تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025    بيت الشعر في المغرب والمقهى الثقافي لسينما النهضة    الزمامرة والوداد للانفراد بالمركز الثاني و"الكوديم" أمام الفتح للابتعاد عن المراكز الأخيرة    بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول    اعتقال بزناز قام بدهس أربعة أشخاص    النقابة المستقلة للأطباء تمدد الاحتجاج        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية        بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    الإيليزي يستعد لإعلان حكومة بايرو    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي        محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    حقي بالقانون.. شنو هي جريمة الاتجار بالبشر؟ أنواعها والعقوبات المترتبة عنها؟ (فيديو)    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    من يحمي ادريس الراضي من محاكمته؟    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإخوان المسلمون في الحكم: تقاطع قدسيّة السّماء بآلام الأرض

من أكبر الإشكاليّات الفلسفيّة التي يعانيها العقل الدّيني هو أنّه لا يدرك تحقيب التّأريخ، فهو يضع التّأريخ كلّه في سلّة واحدة، أو ربّما يقسّمه إلى فترتين فقط، - الأولى وهي عصر الرّسالة، العصر الذّهبي، عصر التّأريخ البعيد، والثّانية عصر الانحراف، الذي لم يستطع أحد أن يحدّد بدايته التّأريخيّة لإشكاليّات تتعلّق بماهيّة الانحراف ذاته من النّاحية المعرفيّة والدينيّة
في السّنوات العشرين الأخيرة، شكّلت فرنسا أرضا خصبة في تجربة الإسلام السّياسي لجماعة «الإخوان المسلمين»، وذلك لوجودهم في دولة ذات بناء مدني ومؤسّساتي، أعطتهم القوانين المدنيّة والمبادئ الدّستوريّة الكبرى كالحريّة والمساواة والعدالة مساحة كبيرة للتّحرّك في إطار بناء حركيّ ومؤسّساتيّ كبير، وكان UOIFبحسب الباحثة الفرنسيّة Fiammetta Venner يشكّل القاعدة الخلفيّة لكلّ الأهداف السّياسيّة لجماعة الإخوان في البلدان العربيّة والإسلاميّة.
بعد أحداث ما أطلق عليه الفرنسيون «الرّبيع العربيّ»، وما آل إليه هذا الرّبيع من ربيع للجماعات الإسلاميّة، عاد جزء كبير منهم، وشكّلوا حراكا سياسيّا ودينيّا، ساعدتهم التّجربة الطّويلة التي مرّوا بها في أوروبا، ممّا مكّنهم ? إضافة إلى الظّروف الموضوعيّة التي كان يمرّ بها العقل السّياسي العربيّ- من اكتساح الانتخابات البرلمانيّة، وبذلك أعلن إخوان حسن البنّا عن وصولهم للسّلطة السّياسيّة في العالم العربيّ، وتبعهم بعد ذلك انتصار الإخوان في مصر وليبيا نوعا ما. أصبح الإخوان بهذه الانتصارات المتتالية يشكّلون عمقا فكريّا واستراتيجيّا وسياسيّا ودينيّا في الوطن العربي، يمتدّ نفوذه من بلاد المغرب الأقصى، مرورا بتركيا، وانتهاء بدول الخليج العربيّ، التي كانت (الإمارات بشكل خاصّ) المموّل المالي ل UOIF في فرنسا، كما أنّها كانت المموّل الأكبر إلى جانب قطر والمملكة العربيّة السّعوديّة لحركة الإخوان في الخليج العربيّ ابتداء من عام 1954، درءا لمشروع عبد النّاصر من جهة في محاربة الأنظمة الملكيّة في العالم العربي، ومناكفة للحركات اليساريّة والقوميّة المتأثّرة بالفكر الثّوري الشّيوعيّ.
