يضعنا موقف الجماعات السياسية الرافض للفنون مباشرة أمام علاقة الفن بالسياسة، فما الذى يريده الساسة من الفن؟ وما هو رد الفن على ذلك؟ قبل الإجابة عن هذين السؤالين، ينبغي أن نستحضر أن الإيديولوجيات المنغلقة تمتلك نظرة دونية للفن وتعتبره مجرد خادم لها في ساحة السياسة. وبذلك، تتسم مواقفها بعداء كبير لاستقلالية الفن أو لفكرة حرية الإبداع الفني دون قيود مصطنعة، خصوصا تلك التي تفرضها رؤيتها الإيديولوجية المنغلقة التي ترى الفن الحديث مجرد إنتاج أناس جهلة وكفرة...! هكذا، تمتلك هذه الأيديولوجيات موقفا محافظا متزمتا، خاصة في نظرتها للفنون والآداب. فهي تسعى إلى فرض قيودها الصارمة على حرية الإبداع والتعبير، وترفض الفن الحديث وتستخف به، بل تكفره...، حيث تنظر إليه كله على أنه مؤامرة تم حبكها لاستخدامه سلاحا ضد الدين والمجتمع والسلطة والنظام... ويتمثل الفن الذي قامت بمعاداته هذه الأيديولوجيات في المدارس الطليعية الحداثية مثل التكعيبية والمستقبلية والدادائية والتعبيرية والتجريدية والسوريالية، وغيرها من الحركات الفنية الثورية التي لم تر فيها تلك الإيديولوجيات سوى سلاح أجنبي يحاول أن يقوض به الآخر الدين والنظام، ما جعلها تنعت هذه التيارات الفنية بالانحطاط والفساد والتدمير، لأنها تعتبرها جميعها مجرد معاول هدم، حيث تنظر إلى التكعيبية على أنها تقوض من خلال الفوضى المقصودة، وأن المستقبلية تهدم من خلال أسطورة الآلة، والدادائية تنسف من خلال السخرية، والتعبيرية تهدم من خلال محاكاة الهوس البدائي، والتجريدية تهدم من خلال ابتداع دوامات الجنون، والسوريالية تهدم من خلال إنكار العقل... لقد كانت هذه التيارات الفنية الطليعية محط هجوم كبير من اليمين الأمريكي، كما تعرضت للهجوم نفسه من قبل النازية والفاشية، بل وحتى الشيوعية! (حسن طلب). يعود الموقف المتشدد العنيف من الفن إلى عداوة سافرة للفن الحديث الذي حاول أن يدافع عن استقلاله وحريته الخاصين، ما جعل المفكر الأمريكي «ألفريد بار» يدافع بحماس عن هذا الفن، لتمتع هذا الباحث بالقدرة على تذوقه وإنصافه بعيدا عن المعايير الأيديولوجية والسياسية. وقد وجه «بار» نقدا لاذعا «للمكارتية» وأتباعها المتزمتين، حيث قال: «إن من يساوون بين الفن الحديث والنظم الشمولية يجهلون الحقائق، لأن وسم الفن الحديث بالشيوعية مجرد غباء، كما أنه يقضي على الفنانين الحداثيين...». ولم يفته أيضا وصف من يتمسكون بأن الفن الحديث هدام وأنه مجرد أداة في يد الشيوعية، بأنهم مصابون بعَتَهٍ بالغ الغرابة! ولا تختلف لغة النازية عن اللغة التي استخدمها اليمين الأمريكي في حربه الضروس على الفن الحديث، بل ربما نجد هذين المعسكرين يشتركان في استعمال بعض الألفاظ في التعبير عن هذا الموقف، حيث يصف الزعيم النازي «أدولف هتلر» الأعمال الطليعية التي عُرضت بمدينة ميونخ سنة 1937 بأنها «الفن المنحل»، بل أضاف إلى ذلك قائلا: «إنها أعمال يمارسها الأغبياء والكذابون والمجرمون، ممن يستحقون أن يُودَعوا المصحات العقلية أو السجون»!