حسن نرايس رجل لا يترك الكلمة للصدفة، لأنه يقتني بلاغته من أسواق الشعراء، ودكاكين الأدباء ، غربيين متنورين، وقبلهم عرب وفارسيون حملوا مشعل حضارة إنسانية عتيدة، فالرجل نهل من الشرق والغرب، ولا تقف له كلمة في زور، والدليل أسلوب كتاباته ، وبالخصوص ما نحن بصدده اليوم، (محطات باريسية) ، هذا الكتاب الممتع، الذي يمكنك أن تقرأه في القطار بين الرباط ومراكش، كما وقع معي، ولكن لا يمكنك أن تنسى لذة قراءته ما حييت. السي حسن هنا يسافر بنا إلى عوالمه الخاصة، إلى علاقاته الحميمية مع الأمكنة والناس، إلى عدم رضاه عن وضع بعينه، وتحدي هذا الوضع عبر مقارنته بأوضاع سليمة، إنها الذاكرة تتعرى لتضاجع المستقبل، وترفض الواقع المر، واقع الدارالبيضاء، الذي لا يحتمل أبنائه إلا تحت غطاء زائف، كما هو الحال في فيلم (كازا نيكرا) لنور الدين الخماري، وقبله فيلم (حلاق درب الفقراء) للمرحوم الركاب، فكل عشاق وأبناء هذه المدينة يكرهون زيفها، ويفضحونه عبر مقارنتها مع أماكن أخرى، وحسن هنا يتلهف لحرق الزيف الذي يخنق مدينته، ويسافر لجلب علب الكبريت من باريس. حب الناس والوفاء للأمكنة، هي الدرع الواقي، والرسم الباقي، في محطات باريسية، من معهد العالم العربي، إلى دار المغرب، وإلى الحي المحمدي، قلعة باحسن العتيدة، كلها وغيرها أماكن لاستراحة الذاكرة الشقية، ذاكرة العشق والهيام بكازا بلانكا، لأن المتفحص للمحطات الباريسية، يجد أن عشق البيضاء، والغيرة عليها، هو الحافز والمحفز لركوب ميترو المحطات، هنا تجد المرح والانطلاق، وهنا تجد السخرية من المسئولين ، كانوا حكاما، أو شعبا، لا فرق عند حسن، الكل يعلق من (كراعو) ، وتجد الشاعرية في وصف الجلسات، والأماكن الحميمية، وتجد الصرامة في تقريع كل مذنب في حق التطور والحداثة. لا يتهاون حسن في البحث عن اللغة، كما لا يتهاون في البحث عن الموضوع، يجتهد في العودة إلى متن سلفنا الجاهلي، كما يجتهد في البحث عن الأنوار في مدينة الأنوار، فتجد عنده الفرزدق وجرير والأخطل، كما تجد عنده خير الدين وشكري، وعندما أقول عاصمة الأنوار، لا أعني المصابيح يا بحسن، بل les lumières التي وجدها كل من قصد باريس، بعد الثورة الفرنسية، كرفاعة طهطاوي، وطه حسين، وعلي عبد الرازق، وغيرهم من السلف المتنور، رغم أن هؤلاء جاءوا إليها فزعا من نابليون، ليحاولوا إعادة اكتشاف القوة التي هزمتهم واستعمرتهم، أما أدباءنا ومفكرينا، لم يذهبوا بهذه الخلفية، بل بخلفية تطوير الذات من الخارج المتنور، ولم تسرقهم الدهشة من المكان، بقدر ما ملئوا المكان بالدهشة. شكرا لك أخي حسن نرايس على إمتاعنا بهذه المحطات، وسنبقى معك وسط الميترو، إلى أن تقلنا إلى محطات قادمة، ولنا لا بعد أن تقرر الطرامواي في كازا، تسافر بنا عبر محطات كازاوية.