من المهمّ أن ندرك أنّ للسّياقات السّياسيّة والظّروف الاجتماعيّة والأوضاع الاقتصاديّة التي مرّ بها الوطن العربيّ في نهايات القرن التّاسع عشر وبدايات القرن العشرين دورا كبيرا في ولادة هذا النّوع من الاسلامات الحركيّة المنظّمة؛ بل نستطيع القول إنّ ولادة هذا النّوع من الحركات الدّينيّة كان ضرورة حتميّة لمآلات النتائج التي خلفها الاستعمار على كافة الصعد السياسية والحضارية، خاصة مع انتشار الحركات القوميّة واليساريّة في تلك المرحلة. فالإسلام الحركيّ لم يكن وليد مؤسّسه حسن البنّا، وإنّما تكون عبر تراكمات من النّضال السّياسي الدّيني الذي ابتدأ مع المدرسة الإصلاحيّة في العالم العربيّ في عصر النّهضة.
لقد ظلّت الجماعات الإسلاميّة تروّج لشعار العودة إلى التّأريخ البعيد أو الدّين الخالص (النّص، التّأريخ، السّلف الصّالح)، وبدأ هذا الشّعور يتنامى في الضّمير الجمعيّ بشكل عام، فالعودة إلى الدّين الخالص يمثّل الطّريق الوحيد للانتصار على المستعمر خلال ما يعرف ب حروب التّحرير الوطنيّة، ولهذا أصبح شعار العودة إلى الدّين رائجا في البلدان التي انتشر فيها فكر الجماعات الإسلاميّة حتّى بعد خروج المستعمر؛ وذلك لوجود شعور عميق بالإحباط في العقل الجمعي نتيجة عدم قدرة الدّولة على تجاوز الإخفاقات المتوالية التي خلّفها الاستعمار، ومن هنا بدأت مثل هذه الشّعارات تكتسب زخما اجتماعيّا كبيرا، خاصّة بين الطّبقات المحرومة والمظلومة، التي كانت مهيّأة تماما لتقبل هذا النّوع من الخطابات التّعبويّة، وظلّت تلك الشّعارات لها حضورها الفاعل في القرنين الماضيين، فالأنظمة العربيّة التي حكمت الوطن العربي بعد خروج المستعمر الأجنبي كانت - بحسب الجماعات الإسلاميّة- تمثّل امتدادا لثقافة المستعمر التي يجب أن تقاوم بالعودة إلى روح الدّين.
لكن الذي حدث أنّ هذه الحركات بدأت تنفعل وتتمدّد أطروحاتها داخل المجتمعات الإسلاميّة بعد خروج الاستعمار، ورأت في الأنظمة الحاكمة امتدادا فكريّا ودينيّا أحيانا لعقل الاستعمار الوحشيّ، ممّا جعلها ? بسبب مصادمتها للأنظمة السّياسيّة ومزاحمتها للحركات اليساريّة- تعيد النّظر أوّلا في نظريّاتها الدّينيّة المتعلّقة بالأنظمة السّياسيّة، وفي نظريّاتها المتعلّقة بشكل الدّولة والمجتمع ثانيا. لم يكن التّحوّل من الإسلام التّقليديّ ذي الخطاب الوعظي الدّعوي الذي تمتدّ جذوره إلى رشيد رضا وربّما محمّد عبده إلى الإسلام السّياسي ذي الخطاب الرّاديكالي الذي أسّسه سيد قطب عفويّا، وإنّما حتّمته ظروف المرحلة التي مرّ بها زعيم حركة الإخوان حسن البنّا، غير أنّ هذا التّحوّل لم يكن واضحا في أبعاده الدّينيّة العميقة عند حسن البنّا كما ظهر بعد ذلك عند تلميذه سيّد قطب، الذي جسّد صورة الدّم التي رآها في معتقلات عبد النّاصر في قوالب فكريّة ولاهوتيّة راديكاليّة في كتابه « معالم في الطّريق»، الذي ألّفه في السّجن؛ حيث قضى عشر سنوات داخل المعتقل النّاصري، ثم أطلق سراحه عام 1962 لفترة قصيرة، وأعيد مرّة أخرى عام 1964 إلى أن أعدم في 1966.
