ضمن كل تشكيليي مراكش، له سيرته الفنية الخاصة، التي لا أشباه لها، مرجعيات ورؤى وأثرا فنيا.. صلاح بنجكان، ابن مدينة يوسف ابن تاشفين (وأيضا زينب إسحاق النفزاوية)، هو من جيل مختلف ضمن مدرسة التشكيل المغربية.. مختلف عن جيل الرواد الذي سبقوا جيله، بأسمائه الوازنة المؤثرة (المليحي، بن يسف، الهبولي، القاسمي، شبعة، المكي مورسية، الشرقاوي، الصلادي، الغرباوي، الحريري، الملاخ، رحول... وغيرهم كثير)، ومختلف أيضا ضمن مرجعيات التشكيل المغربي، خاصة مدارس تطوان والدارالبيضاء ومراكش والصويرة، حيث لكل واحدة منها شجرة أنسابها المعرفية، فنيا وفكريا وخيارا وجوديا.. وتبقى مراكش، بثقل تاريخها، ببنية إنتاج المعارف فيها، بشكل العلاقات المتدافعة بين شرائح مجتمعها المراكشي الخاص، تبقى ذات بصمة ولون خاصين.. وهذه الخصوصية، منها صدر صلاح بنجكان، بل وضمنها سعى أن يرسم لنفسه فنيا، مسارا إبداعيا خاصا، مما أكسب لريشته أثرها المميز، كونها تترجم رؤية ذاتية فنية مميزة، لا أشباه لها ضمن منظومة أشكال التعبير الفني التشكيلي المغربي. وبعد مرور أكثر من ربع قرن، على بداية بروز ذلك الأثر الفني الخاص به، يمكن الحديث عن تصنيف لصيرورة تلك الإبداعية الفنية التشكيلية المراكشية لديه. والتي بلغت اليوم مرحلتها الثالثة الكبرى، بعد مرحلتي الحبر الأسود البكر، واللون الجنوبي الضاج في محاميل إبداعية يومية عدة، التي تقطر بحضورها المشهدي اللوني في متاجر وساحات مراكش القديمة، في السمارين والعطارين وجامع الفنا.. وهما مرحلتان، كان فيهما لأثر المخزون البكر للضوء في ذاكرة الطفل الذي كانه هناك، في ما يشبه الفيض، منذ رأى النور بمراكش سنة 1968، بصمة واضحة. واليوم، من خلال أعماله الجديدة (التي نقدم بعضها هنا في هذه الصفحة)، ثمة وعي فني جديد يعلن عن نفسه في مسار صلاح بنجكان، مختلف عن ما سبق. فنحن هنا، أمام ما يمكن وصفه ب «ذاكرة اليومي».. أي أمام انتباه الفنان لقيمة الزمن في الوجود العابر للحيوات وأبطالها.. وهي هنا حيوات مراكشية خالصة، وزمن مراكشي صاف.. ومعنى الإحساس بالزمن، لا تعكسه فقط الأشكال المؤطرة في اللوحة، بل أيضا الألوان القوية التي لم يعتد بنجكان استعمالها من قبل.. وهو ما يسمح لنا، بتأويل يذهب في اتجاه قلق الفنان أمام ذلك الوجود العابر لتلك الحيوات وأبطالها.. ثمة أيضا، تمجيد للمكان، من خلال ملامح الشخوص (الإناث أكثر)، الذين يحضرون كلون متراكب، يحيل على ألوان الجنوب المغربي، تلك التي تضج بها ساحات مراكش ومناسبات احتفالياتها المتعددة، حيث القرمزي يجاور الأصفر، والأزرق يجاور البني الفاتح، وحيث العقيق ينساب كما لو أنه ينطق بحكايات الإناث في احتفالية حياة. ثم تمة انتباه، للعجلة، تلك التي تدور في يومي الناس، وتلك التي تدور أيضا كبيرة في طاحونة الزمن. ولا ينتبه المرء كثيرا، من يركب الآخر: هل الآدمي الذي يركب الزمن، أم إن الزمن هو الذي يمر سلسا، عبر ركوبه الآدميين، كي يعبر، في متوالية لا تنتهي، من جسد إلى جسد، من حلم إلى حلم، ومن رجاء إلى رجاء، ومن وهم إلى وهم.. فتنجلي في لحظة انخطاف، يأخدنا إليها الفنان، حقيقة مأساتنا جميعا كبشر عابرين، في علاقتنا بالزمن، فيما تبقى العجلة تدور وتدور.. وفي هذا التأمل الذي يأخذنا إليه اللون، وتقنيات الصباغة، وتراكب الألوان والأشكال، وضبابية الملامح، وهندسة الفضاء العام (للوحة وللحياة)، نستشعر ذلك الأثر التليد لمراكش كثقافة سلوكية، كرؤية مؤطرة للحياة، كترجمان آخر لأثرها ضمن المدرسة الفنية التشكيلية المغربية.. ها هنا، نكون أمام سطوة المعشوق على العاشق، ذلك الذي ظلت تمارسه مدينة سبعة رجال، على أبنائها وزوارها، الحاملين لرؤية فنية، الغارقين في حساسية متنبهة للتفاصيل، تلك التي يهبها الضوء ورائحة التراب وما ينبت من الأرض (نخلة وشجرة وجبلا.. حائطا وبابا ولباسا).. فكانت تلك السطوة العاشقة هي التي أعطتنا ماجوريل واحد، وأعطتنا لوحات تشرشل واحدة، وأعطتنا ملاخا واحدا، وأعطتنا إلياس كانيتي واحد، وأعطتنا أحمد بنسماعيل واحد، وأعطتنا صلاح بنجكان واحد.. والواحد هنا ليس بمعنى الذات الفردية، بل بمعنى الرؤية والأثر. وهذا هو ما يحقق عميقا معنى المتعة، لأننا دوما نكون بإزاء المفارق الخاص، الذي لا أشباه له.. لا أشباه له في أثر العشق، ولا أشباه له في التعبير عن ذلك العشق للمكان والشخوص والفضاءات والألوان.. وهذه قوة مراكش ومن خضمها تخرج لنا قوة عمل فني رفيع من قيمة ما ينجزه صلاح بنجكان...