1. يسمّيها المشارقة، بخاصّة اللبنانيّون والمصريّون، «عاصمة النّور» باعتبارها، تاريخيّا، امتدادا مكمّلا لعصر الأنوار قبل الثورة الفرنسية وبعدها. هنا تحْضر رموز الفكْر والفلسفة والفنّ: مونتيسكيو، ديدرو، ديكارت، موليير، راسين، ناهيك عن الرموز الثقافية الأخرى التي برزت في بداية القرْن العشرين: أندري جيدْ، فرانسوا مورياكْ، مالرو، كوكتو، سارتر، ميرلو بّونتي، وغيْرهم من الأسماء اللاحقة قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها. أما المغاربة، فهي جزء لا يتجزّأ منهم ومن ذاكرتهم التاريخية باعتبار أنّ عامل فترة الحماية كان كافيا لكي يخضعَ الجسد المغربي لتأثير الجسد الفرنسي ويصبح المغرب مجرّد تابع لا غيْر. ألمْ يذهب السفير ابن عائشة إلى باريس، في القرْن السابع عشر، ليطلب يد ابنة الملك لويس الرابع عشر لمولاه إسماعيل الذي قطعَ يديْ ورجليْ ابنه من خلال لأنه تمرّد على أبيه الدّيكتاتور في تافيلالتْ؟ لقد وظّف الفنان الطّيّب الصديقي هذه الحكاية الطريفة والمضحكة في مسرحيته الرائعة «خُلقنا للتفاهم». هذه هي باريس التي يعرفها المغاربة أكثر من المشارقة زنقة بزنقة، شارعا بشارع. فبغضّ النّظر عن اليد العاملة المغربية التي «اسْتوطنتْ» فرنسا بعد الحرب، ثمّة أجيال متعاقبة من الطلبة والأساتذة ممّن تكوّنوا في رحاب جامعاتها، تجّار سْواسة، أصحاب مطاعم. 2. كتاب «محطّات باريسية» لحسن نْرايس هو إضافة أخرى إلى كلّ ما كُتب عن باريس، سواء من طرف الفرنسيين أو غيْر الفرنسيين. ثمة محطات وأماكن معروفة تزخر بها هذه المدينة التاريخية التي تغري زائرها لأوّل مرّة بالتّماهي معها ومع فضاءاتها الشاسعة: مقاهي، مطاعم، متاحف، مسارح، رموز ثقافية وفنّية تؤثّث المشهد الثقافي الباريسي العامّ، مغاربة عابرون وقارّون في أرجائها يتلذّذون بجسدها الأنثويّ الممتدّ عبر الساحات والملاهي الليلية، عبر الحدائق والكنائس. هنا محمد خيْر الدين، الشاعر العصفور المقيم في فضاء «الموفتار» بالمقاطعة الخامسة. هنا عبد الله العروي، عبد الكبير الخطيبي، الطاهر بن جلون، أحمد الصّيّاد، محمد بودرار (موسيقيّان) الكاتب الكبير محمد زفزاف، محمد شكري، رشيد الصبّاغي المقيم الدائم، جعفر الكنسوسي إلخ. لقد قضى حسن نرايس، في باريس، أكثر من عقد ونصف من الزمن، طالبا ومقيما مع عائلته السوسية لخْصاصيّة، ومن ثمّ دالفا إلى فضاءاتها الثقافية والفنية. هكذا ينقلنا إلى مكان إلى آخر عبْر الأزقّة والشوارع والمحطّات. كُتب الكثير عن باريس، هذه المرأة المُغرية بالاكتشاف وبالانبهار، تارة بأسلوب صحفيّ ساذج ومتهافت، عند بعض الصحافيّين العرب، وتارة أخرى بأسلوب شيّق وممتع، كما عند رفاعة الطهطاوي في كتابه الشهير «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، في ثلاثة أجزاء، دون أنْ ننسى توفيق الحكيم في «عصفور من الشرق»، واللبناني سهيل إدريس في روايته «الحيّ اللاتيني». في هذيْن الكتابيْن، بغضّ النظر عن رحلة الطهطاوي، نحن أمام ثنائية الشرق والغرْب. لكن كتاب «اكتشاف باريس»، لباهي محمد، يبقى أهمّ كتاب، في نظري، من حيث عمقه التاريخي لمدينة بودلير وسارتر التي ألهمتْ كبار الكتّاب. 3. في كتاب صغير جدّ ممتع بعنوان «عيد متنقّل لباريس»، لإرنست هيمنغواي، ينقلنا صاحب «الشيخ والبحر» إلى باريس عشرينيات القرن الماضي، لنتجوّل معه في المقاهي والمطاعم والحانات والشوارع: سان ميشيل، سان جيرمان، المكتبة الأمريكية، الكائنة به، سكوتْ فيتزيجيرالْدْ، صاحب «غاتسبّي العظيم»، زوجته السّكّيرة زيلدا، الأمريكية الصالونية جيرترود شتايْن. إنّ لهيمنغوايْ قدرة إبداعية كبيرة عندما يتحدث في كتابه عن أنواع الأطعمة والأشربة الرّوحية ذات الجودة النوعية. هنا أيْضا عاش جبران خليل جبران صحبة عشيقاته الفرنسيات، بيكاسو، ماتيس، مودلياني، ثمّ الحركة الفنية الانطباعية والتعبيرية. ومن خلل قراءة «محطات باريسية» سوف يتبدّى لنا أنّ حسن نرايس كتب كتابه بكلّ حبّ وعشق بأسلوب أقرب إلى الشفهيّ منه إلى المكتوب. هكذا تحضر الدارالبيضاء في باريس.