«معالم في الطّريق» لا يختلف في بعده الأيديولوجي عن كتاب المودودي «الحكومة الإسلاميّة» في تأسيسهما لمقولات ثلاثة : «الحاكمية» و»الجاهليّة» وتحقيق ذلك عن طريق «الجهاد». لقد قامت هذه المقولات الثّلاثة بتوظيف النصّ المقدّس في الحقل السياسيّ كطرح أيديولوجيّ، بل نستطيع القول بأنّها قامت بإسقاط السّياق السّياسي في النّص، وقامت باستدعاء المقولات اللاّهوتيّة والمعاني التّأريخيّة لتفسير مفهوم الحاكميّة، ومن ثمّ توظيفه في واقع مختلف تماما من حيث الإشكال الحضاري الذي تعاني منه الأمّة الإسلاميّة. إنّ هذا الجهاز المفاهيمي يقوم على أطروحة الإيمان بأنّ كلّ ما يخالف التصوّر الإسلاميّ (الإسلام الحركيّ/ دار الإيمان) ليس له مشروعيّة صحيحة من الدّين الخالص ولو كانوا مسلمين (الأخر/ دار الكفر)، فالحاكميّة لله وحده، و»الأخر» يعيش موازين الجاهليّة الأولى (جاهليّة ما قبل الإسلام)، الذي يجب أن يدافع بالجهاد في سبيل الله، كما فعل رسول الله، لتعلو كلمة الله في الأرض. إنّ هذا الطّرح الأيديولوجي ولد في سياق صداميّ عنيف، كان العقل العسكريّ (الأنظمة العربيّة) الذي لم يكن قادرا على احتواء هذا النّوع من الإسلامات الحديثة في بيئة كانت تعجّ بالحراك السّياسيّ والفكريّ، كما أنّ هذا الطّرح الإسلاموي أو تلك القوالب الفكريّة التي صاغها ثلاثي الإسلام الحركي (المودودي، البنا، قطب) لم تكن بذاتها قادرة على الصّمود لفترات طويلة كما سنرى، وإنّما هي حالة من الغليان العاطفي الذي تقاطعت فيه قدسيّة السّماء بآلام الأرض، وامتزج فيه النّص بالتّأريخ، والجنّة بالواقع المرير، ولذلك لم تكن تلك الأطروحة قادرة على الوعي بتأريخيّة المفاهيم كإيمانها بصيرورة التّأريخ البعيد على كلّ زمان.
استطاعت مقولات اللاّهوت-السّياسي، التي ولدت في معتقلات عبد النّاصر، أن تخلق بعد سنوات قليلة مناخا جيّدا قابلا أن تتكاثر فيه الحركات الجهاديّة والأصوليّة الرّاديكاليّة، التي وظّفت نصوص الجهاد المتناثرة في (القرآن، السّنّة، أقوال السّلف، أراء حسن البنّا والمودودي وسيد قطب) في بناء الإسلام الرّاديكالي الدّموي، وخرجت الجماعة الإسلاميّة المعروفة، وجماعات الهجرة والتّكفير وغيرها من الجماعات الأخرى لتعلن الحرب على كلّ من يخالف أطروحاتها في الدّين والسّياسة، وقد كانت لا ترى في الأخر سوى الكفر والشّرك والعدوّ الباغي. إنّ هذا النّوع من الإسلامات ليس عنيفا في ذاته، وإنّما عنفه تولّد من اختلاط المعرفة (النّصوص الجهاديّة) بالسّياق السّياسي المضطرب، فهو عقل لا يقوى على الخروج من تكوينات الرّواسب المعرفيّة الاجتراريّة التي يؤمن بها، فهو يفكّر من خلال العقل (المعرفة التي اكتسبها) الذي يقتاته يوميّا، وبالتّالي فقد كان من الصّعوبة أن يفهم الإسلامات التأريخيّة، أو تأريخيّة المفاهيم، أو نسبيّة التّصوّرات والأفكار، أو يدرك ما هو خارج نطاق تفكيره ومعرفته، وكلّ ما يقوم به هو تنصيص التّأريخ لتصبح قوالب دينيّة مقدّسة.
