«يشرفني أن أتدخل باسم الفريق الفيدرالي للوحدة والديمقراطية في هذا اليوم الدراسي حول «المواطنة والسلوك المدني» وهي مناسبة نغتنمها لنشكر رئاسة المجلس على تنظيمها لهذا الحوار، ونهنئها على اختيارها الموفق لعنوان هذه الندوة، والتي بدون شك ستتيح لنا معرفة بعض الآراء والمواقف وما ينتج عنها من توصيات. وتأتي هذه الندوة بعد تلك التي نظمها الفريق الفيدرالي بحر السنة الفارطة حول أجرأة القوانين المنظمة للعريضة الشعبية والمبادرة التشريعية وتفعيل الديمقراطية التشاركية. وفي هذا الباب لابد من توجيه التحية والتقدير للمجهود الذي ما فتئت تقوم به جمعيات المجتمع المدني في التعبئة والمرافعة وبلورة اقتراحات تدعم الخيار الديمقراطي. لقد أتى دستور 2011 على ذكر المواطنة خمس مرات، ناعتا إياها تارة بالمواطنة المسؤولة، وتارة أخرى بالمواطنة الملتزمة، رابطاً إياها بما تلزمه على المواطنين من ترابط بين الحقوق والواجبات. كما جاء الدستور الجديد برؤية واسعة لمفهوم المواطنة، وقدم أرضية لإعداد جيل جديد قادر على المشاركة البناءة في بناء مجتمعه، والتفاعل الإيجابي مع محيطه والانخراط الخلاق مع العالم من أجل أن ينعم بمزاياه وفضائله. والواقع أن أي حديث عن السلوك المدني لابد أن ينطلق من سؤالين جوهريين أي مجتمع نريد بناءه لأجيال المستقبل؟ وأي أجيال نريد لأي مجتمع؟ إذ أن كل التغيرات التي نسعى اليوم إلى إحداثها في جسم المجتمع هي بالضرورة نوع من التأسيس لما ينبغي أن يكون عليه المستقبل. فما المقصود بقيم السلوك المدني الذي نريد ترسيخه في المجتمع أفراداً وجماعات؟ السلوك المدني باختصار شديد هو مختلف التعبيرات التي تصدر عن الفرد فتدل على أنه يحترم حقوق وحريات غيره كما يحترم اختلافات وخصوصيات بني البشر سواء محليا، أو وطنيا أو عالميا. هذا السلوك يعتبر معيارا أخلاقيا لضبط العلاقة بين النزوعات الفردية مهما بلغت حدتها ومتطلبات المجتمع الذي ينتمي إليه الأفراد. وهو على النقيض من السلوك العنصري الذي يضع بينه وبين الآخر المختلف حواجز تمنعه من العيش المشترك (قد يكون الاختلاف على مستوى الدين، المذهب، اللغة، العرق، اللون، الطبقة..) وهو أيضا على النقيض من السلوك العدواني الذي قد يبدأ بتكسير زجاج نافذة مدرسة أو سيارة إلى تفجير انتحاري يزهق الأرواح ويزرع الرعب. السلوك المدني بهذا المعنى لابد وأن يرتكز على قيم أذكر أهمها: 1 التسامح، الذي يعني من ضمن ما يعنيه (الإيمان بالحق في الاختلاف، حرية الرأي والتعبير، حرية المعتقد، واجب احترام الآخر) ومن هنا تأتي جدلية الحق والواجب كعنصر مركزي في هذه الثقافة؛ 2 الكرامة الإنسانية، وهو شأن السياسات العمومية التي ينبغي إقرارها واحترامها و في مقدمتها الحقوق المدنية والسياسية والثقافية وكذا الحقوق الاجتماعية والاقتصادية وتنموية؛ 3 المواطنة، بما تعنيه من مشاركة متساوية في تدبير و تسيير كل ما يتعلق بالشأنين العام والمحلي. ومن هذا المنطلق, فإن مسؤولية الدولة تكمن في تحسين الوضع المشترك بين الجميع والسهر على تجويد المعايير القيمية والأخلاقية والقانونية الناظمة لكل ذلك. وأعتقد أن هناك أربعة مداخل لترسيخ قيم المواطنة والسلوك المدني: 1 المدخل الإنساني الكوني والذي يعني تمثل كل جوانب ومكونات ثقافة حقوق الإنسان والتشبع بالبعد الكوني الشمولي لهذه القيم؛ 2 المدخل السياسي و يتمثل في تنمية الوعي بإيجابيات المشاركة في صنع القرار، وممارسة الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور بروح المسؤولية والمواطنة، التي تتلازم فيها ممارسة الحقوق بالنهوض بأداء الواجبات؛ 3 المدخل المدني والذي يعني تمثل المعارف و القيم و المبادئ و الأدوات الكفيلة بتيسير الانسجام بين الناس وفض النزاعات بينهم وفق الطرق والأساليب الهادئة، المناسبة لكل حالة على حدة؛ 4 المدخل التربوي والذي يعني التربية على المواطنة في بعدها القانوني لثنائية الحق والواجب، والتربية على نهج السلوك المدني الذي يعني احترام الآخر المختلف مهما بلغت درجة هذا الاختلاف. السيد الرئيس في ظل التحولات المتسارعة في الأفكار والقيم وأنماط العيش