جريدة «الاتحاد الإشتراكي» كانت قد غامرت من قبل في اختراق عوالم الكيف في الشمال المغربي، فخلال جولتنا صادفنا مجموعات تضم بعضها نساء يقمن بتنقية الحقول إلى جانب من يشرف على العملية، كان الأمر يبدو كما لو أنها خلية نحل سألناهم « ألا تخافون أن تباغتكم السلطات المحلية أو دوريات الدرك هنا؟» أجابني أحد بالقول « في هذه المنطقة بالذات لايمكن ذلك، لكن في مناطق أخرى ممكن ، فالجميع يريد أن يشتغل في زراعة الكيف، إذ بالرغم من أن مدخوله ليس بالشكل الذي يتصوره البعض إلا أنه على أي حال أفضل من باقي الزراعات، وإذا استطعت أن تحصل على مظلة ما، فإنك ستجني الملايين منه إذا قمت بتصنيعه وإلا فستكتفي بانتظار قدوم العطارين لتبيع لهم البضاعة الخام». تعرف مناطق زراعة الكيف نزوحا كبيرا لآلاف اليد العاملة الآتية من مختلف مناطق المغرب بحثا عن العمل في حقول الكيف في موسم الحرث أو الحصاد ، زائر المنطقة يصادف المئات، بل الآلاف من الشباب «بالموقف» بمنطقة اخلالفة أو اخميس إساكن ، إكاون ، وبكل المراكز على طول طريق الوحدة، ينتظرون فرصة العمل بأحد الحقول، بعضهم يقضي أياما على تلك الحالة ويطول انتظاره، والبعض الآخر يجد فرصة العمل بسرعة من دون أن يتعب في البحث ، وهذا الأمر ينطبق على أولائك الذين يأتون كل سنة بشكل منتظم للإشتغال فيصبحون معروفين لدى المزارعين. الملاحظ أن هؤلاء الباحثين عن شغل في هذه الحقول يأتون على شكل مجموعات ولكل مجموعة رئيس يفاوض باسمها مع «الباطرون» بخصوص الأجر، والذي يخضع غالبا لقانون العرض والطلب. وتلعب النساء دورا محوريا في زراعة الكيف ، وذلك بتنقية الأراضي من الأعشاب والكلأ، والقنب الهندي من النبتة الذكر مقابل أجر لا يتعدى 30 درهما في اليوم في أحسن الأحوال. ويخلق تدفق اليد العاملة خلال هذه الفترة من السنة أزمة حقيقية في النقل، خاصة في مدن العبور كتاونات والحسيمة، وهو الأمر الذي يدفع بالبعض إلى قطع مسافات طويلة مشيا على الأقدام عبر الوديان للوصول إلى أماكن العمل في الحقول. فحاجة المنطقة إلى اليد العاملة تكون أكبر خلال الأشهر الأولى من كل سنة، حيث يتم إعداد الحقول وقطع بقايا الغابة أو ما يسمونه، حسب التعبير المحلي «أخلوف» و«تثنية» الارض وتنقيتها من الأعشاب ثم حرثها، وزرع بذور نبتة الكيف والتي يتم تسويقها محليا بسعر يتراوح مابين ألف وألف وخمسمائة درهم للقنطار. زراعة «الكيف» تبدأ في أواخر فبراير ومطلع مارس، حيث يتم حرث الارض مرتين أو أكثر ويتم زرعها ببذور الكيف بعد أن يضاف إليها السماد. أغلب العاملين هنا من مستهلكي الحشيش والقلة القليلة يأتون للإشتغال لإعالة أسرهم جريدة «الاتحاد الاشتراكي» سبق أن التقت مع مجموعة من الشباب جاؤوا من مدينة قلعة السراغنة، يقيمون بالضواحي ويقدمون كل سنة للعمل «.. نأتي للإشتغال هنا كل سنة، مشغلنا يعرفنا تمام المعرفة ولانقف في الموقف ، نلتحق به مباشرة، كل شيء هنا مبني على الثقة ولاشيء غير الثقة، نقوم بتنقية الحقول بالرغم من أن الأجرة اليومية هزيلة ، لكن مع موسم النفض و«البريسا» فلكل واحد أجرته بحسب طبيعة عمله» هكذا علق أحد العاملين. بالنسبة لاستخراج مادة الشيرا ، أو ما يسمونه بعملية النفض ، فتتطلب يدا عاملة متخصصة تتراوح أجرتها مابين 100 و150درهما في اليوم، أما إعدادها على شكل عجين أو «البريسا» فأجرها يتراوح ما بين 200 درهم و 500 درهم لليوم بالقطعة من دون احتساب امتياز الأكل والمبيت. ليس بمستطاع أي كان العمل في مراكز التصنيع ، والذي يتطلب بالإضافة إلى التجربة والمهارة ، أن يحظى العامل بالثقة لدى المشغل ، وغالبا ما يشتغل فيها أبناء المنطقة الذين يحصلون على أرباح طائلة من وراء ذلك، نظرا لأن لهم خبرة في تصنيع أنواع الشيرا. هذه العمليات تتم ليلا، كما هو الشأن بالنسبة لعمليات النفض، بالنسبة لكثير من الحرايفية هنا. العمال الذين يقومون بهذه العملية أغلبهم رجالا ويشترط فيهم أن يكونوا يجيدون عمليات النفض للحفاظ على المنتوج، ويتقاضون أجرة يومية تتراوح مابين خمسين وسبعين درهما، حيث ينفضون مابين القنطار و القنطارين من المحصول في اليوم الواحد ويستخلصون منه مابين أربعة إلى خمسة كيلوغرامات من غبار الحشيش الذي تختلف جودته ، فالنبتة البورية أكثر جودة من النبتة السقوية، وكذلك الأمر بالنسبة لكميات غبار الحشيش المستخلصة منهما ، ثمن الكيلوغرام الواحد من الحشيش المستخلص بهذه الطريقة يتراوح مابين ألف و ألفي درهم يزيد عنها قليلا أو يقل بحسب قانون العرض والطلب. بالنسبة لشحن مادة الشيرا فإنه يتم إما عبر المنتجين أنفسهم أو عبر وسطاء يطلق عليهم اسم «العطارين» ، يقومون بجمع المحصول والتكفل بنقله بأنفسهم، الكل يجمع على أن المستفيد من زراعة الكيف بالدرجة الأولى هم كبار المضاربين والوسطاء والتجار والسماسرة، أما الفلاحون الصغار فإنهم يقومون بالزراعة والحصاد ، منهم من يقوم بالنفض وفي أحسن الأحوال يقوم البعض بتحويل الغبار إلى حشيش «الشيرا» وينتظرون قدوم العطارين لنقلها. شباب وكهول يقطعون مئات الكيلومترات مشيا على الأقدام ويتعرضون لحملة مطاردة ويتم نصب كمائن لهم ليس فقط من طرف قوات الأمن والدرك، بل كذلك من طرف قطاع الطرق الذين يسلبونهم بضاعتهم بعد مواجهات عنيفة قد تصل في أحيان كثيرة إلى حد وقوع إصابات خطيرة وأحيانا أخرى سقوط قتلى. الخوف من المفاجآت التي تحملها الطريق لهؤلاء يجعلهم يتحركون عبر مجموعات يحمل كل واحد منهم مايناهز الثلاثين كيلوغراما من البضاعة على ظهورهم، ينطلقون عندما يرخي الليل سدوله عبر ممرات يعرفونها حق المعرفة، قد يتيهون أحيانا لكن ليس دائما، يمرون في صمت عبر الدواوير، لايوقدون النار حتى لايثيرون الانتباه، البعض منهم استطاع أن يربط علاقات مع بعض شباب المنطقة الذين يساعدونهم في توفير مكان هادئ لهم للنوم أو الراحة أو استطلاع الطريق وتأمينها والمقابل كمية من الحشيش للانتشاء أو الاتجار فيها بالتقسيط. يقول أحد الحرايفية «.. لانخاف من السكان هنا، إنهم يتعاطفون معنا ، فنحن نعمل على توفير لقمة عيش ولا أحد هنا يعتبر أن مانقوم به حرام أو غير قانوني، ننام مع بداية تباشير النهار ، كل مرة في مكان ، قد يكون منزلا مهجورا أو عند أحد أبناء المنطقة أو تحت الأشجار في أماكن مختلفة، المهم هو أخذ قسط من الراحة لاستكمال المشوار في اليوم الموالي ، لكن الأهم هو الحرص على سلامة البضاعة». كم يتقاضى هؤلاء مقارنة بحجم المخاطر التي يتعرضون لها؟ لايتجاوز الأجر في أحسن الأحوال 800 درهم للرحلة، أجر زهيد مقارنة مع قيمة السلعة التي يحملونها : «ماعندنا مانديرو ، طرف الخبز هاذا ومالقيناش ما أحسن ». حكايات النقالة كثيرة وكثيرة جدا ، وهم يسردونها، يقطعون شريط الحديث بالقول «غير ربي اللي استر أو غير ربي اللي احفظ » لكثرة ماتعترضهم من مشاكل، يقول أحدهم «مرة فاجأتنا مجموعة من قطاع الطرق ونحن نيام في منزل مهجور، كنا أمام خيارين، إما تسليمهم البضاعة أو التصفية الجسدية كانوا أكثر عددا منا سلمناهم البضاعة على أساس إخبار رئيس المجموعة بالأمر، لكن ما أن نزلوا الوادي وحاولوا تجاوز أحد الدواوير حتى اعترضتهم دورية للدرك الملكي فألقي القبض على ثلاثة منهم بينما لاذ الباقون بالفرار وحوكموا بالسجن بتهمة حيازة والاتجار في المخدرات، أحد هؤلاء قطاع الطرق ، والذي تم التعرف عليه ، تم تلقينه درسا لن ينساه ، فبقاؤه على قيد الحياة لحد الآن يعتبر معجزة حقا »!! هؤلاء الحرايفية ، شأنهم شأن الفلاحين بالمنطقة والمتعاطين لزراعة القنب الهندي ، لا تكون حصتهم من هذه التجارة إلا بالقدر الذي يساعدهم على العيش ويوفر لهم مصاريف سنة كاملة . لكن من هم المستفيدون الحقيقيون من هذه التجارة والذين يتحول الحشيش بين أيديهم إلى ملايين الدولارات، بل ملايير الدولارات في الأبناك أو الخزائن السرية؟ أغلب «العطارين» يقومون بعملية شراء وتحويل «الحشيش» ويحتفظون به في منازلهم أو منازل الأكثر ثقة من أصدقائهم ، قبل أن تنقل إلى منزل «البزناس » الذي مول العملية منذ البداية ليتم تخزينه قبل تدبر أمر بيعه، لكن غالبا ماتكون البضاعة قد بيعت حتى قبل أن تصل، هناك طريقتان للتعامل في هذا الإطار، إما أن يشتري الزبون البضاعة في عين المكان ويتدبر أمر نقلها بمعرفته أو أن يتكلف «البزناس» بعملية نقل البضاعة إلى غاية الزبون ، سواء كان بالمغرب أو الخارج ، وكل شيء بثمنه! وهم لايتلقون ثمن بضاعتهم من الأموال إلا بعد مرور شهر أو شهرين عن التسليم.