لقد شكل المسجد/الجامع وعلى مدى قرون من الزمن, بوابة للدخول إلى المعترك السياسي، وذلك لما له من قدرة الاستحواذ على القيم الروحية والرمزية والتأويلية للنص المقدس، بل إنه قد يعتبر من أدوات التعبئة السياسية، بل وأسهلها للتأثير على الحكام، لما له من سلطة على مشاعر المسلمين وتعبئتهم خاصة حينما يكون الدعاة يعيشون في عالم الدعوة المفصولة عن واقع المجتمع والغارق في عقلية الماضي والأمجاد الزاهية. في هذا المقال سنعمل على تحليل الفروقات بين الحركات الإسلامية-باعتبارها حركات احتجاجية لها مطالب، بل وأكثر تحديدا لها مشروع أسلمة المجتمع من القاعدة نحو القمة- والأحزاب السياسية التي تشتغل وفق قواعد وقوانين مضبوطة (أولا)، ثم ننتقل بعد ذلك إلى مأساة الدور الذي أصبح يأديه المسجد/الجامع في تأدية الصلوات الخمسة دون باقي الوظائف الأخرى التي يمكن القيام بها (ثانيا)، الأمر الذي أفرز لنا دعوة مفصولة عن واقع المجتمع، حيث جعلت أغلب المصلين لا يستسيغون خطب الفقهاء (ثالثا). أولا : في الاختلافات بين الحركات الإسلامية والأحزاب السياسية لا أحد قد يشك في أن المنهج الإسلامي، يقوم على تصورات عقدية ومبادئ تشريعية وتوجيهية، لا تتفق في شيء مع ما تقوم عليه التنظيمات الحزبية من تصورات ومبادئ. فالأحزاب السياسية هي تنظيمات لها فروع وأجهزة على المستوى الوطني، حيث تقوم بوظيفتي التمثيل والتأطير لعموم المواطنين، كما لها برامج وتصورات تسعى جاهدة لتطبيقها، حين وصولها إلى رئاسة الجهاز التنفيذي، عبر آليات الانتخابات من خلال التداول السلمي على السلطة، إننا هنا بصدد تنظيمات تمارس الأمور في إطار قوانين وضعية، لا علاقة لها بالمنهج الإسلامي ولا بمبادئه ولا بمرجعيته، إننا أمام تدبير دنيوي صرف. أما عقائدية الإسلام، فلها نظرة إلى الكون والإنسان والحياة، لها نظرة إلهية تتجلى في الإيمان بوجود خالق لهذا الكون وما لهذا الإله على الإنسان من حقوق... وما في شريعته من ضمان لحياة طيبة في الدنيا وفي الآخرة. ثم ما يترتب على الأخذ بها أو الإعراض عنها من ثواب وعقاب...، كما أن لعقائدية الإسلام نظرته الإنسانية التي تتجلى في عظيم المنزلة التي رشح الإنسان إليها... وكريم الوظيفة التي خلقت من أجلها. فالداعية يريد الخير لكل الناس... ويسعى لإسعاد جميع البشر برسالة الإسلام... لا يتعصب لجنس أو لون ولا لجماعة أو حزب.. وهو مع هذا وذاك لا يربط بين (الجهد والجزاء) أو بين (العمل والنتيجة) إلا بمقدار ما يحسه من قبول ورضى الله تعالى... فلا يطربه رضى الناس عليه أو يسخطهم غضبهم عليه. إن هذه الطبيعة الإنسانية التي جبل الإنسان بها تتنافى كل المنافاة مع طبائع الحركات الحزبية الأخرى، ومن فضائل هذه الطبيعة أنها تكسب العاملين في الحقل الإسلامي صفات الانفتاح على الناس جميعا.. فهم دعاة خير.. ومنابر هدى.. كما يبدو تمايزا آخر على مستوى عقائدية الإسلام في دعوته إلى التمسك بالمبادئ والمثل، لا بالأشخاص والزعماء.. وبذلك يصبح العمل الإسلامي في مأمن من الانحرافات الفردية. فإذا كانت (الشخصانية) جرثومة فناء الحركات الحزبية، فإن (العقائدية) عامل بقاء الحركة الإسلامية واستمرارها1. ثانيا : المسجد/الجامع أية أدوار؟ في البدء لابد من تحديد أن الجامع ليس هو المسجد, فهما قد يجتمعان في وظيفة أداء الصلوات الخمس، وإن كان المسلم يستطيع أن يؤدي فريضة الصلاة، في أية بقعة من الكرة الأرضية، فهي مسجد مفتوح للخلوة مع الله. إذ أنه ثمة فرائض أخرى، لا يستطيع المسلم أن يؤديها إلا في مؤتمر إداري خاص، له سلطة أعلى من سلطة الدولة، ومسؤول دستوريا عن صياغة القوانين فمثلا : فريضة تحريم الربا تتطلب أن تسيطر الجماعة إداريا على حركة رأس المال، وهي أمنية قديمة طيبة، لا تصبح فريضة يتعين أداؤها، إلا إذا كانت الجماعة نفسها هي صاحبة الإدارة، وهي صاحبة الحساب. ومثلا : تطبيق حدود الشرع فريضة تعني أن يكفل المسلم أولا، نزاهة التحقيق، ونزاهة القضاء، وهي كفالة لا يستطيع المسلم أن يتعهد بها جديا، إلا في مؤتمر له -على الأقل- سلطة أعلى من سلطة البوليس. فهذه الفرائض وغيرها لا يستطيع المسلم أن يؤديها بالخلوة مع الله في المسجد، بل بالحضور مع الناس، في مؤتمر إداري له سلطة أعلى من سلطة الدولة، ينعقد دوريا، في مواعيد محددة، غير قابلة للإلغاء أو التأجيل. وهو المؤتمر الذي عرفه تاريخ الإسلام تحت اسم الجامع. فالجامع ليس هو المسجد، وليس مدرسة لتلقين علوم الدين، بل جهاز إداري مسؤول عن تسيير الإدارة جماعيا، بموجب مبدأين أساسيين في جوهر العقيدة الإسلامية نفسها : المبدأ الأول : إن الإسلام لا يعترف بشرعية الوساطة، فلا أحد يشفع لأحد، ولا أحد -بالتالي- ينوب عن أحد أو يتولى تمثيله في حزب أو مؤسسة، وهو تشريع تفسيره لغة الإدارة، أن يصبح كل مواطن مسؤولا شخصيا عما تفعله أجهزة الإدارة. المبدأ الثاني : إن الإسلام لا يبطل بقية الأديان، بل يحتويها ويلزم بالتعايش الإيجابي معها، مما يتطلب جهازا إداريا قادرا على جمع طوائف مختلفة -وأجناس مختلفة- تحت إدارة جماعية واحدة. لقد ظهر الجامع، للإيفاء بحاجة هذا الشرع الجماعي، إلى مؤتمر إداري على مستوى القاعدة، وكان ظهوره في بداية الأمر، فريدا وصاعقا مثل زلزال. إن هذا الاجتماع له موعد محدد في الإسلام، لا يزال يحمل اسمه حتى الآن، هو يوم الجمعة الذي ينعقد فيه مؤتمرات جماعية داخل العاصمة وخارجها، يحضرها المسؤولون عن الإدارة -ومنهم الخليفة شخصيا- وتخصص لنقاش شؤون الحكم، من قرارات الحرب والسلام، إلى قوانين التجارة، وتوزيع السلع، والمخالفات الإدارية. وإذا كان يوم الجمعة قد أصبح الآن يوما مخصصا للصلاة وحدها، فإن ذلك مرده إلى إبطال الشرع الجماعي نفسه، وتغييب وظيفة الجامع وراء وظيفة المسجد، بموجب تفسيرات سياسية طارئة، تم تحريفها عمدا عما جاء في النسخة الأصل، وهي تفسيرات، نقطة الضعف الأبدية فيها، أنها ملزمة بالتعايش مع النسخة الأصلية إلى الأبد. إن هذا التحول الذي وقع للجامع، وقع عندما استولى الأمويون على الحكم، وضربوا نظام الإدارة الجماعية في الجامع. إذ ذاك بدأت المحنة، فغاب الجامع وراء المسجد، وغاب المؤتمر الإداري وراء خطبة الإمام، وأصبح الإسلام، هو أداء شعائر الإسلام، وتفرق أتباع الملل الأخرى، وخسر القرآن، دولته العالمية، وأصبح يوم الجمعة موعدا لصلاة المسلمين الساكتين2. وفي العصر الحالي، نجد وأمام تنامي الحركات الاجتماعية وخاصة الإسلامية منها، دفعت الأنظمة السياسية، ومنها المغرب كنموذج، على