هل كان كافكا يستطيع أن يتآمر على أحد غيره؟ كان كافكا يكتب كإنسان مقتول، ولم يكن يعش أبدا في نزهة مع ما يكتبه، بل كان يدرك أن الشمس النائمة في السماء لن تشرق على الأرض، وأن المطر «انمسخ»، قبل الهطول، إلى ثعابين وعظايات وجرذان.. إن كتابة كافكا تنهض أساسا على إستراتيجية الالتفات الدائم إلى الحرب المخبأة تحت جلده مع الأب، تلك السلطة الجامحة التي لا يمكن التغاضي عن أرواحها الشريرة. وحتى ينجح هذا الالتفات الشبيه بحفرة تملؤها الجماجم، كان كافكا يغادر كل يومه صباحه المسيحي ليكتب يومياته الممدة في مصطبة داخل معبد وثني قديم. إن هذا النوع من الكتابة (اليوميات)، عكس ما يوحي به من اطمئنان، شبيه بمحضر بوليسي طوعي يتمتع، أحيانا، ب»الوحدة السعيدة»، يبدع فيه كاتبه فردانيته المخنوقة بالآخرين ووجوده المغتال في إكراهات الذوبان في الجماعة. إنه تاريخ الحيثيات والتفاصيل والتلصص على الذات وإعادة تنظيم رغباتها وتسجيل إحباطاتها في نوع من المكاشفة المرآوية الخادعة. وهو، بالإضافة إلى ذلك كله، احتيال على الاختلال الذي يُحدثه ذلك التصادم المباغت مع كتلة زمن متحجرة؛ فمن الأكيد أننا حين نكتب اليوميات نبدي آراءنا في العالم، نقولها بشفافية، بدون خوف، لأننا نعتقد أن لا أحد سيطلع عليها. وإذا تم الاطلاع عليها، فإننا سنبدو منافقين، وأبشع من القردة. إننا أمام الآخرين نحب القناع، بينما في اليوميات فإننا نحب الانكشاف فنسمي الأشياء بما يلزمها من نعوت وأوصاف. اليوميات مكان نلوذ إليه بأنواتنا فقط. ومع ذلك، وفي كثير من الأحيان، تكون هذه الأنوات ملوثة بالآخرين وبتفاصيل الحياة الخارجية. كاتب اليوميات رجل (أو امرأة) يبحث عن العزلة في الطبيعة وحتى في خضم المجتمع. والعزلة، بالنسبة لهؤلاء الباحثين عنها، تخلق دائما مجال الصمت والحرية، حيث يمكن للذات أن توجد بقوة وعنف. إنها تتيح حالات الحلم والتأملات ومحاسبة الذات، وتضع الغارقين فيها في مواجهة فراغ الداخل ودوخة الخارج. لقد كان كافكا حادا مع نفسه مثلما يحقُّ للسكِّين أن يكون حادًّا مع قطعة اللحم الطازج، ولهذا جاءت أعماله أشبه بمرافعة تدافع عن «الشر» الذي يتكاثر كالأرانب في مزرعة الأدب. كان يرافع أمام وساوسه الهائلة والشرسة مثل ضواري أدغال إفريقيا من أجل أن يكتسب شخصيته، ويتبارى كمصارعي الكولزيوم اليائسين والمدججين بالسلاسل مع شخوص يتعاملون معه كجلادين أو على الأقل كحراس ينحدرون من سلالة المردة والشياطين. إن كافكا يشتغل على الأدب كأنه في مواجهة مفتوحة مع العدم. من هنا، فان بطل كافكا ليس «إنسانا سردابيا»، ولا سجينا إراديا، وإنما هو «متهم حر» يتسكع في عالم المغالاة الذي لا يجدي المرء ان يكون طوافا في أرجائه. بعبارة اخرى، إنه عالم البعد الرابع الذي لم تعد تلعب فيه المعايير والقياسات اي دور، كما انه لم يعد بإمكان الانسان في هذا المعتقل الكوني ان يحدد موقفه من الخير والشر. لذا، فان قلقه يتولد من هذا التردد ومن عدم قدرته علي قياس نفسه مع الآخرين وتحديد وضعيته تجاه القيم الاخلاقية.