هناك قولة أظنها للشاعر الفرنسي «هنري ميشونيك»: «إذا مات شاعر علينا أن نعيد النظر في الشعر كله». ولنا أن نعمم هذه القولة ونؤولها أقصى ما يكون التأويل. إذا صمت كاتب، ولم يعد يكتب، علينا أن نواجه أنفسنا بالسؤال. علينا أن نعيد النظر في الكتابة كلها. في أسئلة من قبيل: من هو الكاتب؟ ما هي الكتابة؟ مثلما نفعل ذلك، ولو بدون وعي صريح، حين يختفي القارئ، فنقوم ونسأل: من هو القارئ؟ ما هي القراءة؟ بل نعيد النظر في القراءة كلها. مقابلة الصمت بالصمت، والاختفاء بالاختفاء علامة مرض. علامة شلل. لكن بكل أسف هذا هو واقع الحال. لننظر حولنا ونرى كم من شاعر رحل، وكم من كاتب صمت وتوقف، بل هناك ظاهرة أخرى، لكنها ليست بنفس الحدة، هي ظاهرة تغيير الطيور لوجهتهم. لنعط بعض الأسئلة: هناك كتاب قصة توقفوا نهائيا عن كتابة القصص: إبراهيم بوعلو، الأمين الخمليشي، مصطفى المسناوي، بهوش ياسين (الذي آمل أن يكون منكبا على كتابة عمل روائي جديد)، محمد عزيز المصباحي ( الذي توقف بسبب البحث الجامعي الذي يتفانى في الإنتاج فيه) و عبد المجيد الهواس صاحب المجموعة الرائعة «الليالي البيضاء» الفائزة بجائزة اتحاد كتاب المغرب. ومن الشعراء: محمد الشيخي، أحمد بلبداوي (الذي يمكن نعت حالته بالتعثر)... و آخرين. هناك مسرحيون وسينمائيون و رسامون (أتمنى أن يعذرني الرسام عبد الله بلعباس). وهناك نقاد أدب هم كالشوكة في الحلق: محمد البكري (ليعذرني هو الآخر، لم نقرأ ترجماته و دراساته منذ مدة) و محمد..... ومن الباحثين في الفلسفة: منصف عبد الحق، رضوان سليم، عبد المجيد الانتصار... ومن المترجمين: محمد اللوزي (معذرة). إن صمت هذه الأسماء، أو تعثرها أو خفوت وتيرتها، لابد أن يدفعنا إلى السؤال عن حقل من الحقول التي ارتبطت هذه الأسماء بها. أن نعيد النظر في كل جنس من أجناس الأدب التي كتبوا فيها و أطلوا على القارئ من خلالها. وفجأة توقفوا. يحيلني ذلك إلى صورة في الذاكرة من فيلم شاهدته منذ زمن، فقد ترسخ منه صورة دالة للشخصية المحورية وهي تقوم من النوم لتتفقد طائرها كلما صمت عن التغريد. إذا صمت الطائر على الناس أن ينتبهوا. وهناك صيغ كثيرة لهذا الانتباه: دعوات للمشاركة في الندوات، نشر في الكتب أو المجلات أو الجرائد، إجراء حوارات، تنظيم محترفات. فربما تذهب الشهقة وتعود الروح. إننا بين موقفين: إما أن ننسى ونغفل، وإما أن نتذكر ونعي. وهي مهمة فكرية تتطلب مشقة وجهد. فقد جرت العادة أن نسمي الصمت ترويا وإقلالا. في حين أن الصمت هو كلمة مرادفة للموت. إن عملنا في مجال الكتابة هو تفكير مستمر ومساءلة لكل ظاهرة كيفما كانت تجلياتها أو أحجامها. لكن يبدو أنن نمجد الصمت و الموت. فنحن متواطئون، ونخذل بعضنا. هذه هي شريعة الخيانة. هنا أذكر آخر ما وقع في عالم الكتابة الروائية. ما حدث مع الروائي الأمريكي «فيليب روث»، عندما أعلن أنه سيتوقف عن الكتابة. الصحافة الأمريكية اعتبرت هذا الإعلان خطير جدا و مؤثر على الأدب الأمريكي والعالمي. بل إن عالم الأدب بأكمله أصبح يهذي بهذا الخبر السيئ. فالعالم سيخسر قديسا من قديسي الكلمة. فالكتاب عادة لا يصرحون بأنهم سيتوقفون عن الكتابة. فهم لا يرغبون في نشر اليأس بين الكتاب الجدد وبين الكتاب الذين سيأتون من بعد. وفي ذلك عدم الاعتراف بعجز المخيلة والفكر عن العمل. في حوار مع جريدة» لوموند» الفرنسية قال فيليب روث:»أنا لم أرغب في أن أذهب و أصرخ على جميع الأسطح». بل إن صحفية فرنسية هي «نيللي كابريليان» هي من أشاع الخبر. وهذا سؤال أيضا مطروح على صحافتنا الثقافية أيضا. أيها الصحفيون المغاربة، اذهبوا و اصرخوا من فوق جميع الأسطح: هناك كتاب توقفوا عن الكتابة.