نهج سياسة تقوم على ضبط إنتاج العماء (تأسيس دار الحديث الحسنية 1964)، وإحداث المجلس العلمي الأعلى بظهير 1981، هذا إلى جانب مراقبة المساجد من خلال تعيين الخطباء والأئمة، وتحديد موضوعات خطب الجمعة، وهذا يدخل في إطار الحرص على حمايتها من كل فكر قد يخرج منها يكون مضادا لتوجهات الدولة الرسمية. إن هذه الرقابة المتزايدة على بيوت الله، تبرز على كون المساجد، واحدة من الأسباب التي تحرك الصدمات الاجتماعية والسياسية، فوق المزايدات الدينية، إذ تتركب مطامح ذات طبيعة سياسية، اجتماعية وثقافية. ثالثا : مفارقات الدعوة والواقع كما سبقت الإشارة، فقد أصبح المسجد/الجامع، يلعب دورا في دينامية الصراع السياسي، باعتباره مصدرا للتوتر الاجتماعي، وذلك لما يمكن أن يحدثه خطاب الفقيه/الواعظ في إرباك معادلات السياسي. فالمؤمنون وغير المؤمنين يفسرون الجامع تفسيرات متباينة، والصراعات التي تدور بشأنه، إنما تحيل إلى الأهداف المتباينة بتباين الاستراتيجيات السياسية، الاجتماعية والفردية التي تتجلى من خلالها. إن الصراع شرس في سبيل الهيمنة على هذه الأماكن المقدسة، فهي تشكل بنظر البعض، نوعا من حقل سياسي معاكس، حيث لا تكون الصلاة، غالبا سوى مناسبة للتنديد ب «الأمراض الاجتماعية» وهي بنظر البعض، خصوصا الأثرياء الجدد، تشكل تثميرا لجزء من فوائضهم الإقتصادية في المساجد، تجلب له علائم الوجاهة، وأخيرا بالنسبة إلى الدولة، تشكل هذه الأماكن صندوق دعاية، ومن هذه الزواية الأخيرة، يبدو المسجد، فضلا عن وظيفته كمكان عبادة و-اجتماع - كأنه الامتداد الطبيعي للحزب والمنظمات الجماهيرية الملحقة به. لقد ولدت المزايدات الدينية والرفض الإسلامي ردا على هذا الاحتكار لكل معالم الحياة السياسية والاجتماعية3. إنه وبقدر ما يفعل الخطاب الديني تأثيره في تهييج النفوس، وإثارة مشاعر غضب المصلين، حول واقع يرونه بعيدا عن نموذج السلف الصالح، هو في الحقيقة تحليل يريد أن يجعل الماضي صورة للحاضر وآية للمستقبل، قافزا على تحولات الواقع والتاريخ والاجتماع البشري، هذا ما يجعل عيوب الحركات الإسلامية تزداد ثقلا، لابتعادها عن المشاكل الحقيقية للمجتمع، وذلك بإثارتها لقضايا هامشية تزيد الوضع غموضا عن مصير هذه الحركات. فحسب النفيسي, فإن الحركة الإسلامية، تعاني من غياب التفكير المنهجي ذي المدى البعيد، وكذا غياب نظرية علمية للاتصال بالجمهور لشرح أهداف الحركة ووسائلها، وقصور في التصور الاستراتيجي للحركة، ويعني بذلك غياب النظرية المتكاملة في السياسة الدولية والحراك الإجتماعي وتوزيع الثروة والتعايش مع القوى والأنظمة المتباينة التي يعج بها العالم، غياب التاريخ الرسمي للحركة الإسلامية، وغياب البعد الإستشرافي، وسيادة الفكر الحزبي الذي يلزم بالطاعة للقيادة والصدام المتكرر مع السلطة، وغلبة الخطابة على الفكر، بمعنى سيطرة الخطباء في صياغة العقل العام للحركة عوضا عن الموجهين والمفكرين، وعيوب جسيمة في التنظيم. ويضع المفكر الإسلامي التونسي صلاح الجورشي يده على سلبية أساسية فيقول : «أما اليوم فإن الخطاب الإسلامي في عمومه لم تتضح معالمه حتى لدى أصحابه، فما بالك عند النخبة والجماهير، ولهذا تراه لدى الإسلامي وعند غيره لا يخرج عن صورتين : - إما هيكلة ضبابية مشحونة بالعقيدة والطموح ويغمرها التضامن والمنزع الأخلاقي وتقليد الآخر وتوظيف الأزمة والانغماس في الممارسة بتضخيم فقه الحركة على الفكر والتحليل، والمراهنة على الحلم والانتظار. - وإما هيكلة تاريخية مسكونة بالتراث، كل حسب فرقته ومذهبه ومراجعه ومصادره، ويخلص الجورشي إلى أن افتقار خطاب الحركات الإسلامية إلى الوضوح والصلابة النظرية في مواجهة التحديات المعاصرة هو الذي يدفعها إلى نهايات ثلاث : 1 - الانغماس في كتب التراث بحثا عن أجوبة لتساؤلات الحاضر. 2 - تسطيح الصراع الفكري والإيديولوجي الدائر بينهما وبين بقية الأطراف معها جزئيا أو جذريا. 3 - وعندما تضغط الأحداث، وتجد الحركات الإسلامية نفسها مضطرة للتعريف ببرنامجها الإصلاحي، تعمد إلى التلويح بتطبيق الشريعة، وتخوض معركة حامية الوطيس من أجل الحدود ومنع المحركات كالخمر والملبس والحيلولة دون إحداث تغييرات في قوانين الأحوال الشخصية، والقضاء على الربا بالعمل بما يسمى بالبنوك الإسلامية، وتشن الحملات الإعلامية والمسجدية ضد البرامج التلفزيونية، وبهذا تصل الحركات إلى أقصى عطاءاتها الفكرية والسياسية، أي الإفصاح عن بدائلها المجتمعية4. خاتمة : إذا اتفقنا على أن هناك ثلاثة مستويات أساسية في ممارسة الإسلام -وهذا ما يذهب إليه الباحث محمد جمال باروت - وهي : الإسلام الشعبي والإسلام الرسمي والإسلام السياسي، وفي حين يرتبط الإسلام الشعبي بآليات التدين التقليدي حيث تكتسب «العبادة» صفة «العادة» المكتفية مع تقاليد المجتمع المحلي وخصوصياته الثقافية والحضارية والاجتماعية، فإن الإسلام الرسمي يرتبط بالمؤسسة الفقهية المشيخية التي غالبا ما تكون جهازا إيديولوجيا من أجهزة الدولة، ويمكن وصفه على نحو ما بإسلام «رجال الدين» بينما يرتبط الإسلام السياسي نظريا ,حركيا بشعار «الدولة الإسلامية»5. وبما أن الإسلام الشعبي يترعرع في كنف الدولة ولها المصلحة في استمراره، إلا أنها ستظل في مواجهة مع الإسلام السياسي الحركي، والذي هو من نتاجات الدولة المستبدة المتسلطة الغريبة عن الأمة. فإنه في نظرنا على الدولة أن تنفتح على هذا الإسلام وتحاول محاورته، من خلال إيجاد صيغة توافقية معه لإدماجه في منظومة إسلام الدولة، التي تحدد شكل إسلام للدولة موحد، بعيدا عن الإسلامات المتعددة والتي تزيد من التفرقة. * باحث في العلوم السياسية
1 - فتحي يكن، مشكلات الدعوة والداعية، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1985، ص. 132-135. 2 - الصادق النيهوم، محنة ثقافة مزورة : صوت الناس أم صوت الفقهاء، رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الثالثة، 2000، ص.35-37 و41. 3 - أحمد رواجيه، الإخوان والجامع : استطلاع الحركة الإسلامية في الجزائر، تعريب : خليل أحمد خليل، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1993، ص. 244. 4 - السيد يسين، الكونية والأصولية وما بعد الحداثة (أسئلة القرن الواحد والعشرين)، الجزء الثاني : أزمة المشروع الإسلامي المعاصر، المكتبة الأكاديمية، الطبعة الأولى، ص. 68 و70-71. 5 - محمد جمال باروت، يثرب الجديدة : الحركات الإسلامية الراهنة، رياض الريس للكتب والنشر، الطبعة الأولى، 1994، ص.13.