ضمن عموده الأسبوعي في ملحق الكتب لجريدة «ليبراسيون» الفرنسية (الخميس 7 فبراير 2013)، كتب إدوار لوني أن حراس معبد لغة موليير وطهرانيتها، أعضاء الأكاديمية الفرنسية، قدموا تحذيرا على صفحة مؤسستهم الموقرة على شبكة الإنترنيت، ضمن باب «الاستعمال الخاطئ للمعاني»، يهم بعض الكلمات من بينها سوريالي. ينتمي نعت واسم «سوريالي»، يقول التحذير، إلى قاموس النقد الأدبي والنقد الفني. ولذا، فمن اللازم تجنب إضعاف معناه عبر تحويله إلى تكلف لغوي باستعماله في اللغة اليومية، وهو الاستعمال الذي تلحق به، عامة، كلمات مثل «تماما» أو «حقا» أو «فعلا». الدرس اللغوي جلي إذن. كلمة «سوريالي» أنيقة وتستعمل في سياق مجال محدد بدقة، وللحفاظ على دلالتها الفنية، فإنه يجب عدم استيرادها إلى المعجم اليومي المدنس والمبتذل. ويذهب «الخالدون» إلى أبعد من التحذير، ليقدموا مثالا «حيا» عن الإفراط في توظيف الكلمة بدون حسيب ولا رقيب، ووفق وصيتهم فإنه لا يجب أن يقول الواحد منا: « كان علي الطواف بسيارتي طوال ساعة قبل أن أجد مكانا لركنها، إنه أمر سوريالي حقا!» فما الذي تسمح لنا الأكاديمية المحترمة بقوله في مثل هذه الحالة؟ لتوضيح سوريالية (عفوا: غرابة) وضع من هذا القبيل، يتخيل الصحفي واقعة ليبني عليها استغرابه من فتوى الأكاديمية. تخيل أنك طفت «فعلا» (لا مجازا) طوال ساعة أبدية من الزمن بحثا عن مكان لركنها. كان لديك موعد مهم إلى أقصى درجة، لكنك خلفته الآن. ارتفعت درجة حرارة محرك سيارتك بشكل رهيب. دخنت خمس عشرة سيجارة رغم أنك انقطعت عن لعنة التدخين المقيتة منذ عشرة سنوات. الألم يشل أعلى ذراعك الأيمن ويجعلك تخشى الإصابة بجلطة دموية في الشرايين. تتملكك الرغبة في ترك عربتك هنا، وسط شارع الجيش الملكي، ومغادرتها للمشي إلى مكان الموعد بعد حمل رافعة السيارة لتنهال بها على جمجمة كل المارة الذين قد لن يروقك مظهرهم. وفي هذه اللحظة بالذات، ترى الصديق الذي كنت على موعد معه. ما الذي ستقوله له حينها؟ هل ستصيح في وجهه: «يا للعهارة يا فلان. خلت نفسي سأموت بسبب كل هذا الازدحام البليد في الطرقات. لا يمكنك أن تتخيال دار العهارة التي هي شارع الجيش الملكي. أظن أنني سأذهب لقتل عمدة المدينة ونوابه الأغبياء. سأحولهم إلى أكلة سائلة للقطط بدرجة لا يمكنك تصورها. بعد عشرة دقائق سيصبح المجلس البلدي بركة دم ومواد عضوية، الخ.» رغم أن صياحك بهذه العبارات مشروع، فإنك لن تقدم على ذلك، بل ستقوم بمجهود استثنائي وجبار لتنطق بالجملة التالية العادية: «فلان، لقد « كان علي الطواف بسيارتي طوال ساعة قبل أن أجد مكانا لركنها، إنه أمر سوريالي حقا!» وبعد اختتام الجملة، ستشعر، بكل تأكيد، بالارتياح جراء سيطرتك المطلقة على أعصابك في ظل ظروف جد عصيبة. لكن، ها هو صديقك يجيبك: «عزيزي، عليك أن تتحاشى، من فضلك، إضعاف معنى كلمة سوريالي عبر تحويلها إلى تكلف