استطاع عبد الفتاح كيليطو بجدارة أنيقة أن يتحول إلى ساحر يحول كل ما تقع عليه عيناه في التراث العربي إلى فراشات من ضوء. ولعل من أجمل ما علق بين يديه الذكيتين الكتابُ الغريق، والكتاب القاتل، والكتاب المحرم، والكتاب الملعون، والكتاب المسموم.. وغيرها من الكتب التي تمسخ، والتي تتحول إلى حقول قمح وبساتين فاكهة، والتي تخرج من حبرها شياطين كالأطواد، والتي تصطخب كالأمواج، والتي تأوي غابات وضواري وفخاخ.. ومع ذلك، ففي عمق مياه كل روح قلقة كتاب نائم ينتظر من ينتشله، مثلما انتشل عبد الله البحري، في «الليالي»، قدرا لآخر لحياته التي كانت تهتبلها الأسماك بالدرجة نفسها التي كانت تفترسه الفواجع والانشغالات. هذا الكتاب النائم يفركل في رأس كل واحد منا، يستفزنا ويحرض أقلامنا على إخراجه من حصار الجدران المضروب عليه، بعدما ابتكر له كسلُنا المعتق نعشا باردا مدججا بالأختام؛ هذا الكتاب ليس هو كتاب برادة الهارب، لأنه لم يتدثر بعد بحمى الفرح، ولم يتعر بغزارة، ولم ينسل من «بيت النعاس»، ولم يصرخ كصبي حديث الولادة، ولم يفتح دكانا لتوزيع الحب بدل السجائر، ولم يستحم في أي بحيرة كالحة.. هذا الكتاب يحمل قلب عاشق لا يستطيع تسديد طلقة نحو الأنوثة، لكن بإمكانه أن يمسح- وهذا مدهش للغاية، ومثير للريبة أيضا- كل المشانق العمومية بلسانه الملتهب. كتاب يميل كل الميل إلى عقوبة الإعدام، ويسعد كلما لمح رأسه تتدحرج كقطيع من الوعول لم ينج من مجزرة.. الكتاب الذي نتحدث عنه ليس كتابا يطل على الشارع، بل على المقبرة.. لا يغلق عينيه إلا بعد أن يغلق النوافذ والأبواب بإحكام إصبع صياد متأهب على زناد بارودة. كتاب غزير، لكنه مصفد وموثوق إلى نقالة موتى، ومثبت على مصطبة بدبابيس من جمر. كم من كتاب نائم في العقول، قبل أن ينام في الأدراج والأوراق وأحراش العمر المهذبة.. كم من كتاب نائم في أحلامنا قبل أن يحترق بالصراخ المذهل الذي تسدله علينا الصلوات الخمس وحبوب الكورسيدين! كم من كتاب نائم لأننا نخاف من أن تمتلئ أيادينا بالمسامير والبراكين الميّتة. نخاف من الحاكم، ومن الفقيه، ومن الناس الطيبين الذين يعشقون رائحة القرنقل الأسود مثلما يعشقون رائحة الدم المحترق، ومن عذاب جهنم، ومن إعراض الموتى في كهفهم المظلم.. كم من كتاب نائم، لأننا لا نتجرأ على الطغاة بالدرجة نفسها التي نشوي الأرانب المسلوخة، مثلما لا نتجرأ على الانقياد إلى الزمهرير كفأرة وجدت نفسها في مواجهة صعبة مع مصيدة الريح.. من الممكن أن ننتج كتبا لا تحصى لو باغثنا خوفنا برصاصة واحدة. آنذاك سيتحول الثقب إلى قطعة كاتوه، وسيتحول كلاب الفزع إلى مكتبة واسعة تنظر بشراهة إلى أفقنا الحضاري البعيد، وتحت إبطها الدافئ يجري نهر أزرق من الحكايات والسير والقصائد وكتب العلوم والفلسفة والمسرح.. كم من كتاب ممكن، لكنه يعلن انحيازه للأرض التي تعوي فيها، عوض الكلاب، حقولُ الإجاص. كتاب يحتاج إلى يدين معجونين بالحشرات السامة عوض أن تكونا مطليتين بالفازلين.. ذلك الكتاب الذي ظل يكتبه لويس خورخي بورخيس دون أن ينهيه، ليس لأنه عديم الفائدة، بل لأنه أدرك مبكرا بأن تاريخ الأدب مجرد انتشال لكتب نائمة في مكان ما. إن هذا الاكتشاف الرائع هو ما جعل بورخيس أكثر إثارة للاهتمام ضمن ما نسميه تاريخ الأدب، ذلك لأنه ظل يشتغل دون أن يدعي أنه يحمل شيئا جديدا. فهو يعمل على استعادة اكتشافات وابتكارات تمت على امتداد تواريخنا الأدبية، وذلك بهدف إعادة نشرها، وتمكيننا من اكتشافها وهي مفتوحة الحواس في تركيبات مختلفة. لقد كان الأدب، قبل أن يعي ذلك بورخيس ومعه آخرون من أشرس أنبياء الأدب، مجرد أرخبيل متعدد الجزر يلجه القراء الذين ما إن ينهوا جولة حول جزيرة،حتى يقفلون راجعين بهدف اكتشاف جزيرة أخرى، وهكذا دواليك دون أن يحققوا ذلك الامتلاء الشامل. إن بورخيس هو الذي جعلنا ندرك أن كل الكتب تنتمي إلى السرير المائي نفسه. وبذلك نجح في استعادة استعارة قديمة، وهي القائلة بأن العالم مثل كتاب نكتبه.. وما عسانا إلأ أن نبسط له سجادة الزمن البارد ليعبر باطمئنان..