مدن كثيرة ملبدة بغيوم الحزن، لأن السماء اختارت عصفورها الصداح ليحلق في الأعالي محفوفا بأسراب أحلامه، حيث أجنحة الملائكة لا تعرف الكلل. مدن كثيرة ملبدة بالأحزان، لأن روح أيمن المرزوقي، رفرفت، كما ينسل الماء بين الأصابع، خفيفة شفيفة، رغم فجاعة الفجاءة، ودون سابق إخطار أو إخبار. هكذا، وكنقطة في نهاية السطر، تتوقف نبضة قلبه لتشرع الأبواب على البياض، ولتتوقف الأحلام التي كان سفيرها المتجول فوق العادة، على شفير الكوابيس، لذلك ثمة لمسة حزن في كل الجغرافيا التي وطأتها أقدامه وأحلامه. .. وهاهي طنجة كئيبة وكليمة لأنها تعلم أنك لن تعود إليها هذه المرة، هي التي كانت تغار عليك، إن بت ليلة واحدة في أحضان تلك المدن الكثيرة التي كانت تستدعيك، وحزينة هي نوارس البوغاز لأنها لن تلقاك قرب الشاطيء، وأنت تطالع صفحات الغروب، أو أسطر الموج إذ تنمحي قربك، وكئيبة هي دفاتر الفلسفة في محافظ الطلبة، لأن الدرس الذي بدأته لن ينتهي، ولأن صوتك الماهر في الدروس والبارع في الخطابة، لن يرفرف قربها في سماء القسم بعد الآن. .. وهاهي فاس حزينة وكئيبة لرحيلك، وهي تتذكرك مناضلا طلابيا في ظهر المهراز التي ولجتها بجرأة لم تعهدها، و تتذكرك طالبا في أقسامها، و معلما في ساحاتها، لدروس في الفكر السياسي والفلسفي، وفي المحاورات، وفي كل مرة تستل من الذاكرة أو من آخر ما تقرأ استشهادا يلقن فكرة ويعرف بكتاب أو بكاتب، من غرامشي إلى روزا ليكسامبورغ، إلى جورج طرابشي إلى المهدي عامل وألتوسير.. لدرجة كنت تدهش بها محاوريك، فيتساءلون: متى يقرأ هذا كل هذا؟! نعم، من حق فاس أن تحزن لفراقك، إذ كانت لك فيها صولات وجولات أديت ثمنها غاليا، من صحتك وحريتك، لذلك أكاد أجزم الآن أن السجون.. حتى السجون من عادتها أن تفرح لمن تفارقهم، لكن عين قدوس اليوم حزين لفراقك، لأنك لقنته كيف تكون حرا، حتى داخله حرا حرا.. وأن لا سجن للأفكار. ولا سجن للإرادة ولا للأحلام. .. هي المحمدية والبيضاء حزينتان وهما تدركان أن لا عمل تنسيقيا بين الإخوان والرفاق، ولا نقابيا سيضع المدينتين على جدول أعمالك بعد الآن. .. هي مدن كثيرة حزينة لفراقك، من وجدة إلى الحسيمة إلى طنجة، إلى مراكش.. إلى كل قطرة أرض تجولت فيها.. فقد كنت جوالا جماعيا في أرض الجماعة هذه، رُغم الرغم، ورغم السكري اللعين الذي استوطن جغرافية جسدك. .. وأذكر أننا تقاسمنا لحظات جميلة في سنوات مهلهلة و مقلقلة.. حيث دماء شهداء 1981 لم تجف بعد، وحيث المحرر موقوفة، و«البلاغ المغربي» تحبو خطواتها الأولى إلى جانب «المقدمة» و«جسور»، نقرأ «قصائد مكناس» لعبد الله زريقة معا، يوم كان اسمك لا يرهب السلطات وحدها، بل حتى بعض الرفاق من فصيلك، لذلك حينما شاء الزميل الشاعر محمد حجي محمد أن يهديك إحدى قصائده، أسعفته الاستعارة، فجاء الإهداء: «إلى «أ » حامل صخرة الأبجدية..» وكان يقصد ب «أ» أيمن أي أنت تشخيصا وشخصيا.. فرحمة الله عليك صخرة النضال.. رحمة الله عليك أيمن الأماني.