الكتاب عبارة عن مقالات كتبت منذ فترة وأعاد الكاتب نشرها. وهي مقالات صحفية طابعها التذكر وتصوير لحظات خاصجة مصحوبة بتأملات وأحكام. وهو مرسوم بلغة بسيطة، لغة الصحفي، فيها بعض المفردات الدارجة التي تروق: كالسلاتين، مقطوعة من شجرة، يتكركبون، وخيره سابق على كل حال.... وهي أساسا مقارنة صادمة بين الهنا و الهناك. على شاكلة الرحالة القدامى يحط الكاتب عينه على كل كبيرة وصغيرة مقارنا إياها في كل لحظة بما يماثلها عندنا، وهي مقارنات لا تغيب عن أي مقال. نجدها عند كل خطوة يخطوها، في كل ساحة يعبرها أو باحة يدخلها: مصحات باريس ومصحاتنا الفاسدة حيث الأطباء يتهكمون علي زملائهم. قاعات »بلاص كليشي وسنيما شريف أو سنيما السعادة. حدائق اللوكسومبور وحدائقنا. التلفزة الفرنسية ونظيرتها المغربية. الجرائد، نشرات الأخبار، ملاعب كرة القدم، الدعارة.. حتى عندما يصادف في الطريق صيدلية اسمها صيدلية الفنون فلابد أن تذكره بصيدليات الحي المحمدي ذات الأسماء المبتذلة. ربما أراد المؤلف من الترديد المقصود هذا أن يشير إلى أننا أمام التيمة الأساسية للكتاب. كأنما يذهب إلى باريس ليتذكر الدارالبيضاء أو يحل بالدارالبيضاء ليتذكر باريس في غدو ورواح يشيران إلى الطريق التي سيسلك الكاتب. والكتاب مجموعة مقالات عن حياتنا الاجتماعية والسياسية،. شأن اي صحفي. فالكاتب مهموم بما يدور حوله: لحريق، حياة السجناء المغاربة في المهجر ومعاناتهم قبل وأثناء وبعد السجن. وفي هذا الصدد يكون النقد اللاذع للمؤسسات والمسؤولين عنها الذين يلعبون بحياة المواطنين دون وازع أخلاقي ودون الحد الأدنى من المسؤولية، يكون هما إضافيا من هموم المؤلف. وهو كتاب عن الحنين، ترشح من بين صفحاته نوسطالجيا أسيانة وصادقة للحظات مرت ولن تعود. وصفه للحظات الباريسية وصف قلق، حزين، مليئ باللوعة والحسرة. المقهى والبار والشارع والحديقة والمارة، كلها ترشح منها في لحظة من اللحظات هشاشة ما. هشاشة الأمكنة قبل أن تندثر تحت معاولزحف البشر والحضارات. يرمي الكاتب خطاه في دروب باريس قصد الإمساك بهذه اللحظات المنفلتة والأمكنة الآيلة الى الزوال. باريس الحبيبة، مدينة الجن والملائكة.. هناك حنين طاغ لأمكنة مألوفة ولأشخاص عرفناهم وعاشرناهم وأحببناهم وخاصمناهم: مغنون طربنا لهم، ممثلون ضحكنا بهم. كتاب مايزال رحيق عشرتهم يسري في الدم. محمد شكري، محمد زفزاف، خير الدين، الطاهر بن جلون.. دون أن ينسى الكاتب لحظات مثيرة واستثنائية جمعت بين هؤلاء في غربة قسرية قاسية والعلاقات الودية أحيانا والعاصفة أحيانا أخرى التي ألفت بينهم. تساءلت مع نفسي هل سيجد القارئ نفس المتعة وهو يسترجع الوجوه والصداقات والضحكات ولحظات العتاب كما استرجعتها وأنا أقرأ الكتاب؟ هؤلاء الكتاب والشعراء والمغنون عرفناهم. لكن يخصص الكاتب حيزا مهما و جميلا لأشخاص لم نعرفهم. جيل من الغرباء عبروا أزقة باريس. عاشوا مشردين عزلا وماتوا وحيدين. هناك شخص اسمه العشرة لمعاشرته كل أشكال البشر. وهناك البهجة البهيج في عز بؤسه. وهناك ذلك الرسام الذي علق عوده على الجدار لما أصاب يده العطب. وكان آخر حلمه أن تنقل جثته إلى بلده في صندوق محترم. كتيبة من التعساء الطيبين. مروا في حياة الباريسيين يقهقهون ويطلقون النكات ويتكركبون في أدغال باريس وهم يتفرجون على بؤسهم الفادح دون شكوى. وهو أيضا وأخيرا كتاب عن الحب. فحسن نرايس لا يكتب إلا عن الأشخاص الذين يحب. ومن هذه الزاوية بالأساس نطل على الكاتب. وراء السطور نرى شخصه. خلف استرجاعه لصور الغائبين نعثر عليه. بدون استغراب. ودون مفاجأة نكتشف الرجل، حسن الإنسان السخي، البشوش والمحب للآخرين والصادق في حبه لهم.