إنّ من أكبر الإشكاليّات الفلسفيّة التي يعانيها العقل الدّيني هو أنّه لا يدرك تحقيب التّأريخ، فهو يضع التّأريخ كلّه في سلّة واحدة، أو ربّما يقسّمه إلى فترتين فقط، ----- الأولى وهي عصر الرّسالة، العصر الذّهبي، عصر التّأريخ البعيد، والثّانية عصر الانحراف، الذي لم يستطع أحد أن يحدّد بدايته التّأريخيّة لإشكاليّات تتعلّق بماهيّة الانحراف ذاته من النّاحية المعرفيّة والدينيّة. كما أنّ العقل الدّينيّ بشكل عام لا يفهم تنسيب المعرفة، فهو يضع المعرفة في إطار المطلق، الذي لا يخضع إلاّ للنصّ فقط، ومن هنا ندرك عدم قدرة العقل الدّيني على استيعاب حقول المعرفة الأخرى.
إنّ المعرفة التي يقتات منها العقل الرّاديكالي أو الإسلامي بشكل عام لها دور كبير في تشكل الأطروحات الجهاديّة الدّمويّة في المجتمعات الإسلاميّة، فهو غالبا ما يربط بين الجنّة وشرع الله الخالص ? حسب رؤيته لهذا الدّين- بالفشل الذي تعاني منه الأنظمة السّياسيّة في بناء المجتمعات الأخلاقيّة التي يجب أن تسودها العدالة الاجتماعيّة، ويرى أنّ تلك الأنظمة تقوم بتكريس خطابات غربيّة تتربّص بالمسلمين الشر، كما أنّها تقوم بتكريس ثقافات دخيلة على تأريخ الذّات وثقافته. ومن هنا تصبح مثل هذه الشّعارات تعبويّة وشعبويّة في آن واحد، تستطيع تجييش الضّمير الاجتماعي عاطفيّا في سبيل رؤاها السّياسيّة.
مازلت أؤمن شخصيّا بأنّ جماعات الإسلام الحركيّ لا تمارس شعاراتها في المقدس نفاقا، كما أنّها لا تمارس معتقداتها في اللاّهوت- السّياسي من أجل الوصول إلى السّلطة السّياسيّة فقط، وإنّما هناك اعتقاد بأنّ العودة إلى (الدّين الخالص) فيه خلاص الأمّة من مآزقها الحضاريّة، وأنّ لحظة التّحوّل من الخطابات الدّعويّة إلى الشّعارات السّياسيّة تحدث أحيانا بصورة اعتباطيّة، خارجة عن الإطار التّنظيميّ للإسلام الحركيّ. فالإشكال هو إشكال فلسفيّ يتعلّق بالمنهج وطرائق التّفكير، وإشكال تربوي يتعلّق بالبيئة الدينيّة والثّقافة التّقليديّة التي تعيش فيها المجتمعات البدائيّة، تجعل من العقل الإسلاموي لا يعي دوائر المعرفة الأخرى، فيمارس خطابا واحدا فقط، لأنّه لا يفهم سوى النّصّ والتّأريخ للوصول إلى ما يرضي الله طمعا في الجنّة وخوفا من النّار. هذا يقودنا إلى نتيجة أخرى وهي أنّ خلوصيّة المنهج وطرائق التفكير النّظري لا يعني نقاء آلياّت التّطبيق وصفاؤها لدى الجماعات الإسلاميّة، التي تعتمدها في الوصول إلى أهدافها، فالدّائرة التي تتحرّك فيها هذه الآليّات غالبا ما تكون مساحة الإباحة فيها حاضرة بقوّة، ويكون فقه الواقع مطروحا بشكل عميق!!، ولهذا غالبا ما نرى تناقضات الخطاب والممارسات التّطبيقيّة، لكونهما تعتمدان على مناهج مختلفة في طرق التّفكير، كما أنّ دائرة تفكير الخطاب تختلف عن دائرة تفكير الممارسات والآليّات. إنّ جميع الإسلامات السّياسيّة تقع في مثل هذه التّناقضات فيما يتعلّق بنظريّاتها في الدّين والسّياسة، فهي تمارس الدّين الاجتماعي المتعلّق بالعبادات والطّقوس بصورة منضبطة إلى حدّ ما، لكنّها في ذات الوقت تسمح لذاتها بتجاوز مساحات كبيرة من القواعد الدّينيّة في الحقل السّياسيّ، أو في الوسائل التي توصلها إلى غاياتها.
