمية تضم نسبة من تمثيلية المجتمع المدني إلى جانب من يمثل المجال الرسمي أو العام. ليس من شك أن مسألة التربية هي الأساس الذي قامت عليه المجتمعات التي صنعت حضارتها؛ والتفكير في مجلس للأسرة والطفولة قد يدشن على الأقل مشروع مجتمع يحاول أن يلملم شتاته في زمن تعصف فيه أزْمات الهوية والجذور وتندثر فيه الأوصال والأواصر والوشائج وتنحلُّ فيه لحمة المجتمعات. ولعل لمثل هذا النقاش حول مجلس استشاري للأسرة والطفولة دورا تأسيسيا في بناء مجتمع متماسك. باحث في الفلسفة والشأن العام*