لم يكن عبد الهادي خيرات مخلصا لأوراقه، ولا للغة الضاد التي سطرها فريقه في البرلمان، تلك التي اعتمدت النقطة والفاصلة في كتابة السؤال الشهري الموجه الى رئيس الحكومة، والذي جعل من الجلسة الشهرية منبرا انتخابيا في حملة حزبية، يخاطب فيه الناخبين بالصوت والصورة دون أن تحتسب " الهاكا " هذا الزمن من الحصة المخصصة للأحزاب في الإعلام السمعي البصري. قال خيرات إن شعبنا في الممرات والطرقات الضيقة التي تنتمي الى الهامش يعرف حجم الزيادات في الأسعار ويكتوي بنار الغلاء، وأن أرقام الحكومة الآتية من المندوبية السامية للتخطيط هي نفس الأرقام التي تشكل مرجعيتنا جميعا، لكن خارطة التفقير في بلادنا هي في ذلك المد التصاعدي المجسد بالفعل في المعطيات الجديدة للمندوبية السامية للتخطيط نفسها، وهي الخطاطة التي غيبت في عرض السيد الرئيس. صدق خيرات وتغاضى الرئيس عن الحقيقة المرة، لأن الرئيس يعي حجم الخسارة التي ستلحق بحزبه وهو يعترف من منبره الرئاسي، الذي يتمتع بصلاحيات واسعة، بما تسببت فيه سياسته اللاشعبية في ظلم شعب تواق الى الحياة الكريمة . وهي السياسة المندرجة في مسلسل ضرب القدرة الشرائية لفئات واسعة من الشعب المغربي، في الزيادات المتتالية في المحروقات، وفواتير الماء والكهرباء التي قادت توترا اجتماعيا، كاد أن يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه في أكثر من بؤرة في الاحتقان الاجتماعي في وطننا ، ناهيك عن الارتفاع الصاروخي في أسعار النقل، وباقي المواد الأساسية المرتبطة بالكادحين، هؤلاء الذين تسعى الحكومة اليوم، الى إلحاق الطبقة المتوسطة بهم، لتوسيع رقعة المتضررين في مشهد يهدد السلم الاجتماعي بامتياز، والذي اكتفى الرئيس بالقول عنه إن معارضيه هم من يتسببون فيه ، وذلك بتأجيج الوضع وتحريض الشعب. داعيا شعبا آخر في مخيلته الانتخابية لأن لا يستمع الى "المخربين" وجزء من "خيرات" ينتمي إليهم إلا أن جزءا آخر بردا وسلاما على الحكومة الملتحية، وذلك هو اعتقاده الذي رد عليه مواطن كان يجلس الى جانبي في " الشرفة" بالقول :" آش من مخربين راه خيرات فضح المستور" . إن السيد الرئيس الذي اختار في آخر جلسة له أمام النواب في الدورة التشريعية التي نودعها، يعي جيدا القلق والخوف الذي تسبب فيه للشعب المسكين، كما يعي الضيق الكائن والمرتقب في المعيش اليومي للفئات المحرومة، أمام سياسة تكرس المزيد من التهميش و التفقير والقهر. قهر طبع جبين مختلف فئات الشعب المغربي كما طبع المستوى المعيشي للطبقات المتوسطة ومستوى معيش الأجراء وتدنيه في صفوف الفئات المعدمة والمحرومة. وبالمقابل فإن الأثرياء محصنون لمزيد من الترف والبذخ، وهؤلاء تعمل الحكومة اليوم على خدمتهم من تحت الطاولة بالتفويتات بدون رقيب ولا حسيب، وبالتواطؤ الفعلي في قلب الطاولة أمام وجوه بعضهم، أو في العناوين الكبيرة التي تتصدر صحفهم، لتضليل الشعب دون محاربة الفساد بالملموس ، فتظل اللوائح التي تنشرها حكومتنا الموقرة تغطي الشمس بالغربال للسكوت عن الفساد الكبير الممرر بتغيب القوانين المصاحبة لدستور المسؤولية والمحاسبة. قال خيرات إن نزيف القدرة الشرائية مازال متواصلا، وأن الحكومة مسؤولة عن غلاء المعيشة . لكن الرئيس عبد الإله بنكيران اكتفى بالقول أنه غير مسؤول لأن الفقر آت من سياسات سابقة. صدق الرئيس، لكن كذب حزبه عندما وعد الشعب المسكين الذي بوأه المقعد الأول في الانتخابات التشريعية الأخيرة بإنقاذه من الفقر وبالحياة الأفضل في حكومة الربيع الديمقراطي. لم يكن تنبيه خيرات للرئيس، وهو يطوف به على أزقة الهامش، تنبيها عابرا، بل هو إحالة على دلالات أعمق في سوء التسيير لحكومة تعتقد أن منتقديها يريدون طرد الرئيس من مكان عشقه، حد مخاطبة الشعب مباشرة على الهواء في القناة الرسمية للبلاد، دون اكتراث بأن نواب الشعب ،أغلبية ومعارضة، ينتظرون جوابا عن أسئلتهم التي تهم مساطر وآليات في التدبير العمومي لا كلاما منخرطا في حملة انتخابية للحزب الأغلبي قبل أوانها. نجح الرئيس في استغلال الزمن التلفزيوني لحملته الانتخابية، وظل سؤال خيرات معلقا في أذهان شعب يعي جيدا أن الفقر معمق اليوم بكل المقاييس في كل الأزمات التي طفت فوق السطح، معلنة ناقوس الخطر بكل المآسي في الضيق بالأجور التي أصبحت منذ مدة لا تلبي الحاجيات الأساسية لفئات واسعة من الشعب المغربي، وفي غياب الإجراءات التي تعطي البعد الاجتماعي والاقتصادي الأولوية ،من أجل الحد من الفوارق الاجتماعية العميقة والقضاء على مختلف أشكال التفقير والتهميش والإقصاء ، ومن خلال توفير الشغل للعاطلين، والرفع من الأجور وتحريكها بالموازاة مع المستوى المعيشي، وإعادة النظر في العبء الضريبي المسلط على الأجور لتفادي حدوث أزمة اجتماعية واقتصادية خانقة قد تتطور إلى كارثة اجتماعية خطيرة. لكن يبدو أن الألم الذي تحدث به عبد الهادي خيرات، وهو يهجر لغة الضاد نحو لغة آتية من سوق العكاري وأسواق سلا المخترقة لدروب القهر بالفقر المدقع المختفي في أسوار لم تعد قادرة على حجب مشاهده التي تدفقت خلف الأسوار وأمامها ، وفضاءات أخرى تعلن عن انفجار دوائرها في السطات وخميس الزمامرة التي اختارت أن تنشر آلام " الخبازين" في عدد أول أمس من جريدة الاتحاد الاشتراكي، هي آلام لا تنتمي الى منظومة الرئيس الذي تعالت ضحكاته عالية حد تصدع مسامعنا، تاركا النواب في المعارضة والأغلبية في خطابهم ليختار خطابا آخر، ينكر فيه أن الشعب قد تضرر من التردي المعيشي، وأن زمن "شهداء كوميرا " الذي يؤرق خيرات انتهى، وأنه فارس زمانه، له زمام يقود به رعيته نحو صناديق اقتراع تقول للرئيس أنت الرئيس ولا رئيس قبلك أو بعدك.