لغوي». حينها، ستسنح لك فرصة نادرة لمعرفة المدة الزمنية التي ستفصل بين لحظة تهشيم جمجمة صاحبك بواسطة رافعة السيارة ولحظة وصول سيارة الإسعاف في مدينة عملاقة! اليومية ذاتها، لكن في صفحاتها السياسية الصادرة يوم 6 فبراير، تكشف أن النقاش البرلماني الفرنسي حول قانون «الزواج للجميع» تضمن جدلا «شعريا» تمحور حول أحد شعراء التيار الزنجي ليون-غونتران داماس، وكان بطلاه وزيرة العدل كريستيان طوبيرا والنائب اليميني المعارض هيرفي ماريطون. لنعد إلى أصل القصة قبل الاضطلاع على فصليها الأخيرين كما روتهما الجريدة التي تأسست قبل أربعين سنة. أثناء تقديمها للقانون يوم 29 يناير الماضي، التقديم الذي ارتجلته ولم تعتمد خلاله على أدنى ورقة مكتوبة، كانت «حارسة الأختام» الفرنسية قد استشهدت بالشاعر مؤسس الحركة الأدبية الزنجية بمعية إيمي سيزير وسنغور. اختتمت طوبيرا مداخلتها تلك بأبيات شعرية لليون-غونتران داماس منتقاة من قصيدته «شاهق مثل الحاجة إلى تغيير الجو»: «جميل مثل مثل وردة يرى برج إيفل المحاصر فجرا تويجياتها تونع أخيرا قوي مثل نبرة النبرة الحادة لنداء وسط الليل الطويل.» يوم الثلاثاء 5 فبراير الجاري، توجه النائب هيرفي ماريطون بالنقد إلى الوزيرة معتبرا أن استعارتها الشعرية لم تكن موفقة، بل كانت معاكسة لما يدافع عنه القانون موضوع النقاش: «هل من الضروري أن أذكر السيدة حارسة الأختام التي استشهدت بليون-غونتران داماس (قراءاتك جيدة سيدتي العزيزة) أن هذا الشاعر عبر في الكثير من المرات، ضمن أعماله، عن فكرة مفادها أنه لا يجب نكران الاختلافات بين الناس، بل يجب تحملها وقبولها وتثمينها؟ لقد كان يعتبر، بإيجاز، بأن الاختلاف أفضل من التماهي». وبينما سخر برلماني معارض هو الآخر من الوزيرة قائلا: «كونها سردت مقطعا شعريا للشاعر لا يعني بالضرورة أنها قرأته»، لم تترك طوبيرا أول فرصة تناولت فيها الكلمة مجددا لترد، بذكاء، على معارضيها السياسيين اللذين انتقد أولهما اختيارها الشعري وشكك الثاني في سعة معرفتها الأدبية. شرعت في الكلام بهذه العبارة: «سأقول لكم ما كان سيقوله لكم ليون-غونتران داماس ردا على ما قلتموه توا»، مسترسلة عبر تلاوة إحدى قصائد ديوان «بلاك ليبل»، أشهر دواوين الشاعر المنحدر من غويانا، قصيدة تحفظها عن ظهر قلب: «نحن الشحاذون/ نحن اللاشيء/ نحن القليل/ نحن الكلاب/ نحن النحفاء/ نحن الزنوج/ ما الذي ننتظره/ ما الذي ننتظره لنسلك سلوك الحمقى/ نتبول/ وفق هوانا/ ضد الحياة/ البلهاء والبليدة/ التي توفر لنا؟» نائية جدا هي الاستعارات التي وظفتها الوزيرة الفرنسية عن «مخيلة» السيد بن كيران وأصدقائه الذين لا يسبحون خارج حدائق الحيوانات ولا يسعفهم إلا قاموس الجن والغيلان، نائية بسنوات ضوئية على الأقل! ومع ذلك، تحرم علينا الأكاديمية الفرنسية التعليق على حال لغتنا السياسية الجديدة بالقول: «إنه وضع سوريالي حقا!»