التي يشهدها العالم اليوم أصبحت المدرسة مطالبة بأن تغير من وظائفها التقليدية المتمثلة في التعليم والتكوين والتأهيل، إلى وظائف أخرى تؤهلها لمواكبة هذه التحولات وتقديم إجابات ممكنة عنها من زاوية الممارسة التربوية. وبالنظر إلى السياق التاريخي والثقافي الذي يمر به المجتمع المغربي راهنا، يبدو أن للمدرسة دورا مركزيا في استنبات منظومة قيمية جديدة قادرة على تحقيق التفاعل الإيجابي مع التحولات التي يعرفها المجتمع، في إطار يستند إلى رؤية أخلاقية واجتماعية جديدة تحرر الإنسان من كل ما يمس بكرامته وحريته ويحد من طاقاته في الفعل والإبداع. وجدير بالذكر أن تكامل أدوار كل من الأسرة والمدرسة ومختلف قنوات التنشئة الاجتماعية حاسم في تعزيز قيم السلوك المدني وترسيخها في أفئدة الناس وعقولهم وتدريبهم على قبول الآخر المختلف، ضدا على قيم السلوك العدواني والتدميري الذي لا يؤمن بالاختلاف والتعدد. وهذا يقتضي منا تنمية القيم التي تعلي من شأن الإنسان والعقل والحرية وتنبذ عقلية الإقصاء وتمكين المتعلمين من القدرة على تنسيب الحقائق كبديل عن الحقائق المطلقة من أجل إتاحة فرصة لقيم المبادرة والتعايش بين مختلف الأفكار والآراء واعتبار أن للحقيقة دائما زوايا متعددة. ولابد من إثارة الانتباه في هذا الصدد، إلى شح الكتابات المتخصصة في التربية من أجل المواطنة المسؤولة، وعلى وجه الخصوص الكتابات التي تجمع بين النظرية والتطبيق، وبين مفاهيم المواطنة الحديثة وتحليل السياسة التربوية، حتى نتمكن من معرفة مدى وعمق معالجتها. لابد كذلك من إثارة الانتباه لواقع لازلت فيه المناهج التربوية في عموميتها مجانبة للبنية المفهومية الحديثة للمواطنة والتربية عليها، وبالتالي فنحن في حاجة إلى إعادة تطوير المناهج لتكون معززة للمواطنة. وهذه المهمة وإن كانت شأنا عاماً نشترك فيه جميعاً، إلا أنه من باب المسؤولية التذكير أن وزارتي التربية الوطنية والتعليم العالي والبحث العلمي والجامعات، والباحثون وواضعو المناهج والمشرفون التربويون وغيرهم مدعوون للاضطلاع بهذه المهام. ونحن نتحدث عن المواطنة والسلوك المدني، يحق لنا القول إن المواطنة لا تكون إلا بالتصدي للاستبداد السياسي. وعلى الدولة مسؤولية إشاعة الديمقراطية والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. إذ لا يمكننا الحديث عن مجتمع المواطنة والسلوك المدني دون استجابة الدولة لطموحات الشعب المغربي وتحقيق آماله في التحرر والانعتاق والالتزام بالديمقراطية وسيلة وهدفا، باعتبارها هي الشرط المؤسس لأي شرعية سياسية وليس الإكراه. والابتعاد عن وسائل الإخضاع والتطويع بالعنف كما يحدث بشكل شبه يومي في مختلف المدن والقرى التي تشهد احتجاجات سلمية على غلاء المعيشة أو احتجاجات على ظلم السياسات الاجتماعية والاقتصادية والتهميش أو للمطالبة بحقوق سياسية. لا يمكننا الحديث عن مجتمع المواطنة والسلوك المدني دون إمكانية إجراء انتخابات حرة ونزيهة تعبر عن إرادة الشعب. فعندما يرى المواطن أن الإدارة تزور إرادته الحرة لا يمكن أن ننتظر منه المشاركة في القادم من الاستحقاقات، ولا يمكننا والحالة هذه أن نلزمه بما لا تلتزم به الدولة. السلوك المدني ليس معطى جاهزا أو وصفة قابلة للتطبيق الفوري، بل هي تراكم لمجموعة من التجارب والخبرات والمهارات والتكيف الإيجابي مع مجموعة من المواقف والوضعيات والقدرة على الاستفادة من خبرات المجتمعات التي سبقتنا للتقدم. وما ينتظرنا في هذا الباب ليس بالأمر السهل مع تراكم سلبيات الماضي، إذ تقتضي منا المرحلة العمل تلطيف العوائق والعوامل الكابحة لثقافة المواطنة في المجتمع، من مثل شيوع الفردانية والمحسوبية والزبونية، وضعف الشعور بالواجب وبالمسؤولية، والتأرجح بين ثقافة الخنوع والاستيلاب أو التحكم والتسلط وهما وجهان لعملة واحدة فاسدة ومفسدة. وبالتالي المعركة اليوم، هي معركة تنمية السلوك المدني واكتساب سلوكات جديدة ضمن منظور يحرر الأفراد والجماعات من سيطرة القيم التقليدية السلبية وإشاعة قيم العمل والعقل والحرية وقوة الإرادة. وذلك لبناء مجتمع الحداثة والديمقراطية والمساواة والمواطنة.