هذا الاختلاف في طرائق التّفكير بين المنهج النّظري الإيماني والمنهج الواقعي السّياسي يتجسّد بصورة واضحة في دوائر الخطاب، ففي دائرة الإسلام الاجتماعي يكون المنهج على طريقة السّلف الصّالح، فهو يتّجه رأسا نحو أسفل المثلّث، تفتيشا في زاويته الضّيّقة عن أهمّ النّظريّات الفقهيّة المنغلقة لإشباع عاطفة العقل الجمعي بالتّأريخ البعيد (عصر الرّسالة)، وهذه الدّائرة ليست ضيّقة في نظريّاتها الفقهيّة فقط، وإنّما في كونها ممّا لا تشتغل به دوائر المعرفة الأخرى في العقل السّياسي العربي أو حتّى العقل المعرفي العربي بشكل عام. أمّا في دائرة التّفكير السّياسي وهي الدّائرة الأخرى التي يشتغل بها الخطاب الإسلاموي فإنّها تكون أكثر انفتاحا، فتتّجه نحو زاويتي المثلّث العلويتين إذا افترضنا أنّ المثلّث مقلوبا، نظرا لدينامكيّتها وحركيّتها أوّلا، ولما تشكله بقيّة أقطاب المعرفة الأخرى (التيّارات التنويريّة أو المعرفيّة بشكل عام) من دور مزاحم في ممارساتها الفكريّة. من هنا تصبح كافّة تطبيقات الإسلام الحركي في دائرتي السّياسي والاجتماعي( 6) مبنيّة وفق هذا التّصوّر، والمجتمعات الدّينيّة ليس لها طريق إلاّ أن تؤمن بمثل هذه التّناقضات إرضاء لله تعالى أوّلا وفي سبيل التّمكين (السّلطة السّياسيّة) في الأرض ثانيا!!!. ومن هنا يمكننا أن نفهم سرّ انتصار حركات الإسلام السّياسي، فالمجتمعات البدائيّة كالمجتمعات العربيّة يشكّل لها الميتا والتّأريخ نقطة ارتكاز كبيرة للتّعبير عن فشلها في التّجربة السّياسيّة والاقتصاديّة، فهي تسعى بكلّ قوّة نصوصيّة لجعل الأسطورة تعيش حيّة في مجتمعاتها، وتدافع عن الأسطورة بشكل مستميت من أجل تحريك المجتمعات الدّينيّة بقوّة نحو التّمكين (غايات الإسلام الحركي)، فتعطيها أملا في تحقيق ما لم تستطع الوصول إليه في واقعها الدّنيوي. كلّ هذه التّناقضات سببها اكتضاض العقل الدّيني الرّاهن بالنّصوص التّأريخية، والنّظريّات الدّوجماتيّة المقدّسة والانتكاسات التي تعرض لها التّأريخ السّياسي العربي.
بعد حادثة المنشيّة (محاولة اغتيال عبد النّاصر) المعروفة عام 1954، هاجر كثير من الإخوان إلى أوروبا ودول الخليج العربي، خوفا على حياتهم من نظام عبد النّاصر، خاصّة وأنّ الظّروف الموضوعيّة التي كانت تمرّ بها بلدان الخليج العربي ساعدتهم في تقبّل الأنظمة الملكيّة في الخليج العربي لهم، فقد كانت المملكة العربيّة السّعوديّة في طور التشكّل العلمي، من حيث إقامة الجامعات وانتشار المدارس، كما أنّها كانت باعتبارها محور العالم الإسلامي دينيّا وجغرافيّا في مواجهة شرسة مع كافّة الحركات اليساريّة والقوميّة في العالم العربي، ممّا حتّم عليها أن توفّر للإخوان ملاذا آمنا، مكّنتهم من صناعة مؤسّساتهم الخاصّة التي ينشطون فيها، وأعطتهم مساحات لا بأس بها للتّعبير عن فكرهم. بيد أنّ الدّولة السّعوديّة التي قادت زمام الدّعوة الوهابيّة (إسلام سلفي- حركي) كانت دائما ما تنظر إلى الإخوان (إسلام حركي- سلفي) بنظرة شكّ وريبة، ولم تعطهم ذات المساحة التي أعطتهم إيّاها قطر في السّنوات الخمسين الماضية، ومن ثمّ الإمارات العربيّة المتّحدة في بداية سبعينات القرن الماضي، وهذا يظهر في المقولة التّأريخيّة للملك فيصل عندما سأله حسن البنّا أن يقيم فروعا لجماعة الإخوان في المملكة، فكانت إجابته المشهورة: «كلّنا مسلمون وكلّنا إخوان».
إننا نتفهّم الظّروف الموضوعيّة التي جعلت المملكة العربيّة السعوديّة، مثلا، تستقبل الإسلام الحركي في مرحلة زمنيّة معيّنة، خاصّة مع انتقالها من الدّولة البدائيّة إلى الدّولة التقليديّة، إضافة إلى العوامل الجيوسياسيّة للدّولة السّعوديّة، وكذلك معرفتها الواعية بأنّ الوجود الإخواني المحدود لن يشكّل خطرا عليها مع وجود جدران الإسلام الوهابي. غير أن الدّعوة الوهابيّة التّقليديّة مثلا لم تعد اليوم هي ذاتها قبل عشرين سنة، ولم تعد نصوصيّة في الإسلام السّياسي؛ أي أنّ الإسلام الوهابي لم يعد يمارس مفهوم « التّمكين» وفق قواعد وآليّات وصيغ تقليديّة كتلك التي كان يمارسها سابقا، وإنّما تحوّل إلى صيغ جديدة يُمْكِنُهَا أن تشكّل صورة أخرى من صور الإسلام الحركي الحديث كالتيّار « السّروري المتولّد من الفكر الإخواني الرّاديكالي، والتّيّار الجامي ذو النّزعة السلفيّة المتطرّفة، المتولّد من الهامش التّقليدي للسّلفيّة الوهابيّة وتحالفاتها مع المؤسّسة السّياسيّة «. هاتان الحركتان تعتبران اليوم من أقوى الحركات النّاشئة عن الإسلام الوهّابي التّقليديّ والمتأثّرة إلى حدّ ما بالفكر الرّاديكالي للإخوان والسّلفيّة، وهكذا يتحوّل الإسلام الوهّابي تلقائيّا إلى إسلام سلفي- إخواني في مواجهة الإسلام الإخواني ذو الرّوح السلفيّة، والإسلام الشّيعي، وهذا الأخير يعتبر إسلاما حركيّا بذاته؛ فقد ولد في سياق تأريخي أشبه بالسّياق التأريخي الذي يمرّ به الإسلام السّنّي اليوم، شأنه في ذلك شأن الخوارج.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.